مقال لـخليل علي حيدر في الاتحاد الاماراتية: المسيحيون العرب والثقافة العربية

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يوليو 14, 2014, 08:55:13 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

مقال لـخليل علي حيدر في الاتحاد الاماراتية:  المسيحيون العرب والثقافة العربية



خليل علي حيدر
تاريخ النشر: الأحد 13 يوليو 2014

يصعب على من يعرف فضل المسيحيين في سوريا ولبنان ومصر والعراق، على الثقافة العربية، وعلى من يقدِّر تاريخ وجودهم وتفاعلهم في هذه المنطقة وخدماتهم التي لا تقدر بثمن.. أن يقف محايداً وهو يتابع المأساة التي تلف حياتهم وتهدد وجودهم في كل هذه البلدان حالياً. فالأعمال العسكرية تدمر مدنهم وأديرتهم وبيوتهم وحاراتهم القديمة قدم التاريخ، والتشدد الإسلامي والأعمال الإرهابية يحاصرانهم، والإبادة تلاحقهم من مكان إلى مكان، في محاولةً لاقتلاع جذورهم وتهجيرهم من مواطنهم.

لعب المسيحيون العرب، بمختلف طوائفهم دوراً لا مثيل له في تجديد الثقافة العربية، وإدخال عناصر الحداثة في الرواية والشعر والفكر، وشجعوا في كل مكان تعليم المرأة ودخولها التعليم الجامعي والتعليم النظامي العام. وقاموا بدور رائد في التأليف والترجمة، وفي تطعيم الفكر العربي بكل جديد ومبتكر.

ومن المفارقات التي لا تصدق حقاً، أن يبدأ العرب «ثوراتهم» و«ربيعهم» في أكثر من مكان، باقتلاع جذور المسيحيين في منابتهم العريقة، ومحاصرة وجودهم السياسي والاجتماعي، بل ومطالبتهم أحياناً بدفع الجزية!

يصعب بالطبع تجاهل دور الجماعات الإسلامية الأصولية وأحزاب الإسلام السياسي وثقافتها الاقتلاعية المدمرة، والتي فككت الكثير من العلاقات والأواصر بين المسلمين والمسيحيين، وبين السنة والشيعة، وقلبت في نهاية الأمر موازين الوطنية والحياة المشتركة والتسامح الديني وغير ذلك، لتسود ثقافة هذه الأحزاب المتعصبة، ورؤاها القاتمة، وشعاراتها التي لا علاقة لها بدنيا الناس ولا رابط لها بثقافة القرن الحادي والعشرين.

لكن الصراعات السياسية والكثير من القرارات لعبت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين دوراً مؤسفاً في بث الشكوك وفي إعادة الاستقطاب الديني والطائفي الذي عزل مختلف الشرائح والمذاهب، وقدّم للجماعات المتعصبة خدمات كبرى في مرحلة لاحقة.

وقد حاول الإصلاحيون العرب تحديث مجتمعاتهم وسط ظروف صعبة وألوان من التعصب الفكري والاجتماعي. وفي قضية توعية المرأة وتحريرها من القيود، لعب الإصلاحيون، مثل الطهطاوي وقاسم أمين ومحمد عبده والكواكبي، دوراً معروفاً في الدفاع عن مشاركة المرأة في الحياة العامة، من خلال التعليم وإنهاء العزل الاجتماعي. وانقسم المسيحيون كذلك حول المرأة إلى تجديديين ومحافظين. فنحن نرى سليم البستاني يقول في مجلة «المقتطف» (يونيو 1883): «الوطن بأهله والنساء نصفهم، فلا تستقيم أموره ولا تنتظم أحواله ولا يبلغ الدرجة القصوى من المدنية ما لم يحصل هذا النصف على الكمال المدني.. فإن النساء أساس البناء التمدني، والشعب الذي يحاول ذكوره التقدم دون النساء، كالرجل الذي يحاول السفر ماشياً برجل واحدة».

ورغم شهرة الدكتور «شبلي شميل» في مجالات الريادة الفكرية والدفاع عن نظرية «النشوء والارتقاء»، كما كان يفضل تسميتها، فإنه كان من معارضي مساواة المرأة مع الرجل، بل اعتبرها دونه عقلا ومقدرة، مستدلا بـ«آراء علماء الحيوان والانثربولوجيا في بيان الفروق الفيسيولوجية بين الذكر والأنثى من الحيوانات الراقية». (الاتجاهات الفكرية عند العرب، د. علي المحافظة، ص 187).

