القوش تُهْزٍمْ عزرائيل

بدء بواسطة ماهر سعيد متي, يوليو 10, 2013, 08:19:10 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

ماهر سعيد متي

القوش تُهْزٍمْ عزرائيل

بقلم : سلام مروكي
Salim_maroki@hotmail.com

أودع يعقوب أطفاله الخمسة بضمنهم الرضيع لدى خالتهم الساكنة في حي البتاوين وإتجه مسرعا الى مدينة الطب في منطقة باب المعظّم ليطمئنّ على صحة زوجته سارة التي تنازع من مرض عضال في إحدى ردهات المشفى. تسلل الرعب الى قلبه عندما وجد سريرها خاليا وضنّ بأنّها نٌقلت الى عنبر المتوفين، إستفسر متلعثما من الممرضة عن ما جرى لقرينته. فقالت: نقلناها الى المسرح. خرج الدكتور يوسف النعمان كبير جرّاحي بغداد للباطنية من صالة العمليات مقطّب الجبين يائسا والفشل مكتسيا محياه ثم اقترب من يعقوب قائلا: يابني لقد عجز الطب من علاج زوجتك، حاولت المستحيل لإسعافها دون جدوى، أسف جدا لن تعيش أكثر من عشرين يوما فلقد تأكل جسمها من مرضها، أنصحك بنقلها الى قريتكم ألقوش لتودّع أهلها ومحبيها أخر أيام حياتها وعندما يوافيها الأجل ترقد بجوار أبائها وأجدادها.

صُعِقَ يعقوب بالخبر المشؤوم فتنهّد خائبا رافعا ذراعيه الى السماء ومعاتبا: يارب لماذا خذلتني بشفاء حبيبتي سارة؟. أين عجائبك يا مالك الكون؟. لماذا ستحرم صغاري من والدتهم وهي لم تهنأ بعزّ شبابها، ماذا دهاك لتمنع عنها نعمة الصحة يا واهب الحياة، قلّ لي كيف سأعيش بدونها. إنني ألعن حظي المعثور، أه منك أيها التعاسة المرّة. تناول منديله ليكفكف الدموع التي إنهالت بغزارة على وجنتيه ثم شحذ قواه ليرضى بالأمر الواقع فحمل سارته الغائبة عن وعيها كجثة هامدة بين ذراعيه بعدما سرق الداء عافيتها لتزن أقل من ثلاثين كيلوغراما ويعود بها الى صغاره الحيارى.

وصلت العائلة المنكوبة بلدة ألقوش فتوافدت مجاميع الأقرباء وصديقات سارة لإلقاء النظرات الأخيرة عليها متأسفين بمرارة على ما أصاب جسدها من شحوب ونحول. تنافست أخواتها لرعاية الرضيع وصغارها، وعند المساء قدم فريق من راهبات القصبة ليقمن صلاة الشفاء متضرعات للعذراء مريم مع بقية النسوة. تنهدت كبيرة الراهبات في نهاية الصلاة وأوصت اهل الدار بإخبار كاهن الرعية ليمسح سارة بالزيت المقدّس قبل أن تلفض أنفاسها الأخيرة، فتفشت بين النسوة ضجّة كبيرة، واحدة تلعن الأمراض الخبيثة التي تفتك بالبشر دون معرفة مصادرها والأخرى تتسائل كيف سيعيش أولادها دون أم ترعاهم، وتعالت شهقات أعزّ صديقاتها من البكاء حسرة على شبابها، أما أخت يعقوب فكانت عيناها تذرفان الدموع بصمت متأملة بحزن شديد المأساة التي حلّت بعائلة أخيها.

كانت سارة تتصنّت لكل حديث يدور من حولها ولكن لشدة نحولها ووهن قواها أخفق جسدها من إبداء أيّة علامة للتواصل مع محيطها فكانت تبدو للجميع بأنها في غيبوبة عميقة بينما وعيها لم يخذلها من متابعة أنين صغارها ونحيب الأحبة عليها. أيقنت من كل ما سمعته بأنّ أجلها يقترب وعزرائيل ملاك الموت شرع يشمرّ ذراعيه لخطفها من مملكة الأحياء فإنتابها رعب شديد وحزن غريب. شهقت سارة شهقة طويلة ثم غاصت في تأمل عميق حول ما أصابها وبدأت تشحذ أخر ما تبقى من قواها وتحاكي أعماق نفسها: يجب أن أعيش لأنني ما زلت في مقتبل العمر، يجب أن أعيش لأرعى أطفالي الصغار، يجب أن أعيش لأقهر دائي وأستمتع بحياتي. هكذا كانت سارة تحاكي أعماقها وتسخّر كل خلية من خلايا جسدها لإنعاش ضعفها وتقوية جهاز المناعة لمقارعة مرضها.



