موسيقا الكنيسة السريانية الارثوذكسية (الجزء الخامس)

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يوليو 04, 2014, 08:44:39 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

موسيقا الكنيسة السريانية الارثوذكسية
(الجزء الخامس)

السنة الكنسية الطقسية ومصادر الألحان الكنسية



بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم


موضوع المقال:
بعد ان انتهينا من مصطلحات الموسيقا وتاريخ السلالم الموسيقية للشعوب القديمة وكيفية وصولها إلينا، وبعد أن طرحنا الكثير من الافكار  التي منها ما تعارض بعض الاقوال والادعاءات التي اصبحت شبه "مسلمات" بين البعض من مثقفينا وموسيقيينا حيث اخذوها على عللها دون التحقق من صحتها، آن الآوان لندخل الى الكنيسة السريانية الارثوذكسية من باب موسيقاها وعالم الحانها الذي هو موضوع مقالنا وسنعالج فيه الموسيقا الكنسية وشرح مكوناتها وخصائصها والتعرف على أسماء ملحنيها وطبيعة ألحانها وصفاتها واسباب دخولها للكنيسة.

لمحة عن السنة الكنسية الطقسية:
لقد عمل آباؤنا القديسون على إختزال ثلاث وثلاثين سنة، التي هي عمر السيد المسيح له كل المجد، بسنة واحدة وسموها السنة الكنسية، او السنة الطقسية، وهذه السنة تتناول حياة السيد المسيح منذ ما قبل الولادة ولغاية ما بعد الصلبوت. وفيها قصة بشارة مريم العذراء وولادة السيد المسيح وأعماله العجائبية على الأرض، ثم موته وقيامته وإنتصاره على الموت، وتحرير البشرية من نير العبودية ومن الخطيئة الأولى.
كما أن هذه السنة تتضمن الكثير من الاعياد التي نحتفل بها من تلك التي وقعت أحداثها بعد صعود السيد المسيح الى السماء، مثل عيد حلول الروح القدس على التلاميذ وعيد انتقال العذراء الى السماء بالجسد، وعيد اكتشاف الصليب المقدس، وأعياد وتذكارات القديسين والكهنة والموتى وغيرها، وايضا بعض المناسبات التي وقعت احداثها قبل مجئ السيد المسيح مثل صوم نينوى وعيد مار إيليا النبي مع جميع تذكارات الآباء والانبياء الأولون.
لقد أقتصرت الصلوات والإحتفالات بالأعياد في القرون الأولى المسيحية بشكل بسيط وبالخفاء، وكانت الإحتفالات بأعياد الميلاد والقيامة تقام مرة واحدة في كل ثلاثة وثلاثين عاما نسبة لعمر السيد المسيح ومقتصرة على بعض الطقوس البسيطة، وأجيالا كاملة كانت تولد وتموت ولم يتسنى لها أن تحتفل بها في تلك الأزمان.
لقد بدأ آباء الكنيسة بتنظيم السنة الكنسية، مع طقوس الأعياد والمناسبات ومعظم الإحتفالات الروحية الأخرى حين أستطاعت المسيحية الظهور العلني للملأ، بعد أن كانت مختبئة تحت الأرض نتيجة الإضطهات التي لاقتها على أيدي حراس الامبراطورية الرومانية.
وتدريجيا إكتمل تنظيم السنة الكنسية واكتملت نصوص الطقوس الدينية، وتم الترتيب النهائي للألحان الكنسية وتنظيمها في القرن السابع الميلادي في الكنيسة السريانية الأنطاكية على يد العالم الكبير مار يعقوب الرهاوي (توفي 708م)، واستمرت ليومنا هذا، ومنها "طقس العماد والزواج ودفن الموتى والميرون والشعانين والميلاد والقيامة ورسامات الكهنة والشمامسة وغيرها".
تبدأ السنة الكنسية الطقسية بمواضيعها الدينية وألحانها الخاصة بها، فيحتفل في كل موضوع ديني على حدى في يوم أحد خاص به، وتبدأ هذه السنة بالأحد المسمى بأحد "تقديس الكنيسة" لتتبعه أيام الآحاد الاخرى وهي: "أحد تجديد الكنيسة" ثم "أحد بشارة زكريا" و"أحد بشارة العذراء" ثم "زيارة العذراء لإليصابات" و"ولادة يوحنا" ثم "ميلاد السيد المسيح"، لتتالى أيام الآحاد تباعاً بحسب ما وضعه الآباء الأولون من نظام تقسيم جميع الأعياد والمناسبات والتذكارات على مدار آحاد وأيام السنة وبشكل تسلسلي وفقا للأحداث التي مر بها السيد المسيح، وهذا نظام معقد نسبياً، وهو معتمد في جميع الكنائس الطقسية القديمة، مع إحتفاظ كل واحدة منها ببعض الإختلافات البسيطة التي تميزها عن غيرها لخاصيتها ومحليتها، وأيضا بالفروقات الحاصلة في تاريخ الأعياد نتيجة تبني بعضها التقويم اليولياني وبعضها الآخر الغريغوري.