وكان الكاتب «أنور الجندي» (1917 -2002) من جماعة «الإخوان المسلمين»، ثم تحول مجاملة للقومية والناصرية، ثم عاد إلى «الإخوان» ثانية، يكتب ويغرق المكتبة العربية بكتبه المدافعة عن فكرهم وشخصياتهم. وكان في كتاباته القومية ممن يشيد بدور المسيحيين في الثقافة العربية، وينتقد بمرارة الدور السلبي الذي لعبته الدولة العثمانية وجور سلطانها. ويقول «الجندي» إن «المهاجرين المسيحيين الشوام كان لهم تأثيرهم البارز ثقافياً وسياسياً». وقد استقبلت القاهرة جاليات كبيرة من الشاميين، كان في مقدمتها بعض المثقفين الأحرار الذين تعقّبهم السلطان عبد الحميد، فوجدوا في القاهرة مجالًا ومتنفساً. «وكانت هذه الهجرة بعيدة الأثر في عالم الفكر والرأي، إذ كان الشاميون مؤثرين في الصحافة المصرية، وكان لهذا أثره في امتزاج الأفكار والآراء وتلاقي وجهات النظر حول فكرة العروبة التي كانت مصر محجوبة عنها تحت ضغط الاستعمار البريطاني الذي حاول الفصل بينها وبين المنطقة العربية وإيجاد عزلة مصطنعة».

ثم يقول الجندي إن البيئة الشامية «كانت أقوى البيئات العربية تحرراً في الفكر، وكان الساحل أشد تحرراً من الداخل». وقد أمضت الشام اثنين وثلاثين عاماً في ظل الاستبداد الحميدي، و«خلال هذه الفترة كانت المنطقة الساحلية تتسع ثقافياً بإنشاء المدارس الأجنبية والدينية في لبنان وفيها ظهرت بوادر التمرد على الترك قبيل نهاية القرن التاسع عشر».

ومما تكررت الإشارة إليه في قصائد أدباء تلك المرحلة «البسفور، حيث كان يلقي عبد الحميد خصومه»، وكذلك «كان شعراء المهجر يرددون نفس المشاعر، مشاعر التمرد على الاستبداد العثماني». ويقول الجندي إن «أول قصيدة في القومية العربية هي ما قاله الشاعر المسيحي إبراهيم اليازجي (1895) يدعو إلى اليقظة:

تنبهوا واستفيقوا أيها العرب.... فقد طمى السيل حتى غاصت الركب» (ص، 322).

وينقل الجندي عن الأديب محمد كرد أنه «في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كان هناك معسكران، يقود الأول دعاة الكثلكة والبروتستانتية، وهم حملة علوم المدنية الحديثة، والثاني دعاة تتريك العناصر أصحاب القومية التركية. وكانت الجامعة الأميركية تدرّس بالإنجليزية، والجامعة اليسوعية تدرس بالفرنسية، ومدارس الترك تدرس باللغة التركية. وكانت مدارس التبشير والطوائف في الساحل تدرِّس دراسة جيدة. ومدارس الحكومة والمدارس الدينية ضعيفة سقيمة الأسلوب، حتى قيل إن اللغة العربية كانت في حالة نزع في البلاد الداخلية». ويضيف: كرد علي شارحاً: «كانت علوم الدين واللسان تُدرّس في مدارس حلب ودمشق على طريقة الأزهر. كانوا يحفظون القرآن ولا يقرؤون تفسيره، ويتعلمون الفقه ولا يعرفون أصوله. وكانوا يحرمون دراسة التاريخ بعد أن كانت تدرس في الجامع الأموي كالحديث. وكانوا يكرهون علوم الطبيعيات والفلك ويعدونهما من الزندقة. كما حرموا قراءة المنطق والفلسفة».
وينقل الجندي عن سامي الكيالي في تصوير الحركة الأدبية وجمودها قبل الحرب العالمية الأولى، فيقول: «كان الأدب في سوريا أدب مباسطات وتورية، وجناس ومطابقة، وأدب قصيدة وخطاب. كان أدباً ضعيفاً كل مادته هذه البهرجات وهذه الشعوذات التي تقوم على الصنعة والبديع لا على التصوير والتوسيع مما لا يتصل أبداً بأدب الحياة».

ومن الذين درسوا دور المسيحيين في إحياء الأدب واللغة في الثقافة العربية الباحث اللبناني «وليم الخازن»، وقد تحدث قبل أعوام لصحيفة «السياسة» الكويتية (21 مايو 2008)، فقال: «آخر دراسة قمت بها وقدمتها بطلب من مركز الدراسات العربية المسيحية كانت بعنوان دور المسيحيين في تحديث العالم العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتتناول عشرة عناوين منها: المسيحيون وأديارهم، القناصل والسياح، تحرير المرأة، فضل المسيحيين في إحياء اللغة العربية، تحديث الآداب والفنون والفكر العربي، الاستعمار الفرنسي والإيطالي والإنجليزي في المشرق العربي».

والآن، مَنْ من الإرهابيين والمتشددين، ممن يقتلون المسلمين والمسيحيين معاً، يكترث بكل هذا الدور والفضل؟