النظام الرأسمالي... على حافة الانهيار...؟

بدء بواسطة د.عبد الاحد متي دنحا, مارس 23, 2012, 10:46:52 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

د.عبد الاحد متي دنحا

النظام الرأسمالي... على حافة الانهيار...؟

يشهد العالم الغربي حالياً (أمريكا والعديد من الدول الأوروبية) أزمة اقتصادية كبيرة وأصبحت ككرة النار تحرق الجميع، وككرة الثلج أيضاً كلما تدحرجت كبرت، ولا ينفك قادة هذه الدول عن توجيه النصائح المكررة والمملة لدول العالم الأخرى في كيفية ترشيد إدارتها وزيادة الرفاهية الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان وتعميم نمط لعبة الديمقراطية... وينسون أو يتناسون المظاهرات الشعبية الناجمة عن تراجع معدل النمو الاقتصادية وزيادة حالات التهميش الاجتماعي وغيرها من (الحرائق المالية في عقر دارهم) في شارع وول ستريت وشارع المال في بريطانيا وانهيار اليونان وغيرها، ولا تزال الأزمة ترخي بظلالها. وأمام هذه الأزمة وتضخمها من يوم لآخر بدأ الاقتصاديون الغربيون يبحثون في بطون الكتب والمراجع الاقتصادية علّهم يجدون حلولاً لمشاكلهم، ونسوا أو تناسوا أن هذه المشاكل مرتبطة بطبيعة نظامهم الاقتصادي القائم على الاستغلال والظلم وتوريق الاقتصاد والابتعاد عن الاقتصاد الإنتاجي وكأن (الرأسمالية تقتل الرأسمالية والرأسماليين؟).

فقبل عدة أشهر شهدت أمريكا تحركات شعبية واسعة، بدأت في نيويورك وامتدت إلى العديد من الولايات الأمريكية الأخرى، تحت شعار ''احتلوا وول ستريت''، وقد قرر المنظمون لهذه الحملة التوجه من مختلف الولايات الأمريكية إلى نيويورك سيراً على الأقدام، رغم المسافات الشاسعة التي قد تزيد عن أربعمائة كيلومتر، في بعض الحالات. وهذا التحرك الشعبي بهذه الكثافة والسعة يعكس الشعور بخيبة الأمل من الطبيعة الظالمة للنظام الرأسمالي، وما يسببه من كوارث اقتصادية واجتماعية، بخاصة بعد تحوله إلى ''رأسمال مالي''، فهذا التطور ـ أي رأس المال المالي ـ انعكس انتشاراً للبطالة بين صفوف العمال، وازدياداً لنسبة الفقر بين طبقات المجتمع الدنيا، يظهر مدى تجذر الأزمة المالية التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي ـ والأمريكي بوجه خاص ـ في ضوء الأرقام الصادرة عن مؤسسات إحصائية ومراكز بحوث متخصصة أمريكية، والتي تشير إلى أن نسبة البطالة في المجتمع الأمريكي 9 في المائة، أي بحدود 27 مليون عاطل عن العمل، ونسبة من يعيشون تحت خط الفقر تصل إلى 16 في المائة، أي ما يقارب 49 مليون نسمة، أما الديون الخارجية المترتبة على الخزينة الأمريكية فتبلغ 14.6 تريليون دولار، منها ما يقرب من 800 مليار دولار للصين فقط. هذا على المستوى المالي، عدا الخسائر البشرية من قتلى وجرحى ومعوقين في صفوف القوات الأمريكية في المناطق الساخنة التي تخوض فيها أمريكا حروباً عدوانية في أفغانستان والعراق، وفي مناطق أخرى من العالم.

فجوهر النظام الرأسمالي يقوم على أساس تحقيق ''الربح'' لإحداث ''تراكم كمي'' في رأس المال، فليس هناك أي مشروع أو معونة خارجية تقدم للدول الأخرى ـ عدا الكيان الصهيوني ـ لا تخضع لقانون الربح، ولعل تصريح ''دين راسك''، أحد الرؤساء السابقين للبنك الدولي، يؤكد هذه الحقيقة، إذ يقول ما نصه: ''إن كل دولار يخرج من الولايات المتحدة يجب أن يعود ومعه دولاران''، ولا بأس من اتباع كل الأساليب، بما في ذلك الحروب والابتزاز لتحقيق ذلك. فالخيبات والانتكاسات التي مني بها الاقتصاد الأمريكي من منظور الخبير الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد ''جوزيف ستيغلتز'' (تبدو وكأنها صحوة أليمة لدعاة الحلم الأمريكي... والجدير ذكره، في البداية أن واشنطن استفادت من الوضع الخاص للدولار لتبسط سلطة غير متناسبة قياساً بقدراتها الاقتصادية الموضوعية. ولغاية الآن نجحت أمريكا عسكرياً في ردع أي احتجاج على إيراداتها. ويبدو أن موقفها بات من الآن فصاعداً في موقف صعب الدفاع عنه، سواء أكان من الناحية الأخلاقية أم العسكرية. وضمن هذا الإطار جاء الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن مثل دعوة للعودة إلى مبدأ الواقعية. وبالتالي لا مفر من إجراء عملية إعادة التوازن).   

أما في القارة العجوز، فالمفارقة لا تكاد تصدق للوهلة الأولى. أوروبا الغنية مهددة بالفقر والتهميش الاجتماعي. ففي عام 2011 تفاقمت الأزمة المالية والمصرفية في أوروبا إلى أن تحولت إلى أزمة ديون سيادية، وانتهت المشكلة التي بدأت في اليونان، إلى إثارة الشكوك حول قابلية اليورو للبقاء، والاتحاد الأوروبي ذاته، وبعد مرور عام لا تزال هذه الشكوك الجوهرية على حالها. ولكن إذا قارنا بين الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة أو اليابان (حيث يعادل الدين العام 200 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، فسيتبين لنا أن الصورة الهزيلة الحالية للاتحاد الأوروبي غير مبررة، فضلاً عن ذلك فإن تجارة الاتحاد الأوروبي مع بقية العالم أصبحت على المحك. ومن بين أسباب التشكيك في اليورو والاتحاد الأوروبي أن زعماء أوروبا كانوا منذ ربيع عام 2010 يهرعون من قمة أزمة طارئة إلى التالية، وفي كل مرة يستنبطون حلولاً مفترضة لم تقدم إلا أقل القليل، وكانت تأتي دوماً بعد فوات الاوان. والواقع أن زعماء أوروبا لم يستغلوا بشكل كامل قوتهم الاقتصادية والسياسية، بل إنهم استمروا على استسلامهم لحصار الأسواق المالية لهم بدلاً من ترويضها كما كانوا يعتزمون ذات يوم. ولا ينبغي أن نندهش بأن الأسواق المالية، في ظل ضيق أفق الحكومات الوطنية الذي يعوق العمل المشترك على مستوى الاتحاد الأوروبي، تلجأ إلى ما تعود الشيوعيون على وصفه ''بتكتيكات السجق'' لتقسيم الاتحاد إلى شرائح بمهاجمة أعضائه الواحد تلو الآخر. والواقع أن البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية أصبحا على الهامش، في حين ظهر نموذج جديد لإدارة أوروبا: حيث تتخذ ألمانيا القرارات، وتنظم فرنسا المؤتمرات الصحفية، وتومىء بقية أوروبا بالموافقة (باستثناء البريطانيين الذين اختاروا العزلة مرة أخرى). وهذه البنية الإدارية غير مشروعة ديمقراطياً وليس هناك في أدائها ما يبرر استمرارها (حيث يبدو هذا الأداء وكأنه يتألف من مجرد ردود فعل للضغوط التي تفرضها الأسواق المالية). وطبقاً لبعض التقديرات، فإن أوروبا بحلول عام 2050 لن تنتج سوى 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ولن تضم أكثر من 7 في المائة من سكان العالم، وآنذاك لن يكون حتى حجم اقتصاد ألمانيا كبيراً على الصعيد العالمي، ناهيك عن الاقتصادات الأوروبية الأخرى. وفي عام 2012 وفي حين من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 2.5 في المائة فقط، فإن المعركة على الحصص في الكعكة العالمية ستصبح أكثر شراسة، والواقع أن أوروبا تكافح من أجل البقاء على الصعيد الاقتصادي، ولكن يبدو أنها لم تدرك هذه الحقيقة.

والذي يدعو للتساؤل حقاً، لِمَ يجمع القادة الأوروبيون على إنكار الواقع بمثل هذا الإصرار؟... وعلى وجه التحديد يبدو الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة آنجيلا ميركل غير قادرين على الاعتراف بخطئهما في التعامل مع هذا الأمر، فهم لا يزالون مفتونين بإغراء الفكرة غير المنطقية القائلة بإمكانية محاكاة أي بلد أوروبي للنموذج الألماني دون المرور بعقود من الاستثمارات الحكومية العامة ومعدلات التبادل المنخفضة نسبياً والتي كانت من أهم عوامل نجاح ألمانيا. كما يبدو، فإن السيدة ميركل مصرة على العمل كسمسارة للناخبين الألمان الذين يعتقدون أن المعاناة هي الطريق الوحيد الكفيل بتأديب اليونان ودول جنوب أوروبا الأخرى على ما أقدموا عليه من تبذير لأموالهم.

فألمانيا الحالية بعيدة عن أن تكون مثالية، كما هو ملاحظ، مثلها في ذلك مثل أي دولة كبيرة في أوروبا ولكنها مع ذلك أفضل ألمانيا عرفناها على الإطلاق. فجمهور ''ميركل'' في برلين هو ألمانيا الاوروبية، بنفس المعنى الثري الإيجابي الذي استخدمه الروائي الشهير ''توماس مان'' حين قال: ''ليس من أجل أوروبا ألمانية، وإنما من أجل ألمانيا أوروبية''. فليس هناك أحد في الوقت الراهن يستطيع أن ينكر أن ألمانيا هي صاحبة الأمر والنهي في منطقة ''اليورو''. والأغرب أن المستشارة الألمانية تحدد للناخبين الفرنسيين الآن لمن يجب أن يمنحوا أصواتهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة، من خلال الظهور المتكرر في عدد من فعاليات الحملة الانتخابية لساركوزي، ولعل العلاقة الوثيقة بين ميركل وساركوزي هي التي دفعت الجميع في أوروبا للقول بأن أوروبا الآن يحكمها بالتساوي تحالف ''ميركوزي'' بينما إن الأقرب للحقيقة هي أن الذي يحكمها هو ''ميركيلزي'' أي أن ميركل هي التي تضطلع بالنصيب الأكبر في الحكم، بينما لا تترك لفرنسا سوى نصيب ضئيل. والمشكلة كما يراها المحللون والقادة الكبار هي أن ''ألمانيا أكبر من اللازم بالنسبة لقيادة أوروبا وأصغر من اللازم لقيادة العالم''.

اِن الخطر يكمن في لجوء المسؤولين الدهاة في الغرب، على عادتهم، إلى ما قد يلبي مطالب الشارع الغربي فقط، أو بعضها، بقصد إخماد ثورته. ولسوف يتم كل ذلك على حساب بلدان العالم الثالث، التي اعتاد الغرب أن يمتص ثرواتها، ويدمر وجودها البشري. وبذلك يتسع الشرخ القائم بين البلدان المقتدرة والبلدان الضعيفة والمستضعفة، فيزداد الخلل العالمي تفاقماً. وهنا، هنا تحديداً، كان يمكن لبعض البلدان العربية، ولا سيما تلك البالغة الثراء، أن يكون لها دور إيجابي في هذه الأزمة، يفتح للعالم العربي آفاقاً جديدة من الحضور الفعال والاحترام الحق، فيرغم الغرب على تحمل مسؤولياته الجسام إزاء العالم بأسره، بدءاً من فلسطين، وعلى التخلي عن إصراره التاريخي والمزمن على الاستئثار بخيرات الأرض، والاستهتار بشعوبها، إلا أن معظم المسؤولين العرب، من الأحداث الجارية الآن في العالم العربي، تكشفت مرة أخرى، عن حقائق مخزية، وهي تفاقم انجرار أغلبيتهم، في غباء مفجع، إلى الانخراط في السياسة الغربية الظالمة على كل صعيد، تلك السياسة التي يراد لها أن تفضي بالبلدان العربية كلها، عاجلاً أم آجلاً، إلى أوضاع سياسية واجتماعية متفجرة، لن تلبث أن تقود سياسييها إلى حفر قبورهم، وقبور شعوبهم بأيديهم... وهل من العرب اليوم من لهم حقاً عيون ترى، ليروا ما يُحمَل العرب على فعله بالعرب، وما قد يُحملون على فعله غداً، مما هو أشد بلاءً وهولاً...؟

إن نموذج الرأسمالية الغربية لمجتمع قائم على الوفرة شبه الشاملة والديمقراطية الليبرالية، يبدو الآن وعلى نحو متزايد وكأنه نموذج غير فعّال مقارنة بالنماذج المنافسة. فقد ينجح أبناء الطبقات المتوسطة في الدول الاستبدادية في دفع زعمائهم نحو قدر أعظم من الديمقراطية، ولكن الديمقراطيات الغربية من المرجح أيضاً أن تصبح أكثر استبدادية. والواقع أننا بمقاييس اليوم، نستطيع أن نعدّ شارل ديغول وونستون تشرشل ودوايت أيزنهاور زعماء استبداديين نسبياً. ويتعين على الغرب أن يعيد تبني مثل هذا النهج، أو يجازف بخسارة عالمية مع شروع القوى السياسية من أقصى اليمين وأقصى اليسار في توحيد مواقفها وبدء طبقاته المتوسطة في التلاشي. وفي الوقت نفسه، تلوح فرص ضخمة في أوقات التغيير بعيد المدى، فقد نجح آلاف الملايين من البشر في آسيا في الإفلات من براثن الفقر. والآن تظهر باستمرار أسواق جديدة ومجالات جديدة يستطيع فيها المرء أن يستغل فكره وتعليمه ومواهبه، كما بدأت مراكز القوى العالمية في موازنة بعضها بعضاً، على نحو يعمل على تقويض طموحات الهيمنة ويبشّر بنوع مبدع من عدم الاستقرار القائم على التعددية القطبية، حيث يكتسب الناس قدراً أعظم من الحرية في تحديد مصائرهم على الساحة العالمية.

ويرى كثير من الأوروبيون  أن صمود القوة الناشئة، الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، عامل مساهم في إنهاء القطبية الواحدة نحو عالم متعدد الأقطاب مما يؤدي إلى سقوط الهيمنة الأمريكية التي بدأت انحدارها منذ انفلاشها ما وراء البحار ونشر قواتها في معظم مناطق العالم بذرائع محاربة الإرهاب، والدفاع عن حقوق الإنسان، وكل ذلك سيجعل من النموذج الأوروبي مثالاً لمناطق العالم الأخرى. هذا ويسهل فهم العصر الذهبي للأسواق المنبثقة بشكل أكبر، فالصين والهند وبعض دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا اتجهت نحو سياسة الاقتصاد الصناعي والتمدن كما فعل الغرب في القرن التاسع عشر، لكن مع إضافة وهي الثورة التكنولوجية والاقتصاد المعولم. كما لم تتجه دول الاتحاد السوفييتي السابق نحو الاقتصاد الصناعي وإنما استبدلت البنى المخفقة للتخطيط المركزي ـ الذي كان ينسق اقتصاداتها العرجاء ـ بنظام السوق، وهكذا عرف عدد من سكانها تحسناً في مستوى معيشتهم. وهكذا فإن عشرات آلاف سكان الدول المنبثقة أصبحوا من الطبقة المتوسطة فيما خرج مئات الملايين منهم من الفقر.

اِن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالنظام الرأسمالي في أوروبا وأمريكا، جعلت الكثير من المفكرين في الغرب يرون أن النظام الرأسمالي انتهى دوره التاريخي، وصار عبئاً ثقيلاً يجثم على الإنسانية. والاستنجاد بالدول الغنية ذات الاقتصاد القوي ـ كالصين ـ يهدف إلى ترميم النظام الرأسمالي المتهاوي، وقد يؤجل انهياره، ولكنه لن يمنع نهايته المحتومة، وما شعار ''احتلوا وول ستريت...'' الذي يرفعه الفقراء في الدول الرأسمالية، إلا تعبير واضح يجسد المدى الذي بلغته أزمة النيوليبرالية.

http://www.eda2a.com/article.php?id=240

© 2012 جميع الحقوق محفوظة لموقع إضاءة.
لو إن كل إنسان زرع بذرة مثمرة لكانت البشرية بألف خير