عاد الشيخ شمعون مساءا بقطيعه من سفح الجبل ليُصعقَ هو الأخر بخبر وصول سارة بنت أخته، فأنطلق مسرعا ليلقي عليها النظرة ألأخيرة. التقى في مدخل الدار زوجها يعقوب يائسا ودخان سكارته الكثيف يخفي فيض دموع عينيه، فقال له ما الخبر يا رجل؟ أجاب بحزن عميق سارة تحتضر، لقد عجز الأطباء من علاجها ونصحوني بنقلها إلى ألقوش لتحاط بأيامها الأخيرة المعدودة بأهلها ومحبيها. إنتاب الخال شمعون قلق كئيب ثم دخل الدار ليعاين أمامه جثة هامدة، هيكل عظمي يكسوه جلد شاحب قد أضاع ذيّاك الجمال الخلاّب، إرتعب للمشهد وتمالك رباطة جأشه ناحبا: ماذا دهاك وحلّ بكِ يا إبنتي، كنت كالوردة المتفتحة طيلة فترة وجودك في القرية، حقا الإغتراب جلب لك كل هذه الأمراض الخبيثة، لعن الله الغربة ومآسيها، حقا كل زهرة تقلع من جذورها تذبل وتيبس وهذا ما أصابك يا صغيرتي، ثم مدّ كفه الغليض ليمسد جبينها بحنان وإلتفت الى النسوة الجالسات بقربها قائلا: أجلبوا لي بعض الماء والسكّر (القونداغ) فسقاها بمعلقة صغيرة ثم أمر إبنته ماري بجلب حليب الماعز من داره بسرعة وطلب من يعقوب وأخواتها بسقيها شيئا فشيئا لأن جسمها قد تيبس كليّا، ثم أوصى الجمع بحملها في الصباح الباكر إلى الدير لتشمّ نسيم الربيع العليل وعطر تراب القوش المنعش.

كان أنور إبن سارة البكر يدرك رغم صغر سنه كل ما يدور حوله، يتألم بصمت لمشاهدة معاناة والدته، فكان ينتهز فترة خلو الدار من الزوار لكي يتناول قنينة الحليب ويرضع أخاه الصغير الراقد بقربها، وكلما تتوارى الأنظار من معاينته كان يسرق القنينة من فم أخاه ليلقمها بفم والدته مطبّقا وصية خالها شمعون. ذكّر رنين ناقوس الكنيسة الأب هرمز كاهن البلدة بوجوب زيارة سارة بعد صلاة الصبح لمسحها بالزيت المقدّس وإقامة صلاة الوداع ولما أكمل المراسيم نظر بشفقة الى زوجها متأسفا على شبابها ومتضرعا الى الرب ليمدّ ذويها بالصبر وبعد خروجه من البيت همس بأذن أحد الشمامسة الذين رافقوه معترفا بأنها شبه ميتة ثم أوعز حفَار القبور ليكون رهن الإشارة حال لفظ سارة أنفاسها الأخيرة.

نقلت سارة على متن حمار الى دير الربّان هرمز في أعالي جبل ألقوش فانتعشت لاستنشاق رحيق زهور الربيع وعبق الطبيعة الخلابة واستأنست لسماع التواشيح الدينية والتراتيل الروحية التي ردّدتها صديقاتها طوال الطريق متَضرعات إلى السماء كي تغدق عليها بنعمة الشفاء، ولدى وصول الموكب كنيسة الدير أُضْجعَتْ سارة أمام مذبح الكنيسة وركع الجمع رافعين الصلوات والدعاء لتستعيد عافيتها. تناوبت صديقات سارة تثبيتها على ظهر الحمار أثناء العودة الى القرية وبغتة فتحت عينيها لتشاهد منظر شقائق النعمان يغطي سفحي الجبل فتذكّرت أيام طفولتها وعنفوان مرحلة شبابها فاسْتنهَضَت قِواها وشرع ذهنها يحاكي أحشائها وتلابيب فؤادها لتتفاعل مع الطبيعة كي تَبْرأ من دائها لتستعيد نشاطها وتعاود دورها الإنساني في رعاية أسرتها وخاصة رضيعها.

تفاجأ زوجها في الصباح الباكر عندما فتحت عينيها وطلبت منه الغذاء، فتسارع إلى المطبخ وأعدّ لها قنينة كبيرة من حليب الماعز، بدأت علامات الحياة تدبّ في جسدها ويوما تلو الأخر تتحسن صحتها. لقد خيّبت سارة توقعات الأطباء بطاقتها الكامنة التي تفاعلت مع الطبيعة وعناصرها المنعشة لتقهر دائها ووهن جسمها، فانتصرت على الموت وعاشت ثمانية وثلاثون عاما بعد تلك المحنة العصيبة. رأت أحفادها وعايشتهم وأضحت رمز الحياة لفاقدي الأمل.

قصة حقيقية بأسماء مستعارة

http://www.karemlash4u.com/vb/showthread.php?t=193378
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة

hasson_natalia

ولا اروع من هالقصة ,,انها قوة الارادة
الله على مواضيعك الرائعة استاذنا الكريم..
ما احلى أن نجتمع معـاً  بالحبِ يقول الربُ لنا ما إجتمع بأسمي إثنان معـاً إلا وهناكَ أكون أنا.

ماهر سعيد متي

مرورك الاجمل وكلماتك تشجعني على الاستمرار .. تحياتي
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة