قصائد منبثقة من عناق الأرض ومآقي الزهور الشاعر الأب يوسف سعيد -3-

بدء بواسطة برطلي دوت نت, مارس 04, 2014, 07:58:30 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

قصائد منبثقة من عناق الأرض ومآقي الزهور
الشاعر الأب يوسف سعيد -3-



صبري يوسف

ومن أجواء هذا الدِّيوان أقتطف لكم من قصيدة: الأرض المقاطع الشِّعريَّة التَّالية:

الأرض

"الأرضُ تحملُ بينَ طيَّاتها السُّفليّة رعشة أبديّة

زمهريرٌ يمتصُّ من أحشائها النّموّتفتح أبواب مصاريع الأبديّةتعبر مواكبها نحو ذخائر الظُّلمة

آخر ملحقات شرائح الحديد وتراب الفضّة والقصدير

الأرض تزين صدرها بأثداء ملوَّنة من هضاب

تتفلّى جدائلها رائحة شمس شرقيّة ناطقة بلغات مسيرات الغيوم والسُّحب الصَّيفيّة

أسابيعها بيضاء من نصاعة شمستحتضن في أحشائها مهجة النّور.." ...

إنَّنا نقرأ على مدى القصيدة صوراً رائعة، جديدة، عذبة، غير مطروقة، في كلِّ جملةٍ شعريّة نجدُ صوراً جديدة، حيث يستلهم بشكل خلاق من الأرض، كأرض، ككلمة، كعمق، ما يفاجئك، وما يجعلك تحلِّق في عناقات حميمة أشبه ما تكون بعناقاتِ حنين الشَّمس لدفءِ الحياة!ثمَّ يأخذك الشَّاعر في رحلته الفسيحة عبر قصيدة التُّراب إلى معالم مبرعمة بشهقةِ الخير والمحبَّة، بأسلوبٍ مفعمٍ بالدَّهشة والإنتعاش! عوالم باذخة لا تخطر على بال، عوالم محفوفة ببوح حميم، كأنّها مندلعة من شهوةِ النّيازك!

وإليك مقطع من قصيدة التُّراب، حيث يقول:

"أخذَ حفنةً من ترابِ الأرضِ

واستنشقَ رائحةَ زهرة الاقحوانتحسَّسَ بأصابعه السِّحرية عقارب ميلاده وجسَّ أوانَ موتهِ، وبسطَ يده اليمنى على أمِّه التُّراب وأبيه التُّراب

تحسَّس جسده التُّراب .. وسادته من تراب

لحافه من تراب .. عظامه من تراب ترابٌ في بيتِ العبيد

ترابٌ أنجبَ أبيه ونظّم تاريخ عشائرهترابٌ في قصورِ الملوك

يستريحُ منجل الحصاد على تراب القمح

ترابٌ مطبوخ بسلاهب من نارِ الأتونِ البابلي

تراب مشوي لبناء قرية شماليّة

تخصُّ أباطرة الأرض وملوكها

ترابُ يعانقُ البحر

يحرِّر أعصابنا من شوكةِ الجَّسد

ويحرِّر أرواحنا من كآبتها ..

ترابٌ ترويه أمطار من ندى

لاستقبال حفيف أجنحةِ السَّماء!" ..

ويأخذك عبر قصيدة السَّماء إلى سماوات متلألئة بالمحبّة والنُّور، حيث يقول:

"سماء بقربها تنحني عروش أزمنة متلألئة بشموع

من مجرات أفلاك عوالم أخرى ..

سماء ذات رموش فضّية

نسجتها آلهة العناصر بمغازل صمتها

وحدها آلهة الشِّعر ذات تقليعات خاصَّة

تحرِّكُ مادّة الشِّعر في بواطننا ..

سماء متلألئة من حفيف أجنحة النُّجوم

سماء لمسيراتِ حمامٍ برّي

سماء في انحناءاتها على دوالي

من عناقيد قناديل المجرّة

سماء من وجهها يتدفَّق نور البركة

تقتحم بصولجان خلخالها أزمنة مخمَّرة بدم القصائد!".

ويقفل فضاءاته عبر قصيدة الماء، قائلاً:

"الماء لغة السَّماء

طلٌّ عالقة مواكب سحبه بندى

يحتلب من أثداء الظُّلمة رذاذ ماء الرَّبيع

ماء يطوّق حافَّات وحواشي أردان البحيرات

بظلاله الحانية فوق نافورات زبد ناصع ..

بداية امتداد لجذور الخليقة!

الماء وجه لكواكب يسوِّرها قمر المحبّة

يقتطع مسافات ضوئيّة بين الأفلاك لملاحقة السَّواقي البعيدة

يناغي مجرات تقع في شرقي السَّماء." ...