اﻷسباب التي من أجلها دخلت الألحان الى الكنيسة:
1. بسبب تأثير اللذة المتولدة من سماع الألحان
إن النغمة المهذبة والمعبرة عن الكلمة التي ضعت في الألحان الكنسية، والتي يؤديها الصوت الشجي الحسن، تتولد منها لذة فائقة من سماعها، تؤثر في النفوس والأرواح وتجلب لها السعادة والهدوء والطمأنينة، وتجذبها الى الفضيلة والخشوع والإحترام، وتخمد فيها الحقد والغضب والميول الملتهبة والمنحرفة فتطهرها من الشر والآثام، وكذلك تلهب فيها الشجاعة وتكسب العقل القوة الروحية للسيطرة على الغرائز الجسدية. لذلك فضل آباء الكنيسة ان تكون النصوص الدينية كلها ملحنة للغناء والترتيل للاستفادة من عمل الموسيقا وتأثيرها على المصلين.
2.  للإستعانة بها على النشاط في العبادة، والتخفيف عن المصلين من وطأة الأتعاب اليومية ولتلهيهم عن الشعور بالوقت والملل، وعن الشعور بالجوع والعطش والأمور الحياتية، والمتطلبات الجسدية الاخرى.
3. العدول والرجوع عن الخطيئة
إن المصلين يتأثرون بالنغمة الحزينة فيبكون على أخطائهم التي ارتكبوها، ويشعرون بالندامة، وتجعلهم يبتعدون عن إرتكاب المعاصي، بل تساعدهم للتعلق بالقيم الالهية السامية.
4. تأثير التعبير اللحني والصوت
إن النغمة الصحيحة المتوافقة لطبيعة النص الكنسي، ومع الترتيل الصحيح المعبر عن معنى هذا النص، يساعدا المصلي كثيرا في تفهم عمق معاني الكلمات الروحية، والمقاصد الإلهية من هذه النصوص لما تحويه من شروحات وتفسيرات عظيمة صاغها الآباء الأوائل بمساعدة الروح القدس، وتدفع النفس البشرية الى الدخول في عالم التأمل الروحي العميق ليتحد فكر الإنسان مع الله.

أصول الألحان الكنسية وبدايات التلحين:
إن الموسيقا الكنسية لم تخلق من عدم، أو من الفراغ ، إنما جاءت إبداعا رائعا من وحي ورحم فكر وحضارة تاريخية عريقة، ضاربة جذورها في أعماق الأرض والتاريخ.   
إذ كانت لألحان الكنيسة السريانية الانطاكية إمتدادات لذاك الفكر الخلاق، وإستلهامات
من موسيقات شعوب معاصرة لها أو أقدم منها، استفاد منها الملحنون الأوئل وهذا ما سنستنتجه من البحث عن مصادر جذورها.

1. الموسيقا اليهودية:
لقد كانت صلوات المسيحيين الأوائل في فلسطين هي ذات الصلوات اليهودية المستعملة في العبادة في الكنيست (الهيكل). وهي على الأغلب مستمدة من نصوص من أسفار العهد القديم مثل المزامير ونشيد الإنشاد، والامثال، ومراثي إرميا، وطلبة إشعيا، حيث تبنتها الكنيسة الأولى القائمة على التلاميذ والرسل والمبشرين اليهود.
ثم صاغ آباء الكنيسة الأوائل الكثير من الاناشيد على شاكلتها، وهي معروفة للكهنة والشمامسة المبدعين.
لذا كان المصدر الاول لألحان الكنيسة هو الألحان اليهودية التي حملها الرسل الاولون معهم.

