مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي / 15 والاخيرة

بدء بواسطة بهنام شابا شمني, مارس 03, 2014, 08:34:32 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

بهنام شابا شمني

مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي

والمنشورة في كتابه ( يوميات غجري لا يُجيد الرقص )*


* ( يوميات غجري لا يجيد الرقص ) كتاب للبروفسور باسيل عكولة البرطلي طبعة بيروت 1972 جميع احداثه تعود لما قبل سنة 1950 .
سنقوم بنشر وعلى شكل حلقات ما جاء في كتابه هذا عن ذكرياته التي تتحدث عن برطلي  .




الحلقة الخامسة عشرة والاخيرة


كان ذلك كافيا ليفقد والدي معنى بقائه . لم تعد حياته تعني شيئا . فالسل حينذاك كان غير قابل للشفاء . وانهار رجاؤه فجأة كناطحة سحاب من ورق . كان يتوقع ان تثمر اتعابه ، فانهي دراستي وابدأ بتحمل مسؤولياتي تجاه اخوتي . وكان يحلم دون شك بان يرى تعاستنا تنتهي بفضل جهودي . كان جبارا يؤمن بالمستحيل . فكم من مرة رايته يزرع شجرة زنزلخت في ساحة البيت ويسقيها رغم ندرة الماء عندنا ويراقب كل يوم نموها ، حتى اذا اقبل الصيف وجفت اعاد الكرة في الشتاء وهكذا دون انقطاع . كان يقدم على كل عمل دون خوف من المغامرة . وكان يحبني كذاته ، يرى فيّ استمرار بقائه . كل شيء في نظره تغير بعد مقابلة قريبنا ، ولم يعد يؤمن ان الشتاء سينتهي وهو على قيد الحياة . وكأنما شعر بضربة فأس على رأسه افقدته اتزانه ، ففقد الاتجاه الصحيح .
عاد الى البيت حالا ، فأسرع في استدعاء احد الاغنياء وباع له دون مساومة اثمن واخر قطعة كان يملكها . كانت الثروة الوحيدة التي اراد ان يتركها لنا لانها لؤلؤة املاكه .
لم يعد لاي شيء قيمة في عينيه سوى ابنه الاكبر الذي يجب انقاذه . وحمل الدراهم الى ادارة مدرستي ، بعد ان مون البيت بالشعير والسمن . كان المبلغ تافها . وعلاج ذلك المرض يتطلب مالا وزمانا . واراد ان يقابلني ، فلم يسمح له المدير لئلا يتأثر . فعاد الى البيت وهو متيقن من ان لا امل في شفائي . وتخلى عن العمل منذ ذلك النهار واخذ يتنقل من ظل حائط الى عتبة الدار  ويبعث بشقيقاتي الى العمل في نقل التراب والحجارة وفي كل شيء ليساهم في لعلاجي . لا ادري ما حدث . اذ تحسنت صحتي بعد اسبوعين فقط ، فعدت الى القرية متفائلا . وكان والدي يجلس قبالتي ويراقب هزالي واصفرار وجهي ويصمت حتى اذا اخذني النعاس بكى وبكى طويلا . واكدت لي شقيقتي الكبرى انه كان يبكي كطفل مرددا قول الكتاب المقدس : يا رب انا اخطأت فما ذنب الخراف الوديعة ؟ يا رب اقبل روحا مقابل روح . انني اترجم قوله الى العربية دون التقيد بالنص الوارد في الكتاب . ما يهمني هو المعنى لا النص . كانت عيناه الحادتان لا تفلتان وجهي ، فلا يجد تغييرا اساسيا وسريعا في صحتي ، فيزيد في تعميق نظره في عيني الغائرتين كمن يريد تقدير خطوط المستقبل فلا يرى تحسنا فيشتد قلقه وخوفه حتى يبلغ حد اليأس ، رغم كل التاكيدات التي كان يعتبرها من نوع التطمينات الكاذبة . كان يصرف علي بسخاء ويوفر اللبن والحليب والبيض واللحم لطعامي ، بينما كان يكتفي هو ووالدتي وشقيقاتي بالعدس والبرغل ، او الخبز وحده . كنت اشعر بعودة قواي ، فاخبره فيزداد كآبة ، ويلازم فراشي ولا يغادر البيت الا لحاجة ضرورية . وعمقت التجاعيد في جبينه وفارقته الضحكة المجلجلة ، واصبحت انا بالنسبة اليه محور اهتمامه . كان يريد ان يموت قبل ان يرى موت حلمه وطموحه واستمراره . اظن انه كان يشعر بنفسه عاجزا عن رؤية البيت الذي شيده بكل ذلك الصبر والتعب والامل ينهار مرة واحدة امام عينيه ...
لن انسى يوم ودعته للعودة الى مدرستي في بداية ايلول . سألته بعض الدراهم لمصاريفي الخاصة ، فتطلع الي ـ وهو متمدد على الارض يسعل ويدخن ـ فقرأت في عينيه كل سفر ايوب . لا اظن ان ابراهيم كان يتحرق على اسحق فوق الجبل كما كان يتحرق هو لحالتي . ومد يده تحت الحصيرة التي كانت تؤلف سريره واخرج نصف دينار كان كل ما تبقى له وقال لي والدموع في عينيه : خذ نصف المبلغ لك واترك لنا نصفه . وشعرت حينئذ بان شيئا مهما حدث ، وبان والدي الذي لم اشاهده من قبل يبكي او ينحني ، اصابته ضربة خطيرة . قبلته وانطلقت الى مدرستي قلقا ، لكنني لم افكر لحظة واحدة انه سيموت بعد اسابيع بسببي .