وهكذا يحلِّق الأب يوسف سعيد في فضاءاته الوارفة بنضارة الشِّعر، ناسجاً نصّه من جموحات خياله المتدفِّق كزخّات المطر، كأَنَّنا كنّا في رحلة حلميّة مزدانة بالأماني والرَّغائب، حيث يتميَّز نصُّه بالتَّدفقاتِ العذبة. تولد الجملة من وحي خيال معرَّش بعينٍ بصيرة، وذاكرة دافئة، معتّقة بالأصالة، والحنين إلى أبهى ما في بواطن الرّوح من بهاء ورعة وسموّ. يبني متون شعره على معراج العشق، عشق الحرف والشِّعر والصُّور الخلاقة. يقطف أحلامه وأشواقه الغافية بين مروج الذَاكرة، ليقدّمها على جفون القصيدة، وردةً معبّقة بأشهى ما في الحياة من نِعَمِ الخير والبركات، للأحبَّة القرّاء والقارئات!

دماء حروف

وفي ديوان ممسوحة بدماء حروف الرُّوح، يعود الأب يوسف سعيد إلى عوالمه الصُّوفية الشَّفيفة، يفتتحُ ديوانه متوسِّداً خيوط الذَّاكرة، متوجِّهاً بهدوء نحو سنديانة شامخة، يتحدَّث عن قمرٍ حزين وعن صلاةٍ بستَّة أجنحة، معانقاً ابتهال الذَّاكرة. يبني نصّه عبر صور رمزيّة، سورياليّة وتدفُّقات صُّوفيَّة، ويشير إلى قمر مهاجر، وإلى شهيق أرضٍ ملتحفة وجنة قمر يتطلَّع إلى أسوار مزرعة مسترخية على امتداد طريق مملوء بقامات السِّنديان، بحثاً عن مدائن مكلَّلة بالفرح حيث يقول: "أتوسَّد ذاكرة فحلة، تؤتي مجترحاتها من أنباضِ تربة تعانقُ وتلتحفُ وجنات قمر مسافر .."..

"يحرِّك شموخها المزروع على طريق سنديانة قمر مهاجر نحو مزرعة تحاورُ حقول سنديانة تمتدُّ عبر أغصانها الى مدينة الفرح ..".

وفيما نقرأ صوراً متزاحمة، ينتقل الشَّاعر من صورة إلى أخرى، أشبه ما تكون مشاهد سينمائيّة، تكثر فيها صور القَطْع، مركّزاً على سلالم الذَّاكرة، القحط، والزَّوابع، ثم يصوِّر لنا كيفية ظهور الله في المخيّلة، وكأنَّه في سياق بناء كرنفال لتعدُّد الألوان في الصُّور والمشاهد، ثم يشطح نحو عوالم الشُّعراء.

"وحده أدونيس يعرف أسراراً عن الماغوط المهاجر صوب مدن الصَّمت مقتولاً في ساحات دمشق ..".

يبني الشَّاعر عوالمه الشّعريّة من الطَّبيعة وكائناتها ومن السَّماوات ومن الأفكار والرُّوحانيات وكلّ هذا ينسجه بطريقةٍ طيّعة، لأنَّ المفردة الشِّعريّة عنده منسابة كأنّها تتراءى على إيقاعات حلميّة سريعة.

تراه يفرش يراعه فوق ليلٍ بهيم، ثم يناغي حبور الوداعة، شاهراً سيفاً كي يفتح أسرار الذَّاكرة، لعلّه يصل إلى نصاعة ما يخبِّئه العقل. ولو جسّدنا ما يرسمه الشَّاعر من صور في لوحة بانوراميّة، لوجدنا تشكيلة لونيّة باهرة، فها هو يلتقط صفنة رصينة، أثناء هبوط اللَّيل، يفرش توشيحات ألوانه فوق وجنة الحجر، يغفو عند تخومها، حيث نكهة البهارات من حوله تفوح، حتّى شفاه الينابيع المتأتّية من مياه القمر، تبلِّلُ قلبه بضحكات طازجة من أعشاش الفرح. ولا ينسى أن يعود أدراجه مع قراصنة البحر، ليسألنا،

".. هل الحبر من زرقة السَّماء؟ مراراً رأيتُ حبَّات المطر مثقوبة بشفرة اليراعة .. ".

ولا ينسى أن يبارك أثداء الرَّحمة كأنَّها رذاذات غيمة،

".. حتماً سأعود مع تكعيبات لنماذج عقليّة تبارك أثداء الرَّحمة المتدلدلة من غابات الجَّوز ..".