2. موسيقا المدن الآرامية:
تواصلت الموسيقا العذبة المتطورة في قصور الملوك والامراء وهياكل الوثنية المتواجدة في المدن الآرامية القديمة عبر الاجيال. واستمرت الى ما بعد ميلاد السيد المسيح وأستفاد الملحنون السريان الكنسيون منها. فمن وجود ألحان كثيرة من هذا النوع، ووجود سلالم مقامات مختلفة النغمات، وقوالب موسيقية جاهزة، أستنبط الملحنون الكنسيون من طبيعتها ومن جوهرها إبداعات جديدة، جاءت ألحانا كنسية في غاية الروعة، واستلهموا من تلك الموسيقا طرق جديدة في التلحين بما يناسب معاني النصوص الدينية وخاصية الموسيقا الكنسية والنظام اللحني الكنسي.
وهناك من أدعى بأن الألحان القديمة المستعملة في المدن الآرامية، تم إدخالها كما هي إلى الكنيسة، لكن هذا إدعاء باطل وغير صحيح مطلقا ولا يوجد أي إثبات عليه ليبرهن على صحته وليدعم هذا القول.
وأسبابنا في رفض هذا القول هي:

اولا- موسيقا المدن متطورة وراقية من حيث بنائها الموسيقي، ولكنها تخاطب الجسد، بينما الموسيقا الكنسية تخاطب العقل والروح والنفس وتهمل الجسد. فهل يشترك المتناقضان على نوع واحد من الموسيقا!.
ثانيا: تعتمد المدن على السلم الكامل (أوكتاف) او أكثر من أوكتاف في موسيقاها، وهذا واضح من الموروثات الموسيقية التي وصلت لنا، وهذا نلاحظه في ألحان الكنيسة اليونانية المتواجدة في بلاد السريان حيث أنها تستعمل السلم الموسيقي الكامل أو سلم ونصف في ألحانها، وهذا أمر لا يتوافق مع مساحات ألحان الكنيسة السريانية الارثوذكسية التي تتكون بمعظمها من أنصاف السلالم الموسيقية.

3. أغان شعبية (ريفية) آرامية:
يدعي البعض بأن آبائنا الأوائل قد أدخلوا بعض الألحان الشعبية الى الكنيسة، لكن لم يستطع هؤلاء تقديم اثباتات وبراهين واضحة وصحيحة لتؤكد مزاعمهم.
ولكن بالإستناد الى تجربتي الخاصة وبحثي المتواضع في هذه القضية ومقارناتي الموسيقية بين ما بقي ووصل لنا من أغاني آرامية شعبية التي عربت أو تركت (تتريك)، مع الأناشيد الكنسية التي لا زالت مستعملة لهذا اليوم، ينفي القول بإدخال الألحان الشعبية كما كانت عليه الى الكنيسة.
بل أرى بأن الموسيقيين السريان القدماء العباقرة، قد لحنوا ألحانا كنسية رائعة وجديدة، لكن تشبه سلالمها لسلالم الألحان الشعبية، وربما لقوالبها الموسيقية أيضا. لهذا أعتقد بأن الباحثين الموسيقيين أصبح لديهم خلط بهذا الأمر، ولم يستطيعوا أن يميزوا بين ما كان موجود من موسيقا قديمة مستعملة شعبيا في الأرياف، وبين ما لحن للكنيسة خصيصا في تلك الأزمنة، نتيجة تشابه السلالم والقوالب، فخلصوا بالقول بأن الألحان الشعبية الريفية دخلت كما هي للكنيسة نتيجة القواسم المشتركة بينهما، منها انصاف السلالم وطريقة الغناء.
أما انصاف السلالم فإن معظم الأغاني والأهازيج الشعبية البسيطة التي لا زالت تستعمل في قرى السهول والجبال وفي أرياف المدن الكبيرة حتى اليوم والتي تبدلت لغتها الى العربية، تتكون معظم الحانها من أنصاف السلالم الموسيقية، وهذا يؤكد على أن الموسيقا الشعبية تعتمد على أنصاف السلالم الموسيقية.
كما أن اناشيد الكنيسة السريانية تعتمد في تكوينها على أنصاف السلالم الموسيقية ايضاً وهذا قاسم مشترك كبير بينهما.
كما إن طريقة غناء الألحان الشعبية شبيهة بطريقة غناء البعض من الأناشيد الكنسية، والطريقتان تعتمدان على طريقة قرائية في الغناء وكأنما هو كلام يقرأ مع تنغيم له. وهذه الطريقة لا تعتمد على التطويل اللحني اي خالية من المدات اللحنية، إلا في نهايات الجمل الموسيقية الطويلة اي في القفلات، أو في نهاية المقاطع اللحنية .
ومن الاغاني الشعبية الباقية في القرى في سوريا والتي يقال بأن أسمائها آرامية: دلعونا، ميجانا، عتابا، مايا، روزانا، موليا، عاليانا، وغيرها، والتي يمكن دراستها لغويا للتأكد من آراميتها، وموسيقيا لمقارنتها بقسم من الأناشيد الكنسية، لنستخلص منها أوجه التشابه بينها، أو القواسم المشتركة بينها.

