مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي / 14

بدء بواسطة بهنام شابا شمني, فبراير 24, 2014, 08:09:25 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

بهنام شابا شمني

مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي

والمنشورة في كتابه ( يوميات غجري لا يُجيد الرقص )*


* ( يوميات غجري لا يجيد الرقص ) كتاب للبروفسور باسيل عكولة البرطلي طبعة بيروت 1972 جميع احداثه تعود لما قبل سنة 1950 .
سنقوم بنشر وعلى شكل حلقات ما جاء في كتابه هذا عن ذكرياته التي تتحدث عن برطلي  .




الحلقة الرابعة عشرة


لماذا توفي والدي وهو في الثانية والستين ؟ شقيقتي الكبرى لا تعرف الا سرد الواقع دون تحليل طبي . وعلمت بعدئذ من مصادر موثوقة انه مات بسبب هبوط في القلب . تحدث الي عمي من وراء الحائط الذي يفصل دارينا ثم طلب سيكارة ودخنها وانطفأ كالنار في الورق او الهشيم .
لا استطيع ان اتذكر هذه الحادثة دون ان اشعر بالتنمل يصيب يدي ، فاتوقف مدة عن الكتابة . مات والدي بسببي . قتلته دون ان ادري . كان يحبني ويعلق علي آمالا كبيرة وينتظر بصبر نهاية دروسي ليستريح قليلا . كان عصاميا باع املاكه قطعة قطعة وباسعار بخسة ليطعمنا . وبعد ما ان انتهى كل شيء انصرف الى العمل حاصدا في المواسم ، وما يزال الجميع يتحدثون عن مهارته وقوته ورشاقته . كان على ما يحكى سيد من امسك منجلا ونزل الى الساحة . اما في الايام الاخرى . فاشتغل اجيرا وعامل بناء وحفار خرائب وسقاء وخادما لراهبات الضيعة . كل ذلك في سبيلنا . لم يخلف والدي لنا ثروة ولم يترك وراءه دينا ، لكنه خلف لنا رأسمالا من الكرامة لا نزال نحتفظ به . لم يمدد يده لانسان ولم يحن هامته حتى لاسقف الابرشية . لم اسمعه يتذمر او يتشكى . كان هادئا امام التعاسة يتصرف معها كمن يتصرف مع حيوان قذر اليف ، لكنه كان يثور اذا ما تجرأ احد واصاب كرامته بكلمة او اشارة . تعلمت منه ان اظل رافع الرأس لا اقبل كتف انسان ولا ارضى بالتذلل مهما كانت مبرراته. كنت اسمعه يردد دائما باللهجة البدوية بيتا من الشعر العامي لا ازال اذكره جيدا ؛
( عندما اقبلت باض الحمام على الوتد
                              ولما ادبرت بال الحمار على ابن الاسد )
كان تصرفه رواقيا فيه شيء من احتقار العذاب الذي تعود عليه لكثرة ما رافقه والاستسلام لواقع لا مفر منه ولا يستطيع باي شكل تغييره . كانت السنوات الاخيرة قاسية جدا ، اذ بلغ منتهى الفقر ، فابيض شعر رأسه واحدودب ظهره وتجعد جبينه . لكنه بقي صامدا يشتغل ويبحث عن لقمتنا وفي عينيه حيوية عنيفة تكشف عن مدى عناده واصراره المجابهة .
قلت : انا الذي قتلته ، واضفت ان ذلك حدث بصورة لا ارادية ودون علم مني . عرفت الحقيقة بعدئذ وسوف احمل مرارة اشتراكي في هذه الجريمة بكل تواضع . كان والدي ، رغم الشيخوخة وثقل العذاب ، ما يزال نشيطا عندما طلب الى اساتذتي بعد زيارة لنا في تموز ان آخذ صورة بالاشعة لصدري بناء على نصيحة من طبيب المدرسة . كانت النتيجة ايجابية ، اذ كشفت الصورة عن اصابتي بالسل في رئتي اليسرى . واشار علي الطبيب بالمعالجة . رغم ان فحص البصاق كان سلبيا . كانت هذه النتيجة في حينه بمثابة حكم الاعدام ، لان مضادات الحيويات لم تكن قد اكتشفت بعد . والعلاج الوحيد كان البنسلين .
لم تشأ الادارة اطلاع والدي مباشرة بالامر ، فاتصلت بقريب لي في المدينة وطلبت اليه القيام بالمهمة بحكمة ، كان غنيا ومثقفا وعالما بالادب واللغة وله مكانة في محيطه . فما كان منه الا ان ارسل وراء والدي الذي اسرع حافيا بلا حزام . كان القريب جالسا في فناء قصره على دكة من الطين يحيط به كبار القوم ، جاؤوا للاستماع الى علمه وشرب قهوته . كان عالما جاهلا بكل معنى الكلمة وكان جلساؤه كبارا بعمائمهم وكروشهم لا غير .