ثمَّ نراه يغوص في تدفٌّقات أمواجِ البحر، مصوِّراً البحر كأنّه إنسان يحمل بين أجنحته مذكَّرات نبوخذ نصّر، ثم ينتقل إلى تصوير صبيّة عذراء معبّقة بشموخِ الجِّبال، حيث انتشار نكهة الطُّيوب على امتداد المدى قائلاً،"البحر يأتي مع كبكبات أمواجه حاملاً تحت ابطيه بعضاً من مذكَّرات نبوخذ نصَّر المدفونة تحت عروش سلالمه ..". "... ربَّما هذه الإنسانة العذراء القادمة من جبال الطّيوب تمتلك أرضا لا حدود لها."..

تنقلات بديعة تكتنف صور الأب يوسف سعيد، منطلقاً من قدَاسة القدِّيسين، وقداسة الأمكنة، مازجاً تآخي الأديان بين مآقي القصيدة حيث يقول،

"يقولون لي: حتماً قادم ذلك القدِّيس من سهول كربلاء، تاركاً لنصارى الحيرة بقايا أمشاط لبتولات النَّجف، وبضعة عظام من موتانا ..".

هناك غرائبيّة في صور الأب الشَّاعر، حيث ينظر عبر صورة شعريّة إلى الأشباح كمضمِّدين لجراح نسور في ثغور جبال آثور، ثم يتساءل فيما إذا ستعودُ مواكب روحه هاربةً من أشباحِ قريته،

"أشباح أخرى تضمِّدُ جراحات لنسور قادمة من معاقل لجبال آثور، .."..

"هل ستعود مواكب روحي مطرودة من أشباح قريتنا؟" ...

يشير الشَّاعر إلى أنّه أثناء موته سيتم اضافات ثرى جراح القصائد، وسيولد ثانيّةً، متقمِّصاً على حدِّ قوله بروح أمِّه، كما يشير إلى أنَّ الرَّب اختاره منذ الأزل في يومٍ مُحتفى بأغاني الحصَّادين. ثمَّ يجسِّدُ أحزان كركوك، ولم يرَ السفّاح في أزقّة المدينة، لكنّه يتساءل بنوعٍ من الأسى:

"هل هناك أكثر حرارة من بكاء أمي؟

قبالة جدار الأزمنة تُبان هامات القتلى في ساحات كركوك، وتبقى المدينة حاملة شعارات أحزانها ..". "أنا في ساعة موتي سأُولد ثانية. متقمِّصا روح أمِّي.".

وفي القصيدة الثَّانية الَّتي حملت عنوان: سوريّة، نرى الشاَّعر يعبِّر عن إعجابه في حضارة سوريّة، وفي أحجارها الغالية، وكهوف جبالها المعبّقة بشفق صباحاتها العذبة، حيث يقول،".. سوريا، أحجارها الثَّمينة، وكهوف جبالها ملوَّنة بشفق الصَّباحات المنعشة ..".

".. سوريا تحتسي في الصَّباح الأغر مع أطفالها حليب الخشوع، تاركةً شبَّانها في رقصات صوفيّة، متفصّدة حبَّاً، وأشواقها مقتطعة من أثداء غزواتها الرُّوحيّة عبر لمعان مناجل حصَّاديها. وتتناول عذاراها الجميلات من أرغفة البركات ثمَّ تتوارى مع نفحات فجر وليد".. ثمَّ يصوِّر لنا اخضرار مروج سوريّة الممتدَّة على مدى البصر، تملأ أرجاء المكان بأريج الياسمين والفلِّ والنّسرين والاقحوان، "سوريا تُبان كمروج خضراء فاغية معبَّأة بروائح زهرة الياسمين والفلَ والنّسرين ...

سوريا كاقحوانات مرسوم عليها انبجاسات لأصابع الفجر يغلِّفها صمت جبالها الرَّائعة في اطلالتها المعباة بشحنات من دفقات خمورها المعتقة .."..

كان الأب يوسف سعيد متعلِّقاً في سنواته الأخيرة في سوريّة، لأنَّه كان يرى فيها أريجاً وتاريخاً وحضارة سريانيّة وشرقيّة، توق عميق إلى عوالم سوريّة بجبالها وغاباتها ومروجها ومعالمها الأثريّة البديعة،

"سوريا، ترتِّق وجه الصَّباح الأغرّ بخيوط ألحانها الذّهبية، ورائحة غاباتها تستنشقها أسراب من نوارس البحر وغاباتها المزروعة بشجر التُّفاح والسَّفرجل البرِّي ..".

وفي القصيدة الأخيرة يناجي الشَّاعر شاكر السَّماوي عبر تدفُّقات شعريّة رائعة، حيث يقول،

".. قطفتكَ حبراً من شجرة وردة الكتابة، وكنتَ ترتدي قميص أشباحَكَ الورديّة. وتمخر كسفينة عبر زرقة السَّماء الصَّافية، وكنتَ الوجه الآخر، ممسوحاً بزبدة الكتابة، الرَّصينة جداً وكنتَ كالفهارس المنمَّقة ضلوعها، ومع هذا كنتَ تمخرُ عبر ضفاف الرُّوح، هائماً كقبرات عراقية ..".