كانت صحتي تتحسن باطراد فابعث اليه باخباري ليطمئن . كان من جيل الرجال الذين خلقوا من فولاذ ، ينكسرون ولا يلتوون . قرر في اعماق ذاته ان يموت ما دمت انا مسلولا لا امل من شفائي ، فانكسر ذات صباح كقطعة زجاج في زاوية من دارنا الحقيرة وهو يسأل لي من الله الحياة .
كيف سمعت نبأ وفاته ؟ كنت في حينه مصابا بذات الجنب ، لا اقوى على الحركة وحرارتي نحو الاربعين ، عندما جاءني احد اساتذة المدرسة قائلا : هل تعرف ان والدك مريض منذ مدة ؟ اجبته : نعم ، اخبرني اهلي بذلك البارحة  وطمأنوني عنه . ونظرت في عينيه وراء نظارتيه لارى اذا كان يخفي شيئا . لم يقو على اخفاء اضطرابه وتاثره ، فتقدم مني وجلس على حافة سريري وامسك بيدي وقال : والدك الان في السماء . فبكيت وبكيت ولم أشأ ان افكر في السماء ولم افهم لماذا يحدث امر مثل هذا ؟ لماذا يموت انسان نحبه ؟ لماذا يموت والدي دون ان اراه ؟ لماذا يموت وانا مريض في سريري لا اقوى على الحركة ؟ لماذا لماذا ؟ كم كان الاستاذ رقيقا ! حاول قدر طاقته ان يخفف عني وان يعزيني . لكن الخبر كان اقوى من ان تنسيني اياه عبارات فارغة مهما كانت الدوافع نبيلة . كنت اتوقع انهيار الاهرامات ولا موت والدي بتلك السرعة . ناولني الاستاذ قرصا من الكافئين كان المسكن الوحيد الموجود في صيدلية المدرسة . رفضت مرارا ، ثم قبلت نزولا عند الحاحه . تركني وهو يفكر بان القرص سينومني . اغلقت الباب ورائي واسندت راسي على وسادتي ، ثم بكيت حتى لم اعد اقوى على البكاء . فغفوت ولما افقت قصدت الادارة رغم الحرارة المرتفعة وطلبت اذنا بالسفر الى القرية للاشتراك في تشييع جثمانه . كانت تعاسة عائلتي تحرقني كثيرا وانا اتصور والدتي وشقيقاتي يتسولن ثمن الكفن وحفار القبر واجرة رجال الدين . من اين ستجد والدتي المال اللازم ولم يبق لنا غير جثة والدي ، والحصيرة التي كان ينام عليها وبعض القدور النحاسية القديمة ؟
لكن الادارة رفضت السماح لي بالسفر ، بناء على اوامر الطبيب المشددة . وها انا حتى اليوم اتألم كلما فكرت بان الوجه الذي احبني حتى الموت دفن دون ان اراه . ثم علمت بعد بضع سنوات ان والدتي اشترت كفنا من القماش الابيض بالدين ، وان والدي نقل في تابوت حقير غطي بلحافه المهتريء ، وان كثيرين تطوعوا لحمله . ولم تتمكن والدتي من دفع ثمن صندوق من خشب الصفصاف سعره دينار واحد ، فالقي في الحفرة التي دفن فيها ابوه ، ثم طمروه بالتراب . كان الجميع في القرية يحبونه ، فشيعه الفقراء وبكت نساء كثيرات عليه . وكم بكيت عندما رايت قبره تحت حائط الكنيسة القديمة في مقبرة القرية ، حين زرته وصليت لراحة نفسه . لاحقته التعاسة حتى في القبر ، اذ لم تتمكن عائلتي من بنائه بالجص والحجر كقبور افقر الفقراء هناك . كان ضائعا بين اشواك ( رجل الديك ) متميزا عن القبور الاخرى بسطحه الترابي . لم اجد عليه لوحة تحمل اسمه ولا صليبا حقيرا من خشب . ورفعت عيني الى السماء اسال عن سبب كل ذلك الشقاء ، فلم اتلق جوابا . فعدت الى البيت وسالت عن حصيرته فجلست فوقها وبكيت مرارا .
كم اتمنى لو اقول فيه كلمة تابين قصيرة . ذكرني موته بالبجعة تجرح قلبها وتطعم فراخها حتى اذا سالت دماؤها ماتت على مهل على الشاطيء . لا اظن ان احدا قال عنه كلمة حتى كاهن الضيعة . مات دون ان يحدث فراغا ما في القرية التي عاش فيها اكثر من ستين سنة ، وترك وراءه حصيرة مهترئة وقليلا وقليلا من التبغ في كيسه وصورة لا تزال حتى اليوم حية في قلوبنا . واراد الاقارب ان نهدم البيت القديم الذي عاش فيه ، فقررنا معا ان نبقيه لنرى الحيطان السود وآثار البصاق عليها ، وهي الشاهد الوحيد على حياته .
كان موته في عيون تعساء قريته اتفه من موت دودة وفي عيوننا اشد وقعا من سقوط كاتدرائية او ضياع الالياذة ، وكان نهار موته لنا اكبر من نهار جمعة حزينة .