4.   الموسيقا اليونانية:
كانت المدن الآرامية الكبيرة تتعامل باليونانية لغة وثقافة وموسيقة، لذا نجد بوضوح مسحة يونانية على بعض نصوص الألحان السريانية وخاصة تلك التي ترجمت من اليونانية او لحنت على طريقة السلالم اليونانية الكاملة مثل التضرعات (التخشفتات)، ولكن عادة تنشد بطريقة سريانية لا تخلو من الحزن والتذلل والمسكنة والخشوع والخضوع لله.

5.   المصدر الرئيسي: "الملحنون السريان":
إنكب آباء الكنيسة الاوائل منذ نشأتها على التأليف والتلحين والإشتغال بالنصوص وبالطقوس فأنتجوا لنا الكثير من الدرر الموسيقية النفيسة كانت باباً كبيرا ليدخل منه بقية الآباء لتبرز مواهبهم ويألفوا الكثير من التآليف العظيمة التي يعجز الانسان عن وصفها، لما تحويه على الحان عبقرية ونصوص لا مثيل لها.
لا شك بأن الروح القدوس قد رافق هؤلاء الآباء العظام في تآليفهم الشعرية وشروحاتهم للكتاب المقدس وفي ألحانهم الموسيقية الرائعة وفي كل أعمالهم الروحية، لما تحويه من عظمة وروعة وإبداع، فألحانهم فيها صعوبة بالغة في التركيب، وصنعة دقيقة، وروعة في الجمال رغم بساطتها، وتعبير جميل لمعنى النصوص، وعذوبة وسلاسة.
ونظرة سريعة على أمثلة قليلة من أعمالهم الأدبية أو الموسيقية ستبرهن لنا على مدى عبقريتهم، و بأن الروح القدوس ساهم في كل إبداعاتهم الفكرية.
إن التآليف الكثيرة لعباقرة السريان الآراميين، إبتداءا ببرديصان الآرامي ومرورا بمار أفرام السرياني، وسويريوس الأنطاكي، ورابولا، ويعقوب السروجي، والقواقين، ويعقوب الرهاوي، وغيرهم، تدل بأن إنتاجاتهم كانت مستوحاة من الأرض الآرامية المنتجة للفكر والحضارة والتاريخ والتي حملتها واستوعبتها اللغة الآرامية التي كانت وعائهم الفكري.

البعض من الموسيقيين القدامى:
الفيلسوف برديصان (154 – 222م)، مار شمعون بارصابوعي (343م) ،مار افرام السرياني (306 – 373م)،  مار بالاي ( توفي 342م )، مار سويريوس الانطاكي (توفي 538م)، مار رابولا الرهاوي (360 – 435م)، مار يعقوب السروجي (421م)،  ماروثا الميافرقيني (توفي 431م)، مار شمعون قوقويو (485-563)م، مار اسحق الرهاوي (491 توفي م) المعروف بالانطاكي، مار يوحنا بار افتونيا (توفي 538م)،  مار ماروثا التكريتي (توفي 649م) ، ومار يعقوب الرهاوي (708م).
ومن الملحنين المشهورين ايضا والمعروفين في التاريخ الكنسي من الذين أبدعوا في ألحانهم وعطاءاتهم قورولونا (القرن الرابع)، سويرت سابوخت (توفي 667م)، البطريرك جرجس الاول (790م)، المطران جرجس اسقف الكوفة (توفي 722م)، ابن الصليبي (توفي 1171م)، الخ.

ويتبع في الجزء السادس