ثم يكتب على مدى القصيدة عن الشَّاعر شاكر السَّماوي بأسلوب شفيف قائلاً، "وسيبقى شاكر السَّماوي همزة معقوفة على أنهار مواكب الماء، راحلاً عبر برازخ سماويّة باحثاً عن أبجديَّاتها الصَّامتة عبر قفار تحتضن مدناً عراقيّة.".

إن موقف الأب يوسف سعيد من الشُّعراء والكتّاب والفنَّانين موقف نبيل وبديع، حيث نراه يشجِّعهم ويقف إلى جانبهم ويقدِّم لهم النَّصيحة، ولا يتوانى دقيقة واحدة عن كتابة مقدِّمات لدواوين شعراء أصدقاء، ولشعراء في بداية الطَّريق ولشعراء مغمورين. وكلّ هذا فقط ليقدِّم أبهى ما لديه للآخر، كائناً مَنْ كان الآخر، فهو يتواصل مع الآخر ومع الكون والطَّبيعة والكائنات من منظور إنساني راقي، وما هذه القصيدة والكتابات الَّتي كتبها على الأصدقاء والأمكنة والحياة، إلا تعبير عميق على مدى عمق انسانيّته وتواصله الرَّاقي مع الإنسان ــ الأرض، ومع السَّماء ــ الرُّوح، أو الرُّوح ــ السَّماء، متوازناً مع كلّ ما هو أرضي وكلّ ما هو سماوي، وبهذا يكون قد أعطى حقّ الأرض والسّماء شعريّاً ولاهوتيّاً، وحقَّق الرِّسالة الَّتي كرَّس نفسه من أجلها عبر الشِّعر وعبر علاقاته وعبر رسالته الكهنوتيّة الَّتي أدَّاها بكلِّ أمانةٍ وإخلاصٍ. وسيبقى مثالاً يُحتذى به على كافّة هذه الأصعدة الرَّاقية وسيبقى شاعراً متميّزاً، ورائداً من روّاد كبار قصيدة النَّثر في العراق والعالم العربي، وصديقاً خلاقاً للكلمة والأصدقاء.

وفي آخر ديوان للأب يوسف سعيد الَّذي حمل عنوان: "أسلحة خاصّة لمتاريس الرُّوح"، نقرأُ نصّاً بديعاً، يتحدَّث فيه الأب الشَّاعر عن "زراعة الشِّعر"، هذا النَّص عبارة عن مدخل إلى فضاءات القصائد، لأنّه يتضمَّن رحيق الشّعر، فهو يقدِّم عبر النَّصّ رأيه في الشِّعر بأسلوبٍ شعري، وينظر إلى الشِّعر كأنّه زراعة، لهذا عنون نصّه بـ "زراعة الشِّعر"، فيقارنُ الشِّعر وخلود الشِّعر بحبَّات الحنطة وبذور الأزاهير والورود، وهذه الرُّؤية بحدِّ ذاتها دينيّة، حيث ورد في الإنجيل أن حبّة الحنطة لا تنمو إنْ لم تَمُتْ، ولكن الأب يوسف سعيد ربط ما بين الشِّعر والفكر الخلاق أيضاً.

ومن خلال قراءاتي لدواوين الأب يوسف سعيد وصداقتي العميقة معه خلال أكثر من عقدين من الزَّمن، تبيَّن لي واضحاً أنَّ الأب يوسف سعيد يحملُ بين أجنحته رحيق الشِّعر، وأراه مخضَّباً بالشِّعرِ ومجبولاً من طين الشِّعر، فهو يشبه نبتة وارفة معرَّشة بالإخضرار الدَّائم والعطاء الجَّانح نحوَ الشَّفافيّة، والصَّفاء، والمحبّة، والخير، والسّلام، والفضيلة، وكأنّه متدفِّق من أحلامِ طفولةٍ أزليّة، تبرعمت في أحشاءِ أمِّه في ليلة قمراء، وظلّت معرَّشة في كينونته الشّفيفة، مرافقةً له طوال حياته، إلى أن حلَّق عالياً، معانقاً زرقة السَّماء، تاركاً خلفه القصيدة ترفرف فوق وجنة الحياة!

إنَّ مَن يقرأ قصيدة أميريكا قراءة تحليليّة نقديّة دقيقة، يرى أنّها تتميّز بتدفُّقاته الرَّائعة، كبقيّة قصائده المتفرّدة في التَّدفُّقات الخلاقة ذات النَّفس الطَّويل، مع أنّه كتبها في إحدى زياراته للأهل في أمريكا!