كان قريبي الذي لن أذكر درجة قرابته لئلا أكشف هويته يكره والدي لأسباب أجهلها ، أهمها فقرنا . كان يقيم في العاصمة ويقصد قصره في القرية شهرا في كل صيف ، فيعيش عيشة السادة متبعا برنامجا دقيقا رسمه لنفسه وجعله في نظر الأغلبية شخصا فريدا يتحدثون عن علمه وغناه ومكانته دون أن يجرأوا على التقرب منه أو الكلام معه . كان نادرا ما يفتح شفتيه لتسقط منه ابتسامه عابرة فيما هو يقطع الطريق بين قصره والكنيسة . أتخيل كيف كان الجميع يلاحقون خادمه وهو يذهب إلى المدينة خصيصا للتمون . كانت رائحة المشويات والسمك المقلي والباميا تفوح من مطبخه فيشمها القرويون المساكين من بعيد ويستنتجون بأن شخصا كبيرا يقيم بينهم . كان يحدد ساعات الزيارات وكأنه إمبراطور اليابان ، فلا يفلت احد من إجراءات البرتوكول . وكان يغلق باب الفناء في الوقت المحدد وينزع حذاءه حسب البرنامج دون أن يسرع أو يتأخر دقيقة ويلبس (( دشداشته )) المخططة بالأبيض والأزرق ويمسك بيده مروحة من ألياف النخيل ويتكئ على (( تخت )) من الخشب ثم يتحدث إلى القلة المحظوظة التي كان لها حق الدخول عنده بعد إغلاق الباب . كان والدي يقول انه غريب الأطوار منطو على ذاته مصاب بعقدة العظمة . وقد تأكدت أنا بنفسي بعدئذ مدى صحة تقديراته .كان صورة معاكسة لوالدي الذي لا ينقطع عن الضحك ويقول ما يفكر به ، مهما كانت القضية والظروف ، يعرف إن فقره لا يسمح له بالتظاهر بالكبرياء فتعكس طيبته الفطرية ووداعته النبل والعظمة الباطنية اللذين يغذيان تصرفاته . بينما كان قريبي على شهادة أكثرية الناس يحتقر الفقراء ولا يرغب في الاختلاط بهم ، ينتقد قذارتهم وجهلهم باستمرار ، كأنه ليس أبن تلك القرية ، ناسيا عمامة أبيه أو قميص والدته وبيته القديم الحقير كبيتنا . كان والدي وحده يعرف مدى بخله وأخلاقه الغريبة .
كان هذا القريب يستحي من أصله القروي ولا يتحدث أبدا بلغتنا . وفي بعض المناسبات ـ وكانت دائما تتكرر في أوقاتها وأشخاصها ـ يدعوا بعض المعلمين أو أعيان المدينة إلى مائدته . مسكينة والدتي . كانت تشتغل طول النهار السابق للوليمة لتعد (( الكبة )) التي كان يصر على وجودها . وكانت تردد وهي تدق البرغل واللحم في الجرن الحجري الكبير بمدقة خشبية يزيد طولها على المتر : عنده وليمة ... عنده وليمة . كانت تذكر أسم القريب قبل جملة : عنده وليمة . ثم تعد أسماء المدعوين واحدا واحدا مرارا ، وكأنها تشعر بتعويض عن تعاستها ، حتى إذا دقت الساعة المعينة حملت هي (( قدر الكبة )) ونحن وراءها نحمل العدة حتى إذا وصلنا إلى باب القبو حيث نصبت الطاولة وضعتها والدتي على الأرض وسألته إذا كان يريد خدمة ما فيشير إليها بالرجوع فورا قبل وصول السادة ويأمرها بإخراجنا معها . كنت أركض وراءها ممسكا بطرف ثوبها وأنا أفكر بأن أصحاب (( السدارات السوداء )) سيأكلون تعب والدتي خلال ساعة ، ثم يعودون ليرقدوا كالعجول إلى جانب نسائهم . كان يخجل من والداي ومنا ـ لقذارة ثيابنا ، وبدلا من أن يساعدنا ماليا كان يأنف من الإمساك بيدنا . كان يفضل قطته علينا ألف مرة . يجب أن أكون صادقا . كان يتصدق علينا دائما بفضلات مائدته بعد كل وليمة ، فنجتمع حولها كالكلاب .
وكان والدي يعارض والدتي في هذه القضايا ويعتبرها ماسة بكرامتنا ، فتثور هي معتبرة اعتراضه طعنا بقريبها ، فيسكت إنهاء للمشكلة . كان يستدعينا ، كل على حدة ، أو معا في غياب والدتنا ، ويأمرنا بعدم الذهاب إلى القصر ، فكنا نطيعه حتى أصبحت صورة هذا القريب مع السنين كريهة في أعيننا وأصبح نبأ مجيئه مزعجا لنا ، رغم الفضلات التي كان يتصدق بها علينا .
اظن ان نية الادارة ـ على ما عرفت بعدئذ ـ كانت في ان تثير اهتمام هذا القريب بقضية علاجي ، فهي تعلم حالة عائلتي البائسة ، لا سيما وهو ثري قادر على ذلك دون ان يصاب باذى ، ولم تتوقع الادارة ابدا ان تكون ردة الفعل معاكسة . فما ان وصل والدي الى المجلس حتى بادره ( قف مكانك . ولدك الكبير مسلول . اخبرتني الادارة البارحة بالامر ) .