د . وديع بتي حنا

يا لبؤس الزارع والساقي والساهر , حتى موعد نداء الرب , وهو لم يتلذذ قط بثمرة ما بذرت يداه وهي تختبئ في فمه كما يختبىء السكر في حبة العنب . و يا لشقاء الشجرة المعطاء وهي ترى انها باتت طعاما للجياع والمتخمين , للبسطاء واصحاب الجاه على حد سواء , لكن القدر لم يمنحها الفرصة قط لتفي بالدين لمن يملك سند الملكية فبات قلبها يعاني حسرة الحصول على براءة الذمة .
الشكر الجزيل لموقع برطلي نت على منحنا متعة التلذذ بهذه الوجبات التي هي بحق كم هائل من السعرات للعقول والقلوب , وكم هو جدير ببرطلي وابنائها ومؤسساتها ان تكون سخية كريمة في الاحتفاء باعلامها الكبار  كالبروفسور باسيل عكولة والاحبار الاجلاء صليبا شمعون و متي متوكا والدكتور يوسف متي اسحق  وغيرهم كثير , وهم حضور بيننا أطال الرب في اعمارهم جميعا , فان الشموع التي تضيء للكثيرين تستحق ان تلبس رؤوسها التيجان في كل وقت وحين وبأبهى الطقوس والمراسيم .

اكرر رجائي في قبول خالص تحياتي

اخوكم
وديع
مدريد