اوراق بيضاء

والبديع في الأمر أنَّه لا يطرح نفسه ضيفاً، حيثُ يبحثُ أوَّل ما يحطُّ به الرِّحال عن أقلامٍ وأوراقٍ بيضاء، ويتوجّه نحو ركنٍ قصيٍّ، حتَّى ولو كان بلكوناً أو حديقة عامَّة أو أيِّ ركنٍ من أركان غرفة في الشّقّة الَّتي ينزل فيها ضيفاً في إجازته، فلا يكترث لأيِّ شيء حوله سوى الشِّعر، فتراه ينسى نفسه مع القصيدة، يكتب ويكتب ولا يرتوي من الكتابة، حتّى أنّه قال لي أكثر من مرّة، إنّه عندما يغوص في أعماق القصيدة ويتدفَّق، ينسى أحياناً المكان الَّذي فيه، فلا يعرف بالضَّبط أين هو؟ في منزله، في القطار، في حديقة، في استراحة، في طائرة ..؟ لأنّه يعيش لحظات ولادة النَّصّ بكلِّ جوارحه ومشاعره، فتهيمن عليه الحالة الإشراقيّة لولادة النّص هيمنة تامّة، فيستسلم لما تمليه عليه مخيَّلته من تدفُّقات وإشراقات وارفة بشهقة إبداعيّة موصولة، فلا يهمُّه شيئاً في تلك اللَّحظات سوى كتابة النَّص، لأنَّه منغمس في رشرشةِ مشاعره وعفويَّته وعوالمه فوقَ تربةِ النَّص، فتولد القصيدة من رحم الذَّاكرة البعيدة والخيال الجَّامح في أرضٍ خصبة، ولا يحتاج الأب يوسف سعيد إلى محفِّزات للكتابة، بقدر ما يحتاج إلى اقتناص الومضة الَّتي ترافقه لحظة انبعاث الاشراقة الشِّعريّة، فيستولدُ جُملَهُ الشِّعريِّة أحياناً كثيرة من وحي كلمة واحدة، فتصبح محور القصيدة، وتكون بمثابة الشَّرارة الأولى والومضة الشِّعريَّة المتجدِّدة على مدى مساحات النَّص، مركِّزاً أحياناً على مفردة واحدة، ربَّما تكون كلمة، أو اسم ما، أو فكرة ما، حالة انفعاليّة، موقف ما، أو عنصراً من عناصر الطَّبيعة، أو مدينة، دولة، قارّة، أو ربَّما تكون مفردة لها مدلول كبير في الطَّبيعة أو في فضاء السَّماء. غالباً ما يبني الأب يوسف سعيد عوالم وفضاءات النَّص من ومضة اشراقيّة، لأنّه مشحونٌ بطاقات دفينة للإستجابة للكتابة. ويشعر المتلقِّي أثناء قراءته لنصوصه الشِّعرية الطّويلة ذات النَّفس الملحمي، وكأنَّها لا تنتهي أبداً، لأنّه يُعيد ترديد الكلمة ذاتها عشرات بل مئات المرّات، وفي كلِّ مرةٍ يستخلق بناءً بديعاً جديداً، غالباً ما يكون شعره أجمل وأبهى من الشَّيء الَّذي يحتفي به. نراه يدخل في عوالم ماضيه وحاضره وخياله، فيتداخل الخيال في الواقع، فتتلوَّن الرُّؤى الفكريّة الَّتي يحملها، ثم يشطح إلى عوالمه العميقة وكأنّه في رحلة حلميّة باذخة شعريّاً، وهكذا يتدفَّق مثل زخّاتِ مطرٍ، يكتب ويكتب ولا يتعبُ حتّى من التَّعبِ، يبدو لك وكأنّه في بحر عميق الأغوار ينسابُ فرحاً، لأنّ نصّه يصبُّ في مرافئِ الفرح والسَّلام والمحبَّة والصَّفاء والسُّمو والارتقاء نحو نسائم الهواءِ العليل فوق أعالي الجِّبال. ويبدو لي أنّه لا يرى سوى روعة الحياة، وروعة السَّماء وروعة الجَّمال، وروعة الطّبيعة، أنّه شاعر يبحث ويترجم جمال روحه وجمال الطَّبيعة وجمال الشِّعر وجمال الحياة بكلٍّ تفرُّعات أهازيجها وأريجها، فلا يكترثُ بمادِّيات الحياة ولا يهتمُّ بنفسه، كزمن، كعمر، لأنّه يعتبر نفسه مسافراً في هذا الفضاء في ليلةٍ غافية على تواشيح خيوط الصَّباح، وجُلّ ما يهمُّه ويركِّزُ عليه في الحياة هو هذه القصيدة المسافرة في صباحٍ باكر إلى أعلى الأعالي، مسافرة بين زرقة الأعالي وبهجة الرُّوح، حيث بسمة الطُّفولة تطغى على كلِّ نصوصه وكأنّه طفل ظلَّ معجوناً بأجنحةِ الطُّفولة من حيث عفويَّة النَّص، ومن حيث براءة الرُّوح والتَّطلُّع والتَّعبير، مركِّزاً على ديمومة الشِّعر وأزليّته، حيث يشبِّه الشِّعرَ بالزَّهرة الَّتي تذبل وتذري أوراقها الرِّياح، لكن بذرتها تظلُّ في أخاديد وأحضان الأرض، فتنمو من جديد أثناء قدوم الرَّبيع وتكتسي ببهائها وبراعمها الجَّديدة، فتولد ثانية بذات الرَّوعة وذات القامة والجَّمال، ويعتبرها مستولدة ومستنبتة من جسمها الأصلي من خلال الحبّة والبذرة الَّتي تغفو بين أحضان الأرض، وهكذا يُعيد كلَّ شيءٍ إلى حبّة الحنطة وإلى بذرة الزَّهرة، ويبدو أنّه مصيب في رأيه إلى حدٍّ بعيد، وفي هذا السِّياق يعتبر الشِّعر مثلَ أيَّة زهرة أو نبتة أو كائن حي، لأنّه يرى كما جاء في نصِّ "زراعة الشِّعر":

"الشِّعرُ بكلِّ طاقاته وأفعاله ونموّ حركاته من حبَّة الشِّعر، والشِّعر حبَّة، براها اللَّه من عاطفة الشِّعر الَّذي لا يموت، فهو من مجدٍ أبديّ يتكوَّن ويتدفَّق ألواناً وروائح في أزليّته الأبديّة.".ثم يتوقَّف مستدركاً استمراريّة ديمومة الشِّعر الرَّاقي، وليس أي شعر، حيث يرى أنّه من الممكن أن يموت الشَّاعر ويموت شعره معه، ولكن الشِّعر الأصيل المفعم بالأصالة الشِّعريّة الخلاقة، باقٍ للأبد، من خلال بذرته الأصيلة، المنبعثة من أعماق الشّاعر، فلا تنضب هذه البذور، ويبقى رحيق الشِّعر عبر بذورها الَّتي تستولد عبر دورة الحياة، من جيلٍ إلى جيل!

برأيي هذه مدرسة أو رؤية غير مطروقة في عالم الشِّعر، لأنَّ الأب يوسف سعيد ينظر إلى الشِّعر من منظورٍ خلاق، صحيح هو منظور شخصي وفردي غير أكاديمي، لكنّه يحمل في ثناياه رؤية عميقة، لأنَّ رؤيته شاعريّة خالصة، فهو مفطور ومجبول بالشّعر، لهذا رؤاه مستنبتة ومبرعمة في كيانه الشَّفاف من منظور فطري، روحي، إنساني، طفولي، وهنا أودُّ التَّوقُّف عند تجربة الأب يوسف سعيد كشاعر مبدع وحداثوي من الطِّراز الرَّفيع، ومن روّاد الحداثة الشِّعرية في العالم العربي.أتساءل كيف تجاهل النُّقّاد هكذا تجربة شعريّة فريدة من نوعها، كلّ هذه العقود من الزّمان، فهل يعود السَّبب إلى النُّقاد أم إلى المؤسَّسات أم إلى الأب يوسف سعيد نفسه، لعدم قدرته ومعرفته في ترويجِ شعرِهِ ووضعهِ في المقامِ الصَّحيح؟! من جهتي أضع الملامة على كلِّ تلك الجِّهات بما فيهم الأب يوسف سعيد، ولكن عتبي وملامتي على الأب يوسف سعيد تضعف إلى درجة أنّني أسحب عتابي عنه كلِّيَّاً، لأنّه بالأساس كان شاعراً لا يبحث عن شهرةٍ أو جاهٍ، ولا عن نقَّادٍ يكتبون عنه ولا يبحثُ عن ترويجٍ لشعره وما كان يفكِّر بالأرضيات، حتّى أنِّي أكثر من مرّة عاتبته في مسألة في غايةِ الأهمِّية، حول موضوع إرساله عشرات القصائد والنُّصوص إلى جريدة القدس العربي ونشرها، دون أن يحتفظَ بنسخة أصليَّة ولا بالنّسخة المنشورة، فتضيع الكثير من نصوصه وقصائده مع الزَّمن، فكان يقول لي، فعلاً لا بدَّ من أرْشَفةِ أشعاري، ولكنِّي لا أبحث عن الشُّهرة ولا عن جاهٍ أو مجدٍ لأنّها أمجادٌ آنيّة زائلة مردِّداً: "إنَّما المجدُ لمَن يأبى المقام

كيف يكتب الأب يوسف سعيد القصيدة؟

لا أحد يعلم كيف يكتب الأب يوسف سعيد القصيدة، حتّى هو نفسه لم يشرح لنا كيف يكتبُ القصيدة، كلّ ما قاله هو أنَّه "وُلِدَ شاعراً وسيموتُ شاعراً"، ولكن بالرُّغم من كلِّ ما قاله الأب يوسف سعيد في هذا السِّياق، أرى أنَّه تشرَّب رحيق الشِّعر منذ باكورة عمره وهو يدرس الرَّهبنة، حيث كان يحصل على كتب جبران خليل جبران وغيرها من الكتب ويقرأها، مع أنّ قراءتها كانت ممنوعة في الدِّير، إلا أنَّ الأب يوسف سعيد ما كان يتقيّد بتوجيهات وتعليمات الدِّير نفسه، لأنّه كانَ متمرِّداً على هكذا قرارات مجحفة بحقِّ الرّهبان وحقِّ الإنسان، وقد ظلَّ متمرِّداً على كلِّ ما هو غير مقنع لعقله ولذاته وطموحه وتطلُّعاته، ظلَّ يحمل قيماً رائعة طوال حياته، كالمحبّة والمسامحة والصَّفاء والسُّموّ والنُّبل، وقيم الخير والسَّلام والعطاء، وهكذا ترعرعَت شخصيته بكلِّ هذا الصَّفاء الرُّوحي والذِّهني، وتشكَّلت عنده طاقات فكريّة وتطلُّعات جديدة في الحياة، فلم يجد أرقى من ترجمتها عبر الشِّعر، فبدأ يكتبُ كتاباته الأولى بأسماء مستعارة، لأنَّه ما كان مسموحاً له الكتابة في الدّير، وحالما وجد فسحةً من الحرّيّة بدأ يكتب مترجماً عوالمه بإسمه الصَّريح، ورويداً رويداً بدأ يكتب الشِّعر علناً وينشره بإسمه بدون أيِّ تردُّد، وتوقَّف عن متابعة الدِّراسة في الرَّهبنة، استجابةً لنصيحة أحد الرّهبان الَّذين سبقوه في الرَّهبنة، وتزوَّجَ ثم رُسِمَ قسيساً في إحدى كنائس كركوك.

تواصلَ الأب يوسف سعيد مع موجودات الحياة بحساسيَّة مرهفة جدّاً، توقَّف عند هطول رذاذات المطر،

وكتب شعراً عن النَّدى، عن المطر، عن رابية جميلة، عن الهواء العليل المنساب من ثغورِ الجِّبال، عن

النّوارج، وعن الحصاد في مواسمه الأخيرة، عن الشَّمس وهي في أوج إشراقتها وفي أوَّل بزوغها وعند غروبها وفي كلِّ مراحلِ سطوعها، كما أنَّه يرى أن رغيف الخبز الَّذي نأكله يتحوّل رحيقه إلى دم الشِّعر، وهكذا يتماهى مع انبعاث الشِّعر من أعماقه، كأنَّه جاء إلى الحياة ليكتب لنا شعراً من أقصى ظلالِ براري الرُّوح، وكي يقول لنا أنَّ الشِّعر ومروج السَّماء توأمان لإنتعاش الرُّوح، والرّوح هي منبع تدفُّقات الشِّعر الصَّافي، لهذا نرى نصّه ينساب ما بين النُّزوع الرُّوحي والمادِّي، فالجَّانب الصُّوفي اللاهوتي والجَّانب الأرضي صنوان متلازمان في أغصان القصيدة عند الأب يوسف سعيد، ويسربل هذه التَّدفُّقات بإيقاعٍ سريالي أحياناً وترميزات وتشبيهات بديعة أحياناً أخرى.يكتبُ نصَّه متنقلاً من صورة إلى أخرى، يأخذك إلى مساحات فسيحة، لا يمكن التَّكهُّن بما سيأتي بعد أيّةِ جملة، حتّى أنّكَ أحياناً تشعر أنَّ لكلِّ جملة شعريّة عالمها الخاص، المتميّز والمتفرِّد، وعندما تسأل الأب الشَّاعر عن سرّ هذه التَّنقُّلات المتعدِّدة في غزارة الصُّور الشِّعريَّة، يضحك بكلِّ فرحٍ قائلاً، لا أعلم كيف حبكْتُ كلّ هذه الصُّور، ثمَّ يسألُك بدوره هل فعلاً أنا الَّذي كتبَ هذه الصُّور الشِّعريّة؟! فيدهشُكَ سؤاله، كما يدهشُكَ شعره! .. وهنا أتساءل ماذا قدَّم رامبو، ونيرودا، وإيليوت، وجبران، وأدونيس، وأنسي الحاج والماغوط وغيرهم كثير في عالم الغرب والشَّرق، أجمل وأرقى ممَّا قدَّمه الأب يوسف سعيد في بناء إشراقات الجُّملة الشِّعريّة الخلاقة؟!

أتوقَّف هنا على سبيل المثال، عندَ ديوان رامبو "فصل في الجَّحيم"، والَّذي قرأته عدة مرَّات، أعجبني بكلِّ تأكيد، حتّى أنَّ الأب يوسف سعيد نفسه، كان معجباً جدَّاً برامبو بما فيه هذا الدِّيوان، ولكن مع كلّ هذا لم أجد رامبو في ديوانه هذا متفوِّقاً أو متقدِّماً عمّا قدّمه الأب يوسف سعيد في ديوان "السَّفر داخل المنافي البعيدة"، وديوان "فضاءات الأب يوسف سعيد: الأرض التُّراب السَّماء الماء"، أو ديوان "الموت واللُّغة"، الَّذي كتبه في بـيروت وهو في الثلاثينات من عمره، وغيرها من الدَّواوين. ديوان رامبو

لا شكّ أن ديوان رامبو، "فصل في الجٍّحيم" رائع جدّاً، لكن الأكثر روعةً هو نصّ الطُّفولة للأب يوسف سعيد، والَّذي يعتبر مدخلاً بديعاً لعوالم طفولته، وكم أنا سعيد أنَّني سجّلت القصيدة كاملةً بصوت الأب الرَّاحل في إحدى لقاءاتي التِّلفزيونيَّة معه، ستبقى بالصَّوت والصُّورة مرجعاً هامّاً للأجيال القادمة ومثالاً حيَّاً للنقّاد والباحثين في أصالة وحداثة شعره الخلاق.يبدو لي بكلِّ وضوحٍ أنَّ الأب يوسف سعيد استمدَّ شاعريَّته وتدفُّقاته من فضاءات الكتاب المقدَّس، بعهديه القديم والجَّديد. ومن هذا المنظور يبدو لي وبكلِّ وضوحٍ أيضاً، أنَّه متصالحٌ بصفاءٍ كبير مع ذاته ومع الآخر، كائناً مَنْ كان هذا الآخر، فلو كان رجالات الدِّين المسيحي بهذه المصالحة الرّاقية مع الذَّات ومع بعضهم بعضاً، لكانت المسيحيّة والمسيحيّون بألف خير! ولو كان رجل الدِّين الإسلامي متصالحاً مع ذاته ومع ذوات الآخرين بهذا الصَّفاء، لكان الإسلام والمسلمون بألف خير ولو كان رجل الدِّين اليهودي متصالحاً مع ذاته ومع ذوات الآخرين بهذا الصَّفاء، لكانت اليهوديّة واليهود بألف ولو كانَت الأديان كلَّ الأديان على وجه الدُّنيا، متصالحة مع ذاتها ومع الأديان الأخرى بهذا الصَّفاء الَّذي اتَّسم به الأب يوسف سعيد، لكانت البشريّة بألفِ ألفِ خير.

إنَّ الشَّاعر المبدع الأب يوسف سعيد، هو الأب الرُّوحي الَّذي فهم الدِّين بكلِّ أعماقِهِ وسموِّهِ وفضاءاته، وعناقه مع الأرضِ والسَّماءِ، لهذا كتبَ شعراً منبعثاً من وهجِ السَّماء ومن مآقي الزُّهور، شعراً مستنبتاً من نضارةِ الرًّوح ومُعبَّقاً بنكهةِ المطر

- هذه كانت رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة عند الشَّاعر المبدع الأب يوسف سعيد، وقد أجريت معه حواراً على ثلاث حلقات عبر فضائية صورويو تي في، كما تمَّ تسجيل حلقة رابعة، قراءات شعريّة لم تُبثّ بعد، تناولت قصيدة الطُّفولة كاملة! وأجريتُ معه حوارَين آخرين في منزله حول تجربته الأدبيّة والفنيّة، عن طريق المصوِّر البارع شكري لازار، والَّذي سجّل وقائع حفل التّأبين الأدبي الَّذي أقمناه في سودرتالية بمناسبة أربعينيَّة الأب الرَّاحل يوسف سعيد.

وهكذا يرحلُ الشَّاعر وتبقى القصيدة ترفرفُ عالياً فوقَ وجنةِ الحياة!

sabriyousef1@hotmail.com