مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي / 12

بدء بواسطة بهنام شابا شمني, فبراير 07, 2014, 09:08:51 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

بهنام شابا شمني

مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي

والمنشورة في كتابه ( يوميات غجري لا يُجيد الرقص )*


* ( يوميات غجري لا يجيد الرقص ) كتاب للبروفسور باسيل عكولة البرطلي طبعة بيروت 1972 جميع احداثه تعود لما قبل سنة 1950 .
سنقوم بنشر وعلى شكل حلقات ما جاء في كتابه هذا عن ذكرياته التي تتحدث عن برطلي  .



الحلقة الثانية عشرة

         
لا اعرف لماذا كنت اعتبر الكاهن غولا . أظن أن السبب هو والدتي التي كانت تردد علي كلما أقدمت على حركة لا ترضيها ، كأن أطارد قطة أو اكسر قدم دجاجة : (( سأخبر أبانا الكاهن ليقص لسانك )) . كنت كلما رأيته تخيلت مقصا كبيرا في جيبه كمقص الخياطات أو الحلاقين ، فأهرول كحصان شارد كلما لمحت ثوبه الأسود من بعيد أو سمعت سعاله عند جارنا لئلا أتلاقى معه . كانت تهديدات والدتي المتواصلة وإصرارها على أن طيرا ما ينقل إليه كل ما أفعله من عصيان وجرائم ، وترؤسه الصلوات الطويلة التي كنا ملزمين بحضورها تزيد في خوفي منه وكراهيتي له . كنت أحب رائحة البخور في أثناء الصلاة وأتمايل كالسكران على مقعدي على أنغام أناشيدهم ، فيقلدني رفاقي ، كما في إحدى حلقات الذكر . ويشتد الحماس بنا أحيانا ، فنصفق بأيدينا ونطرق الأرض بأرجلنا ، حتى إذا استدار الشماس نحونا هربنا كسرب من الإوز أو تسمرنا في أماكننا كعصافير أبصرت باشقا .
كنت أحب كثيرا صوت الجرس يدق في أوقات الصلاة ، لا سيما أيام الأعياد . كان خادم الكنيسة يتكاسل عن القيام بعملية قرعه ، فيشير إلينا بانجاز المهمة . كنت في السادسة أو السابعة من عمري خفيفا كجذع صفصافة فارغ وجاف ، فأدعو جمعا من رفاقي ونسرع إلى الحبل ، نمسك به كالفئران ونشده نزولا فيرتفع بنا ويتحول الحبل إلى أرجوحة فلا نتوقف ، رغم صياح الخادم من تحت (( توقفوا أيها الخبثاء . أيها الكلاب... )) حتى يغطينا العرق ، فنغافله ونهرب من الباب الجانبي ، وقد أمسكنا ثيابنا بأفواهنا وكشفنا عن عوراتنا ونحن نقهقه !
غير إن صوت الجرس كان يلعب دور النفير أيضا . فما أن يقرع قبل الفجر حتى توقظني والدتي . كنت أفضل النوم ألف مرة على الاشتراك في صلاة الصباح لان الحضور كانوا يتألفون من بعض شيوخ القرية الذين لا ينقطعون عن السعال ، وبعض العابدات الثرثارات اللواتي كن يتثاءبن وهن أنصاف نيام ، وحفنة من الأطفال في مثل سني . فلا أسمع شيئا من الصلوات ، وان سمعت فلا أفهم شيئا . لذا كانت قضية إيقاظي كل مشكلة ضميرية لوالدتي . فالكاهن يلزمها بذلك ويعتبره فرضا عليها للحصول على السماء ، وأنا أعاند كالبغل . وكانت تناديني ، فأغطي رأسي باللحاف فتسحبه هي وتبدأ عملية جر حبل طويلة تنتهي غالبا باستسلامها .
كانت كراهيتي للجرس تزداد ، خاصة بعد ظهر أيام الأعياد والمواسم . كان صوته علامة لقطع ألعابنا والانصراف إلى الكنيسة فيفسد علينا لهونا . كنا ننتظر ، دقيقة فدقيقة ، صوته ونتطلع صوب البرج المنتصب على سطح الكنيسة ونسأل بين حين وآخر : هل دق الجرس ؟ كنا عند قرعه نتوقف كجنود أمام النفير ، ثم نتوجه إلى الصلاة لأن استمرارنا كان يعتبر كفرا يعرضنا لعصي أهلنا . فنعد ونحن على مقاعد الكنيسة مؤامرة للفرار ونتفق على الطريقة والوقت والاتجاه ، ثم نختفي ، الواحد تلو الآخر ، كما تختفي غيمات الربيع .
وعدت القارئ ألا أتحدث عن والدتي . لكن كيف أستطيع وصف قطعة نقود إذا أهملت وجهها أو قفاها . لن أقول إلا القليل عنها ، اعني ما يكفي ليجعل الصورة التي ارسمها أكثر وضوحا وتماسكا . حدثتنا مرارا لماذا فقدت شقيقتي إحدى عينيها . لقد أصيبت وهي صغيرة بالرمد . لم يكن القحط والمناخ القاري المتطرف وسوء التغذية وحدها أسباب عذابنا . فالأمراض كانت هي أيضا تساعد على تعميق مأساتنا وتعاستنا . كانت الشمس البرونزية تحرق الجمال والطراوة في وجوه الصبايا والنساء وأجسادهن ، فتجفف النعومة التي تجعل الأنثى أنثى وتحول المرأة عندنا مع الأيام إلى توتة هرمة مجعدة ومليئة بالعقد . كانت آثار الجدري تزين وجوه الكثيرات بالإضافة إلى الرمد الذي لم يترك عائلة واحدة دون إصابة أو أكثر . كانت العينان البدويتان علامتي الجمال الوحيدتين في تلك الصحراء التي تولد في نفوس سكانها القلق اللامتناهي . فأبى القدر إلا أن يتلف القسم الأكبر من عيون الرجال والنساء على السواء . كان الرمد يظهر في قريتنا على شكل وباء فينتشر سريعا لجهلنا بعلاجه ، وما أن يغادرنا حتى تكون جراثيمه أتلفت البقية الباقية من الجمال لتزيد في عمق مأساتنا .
كان البول وروث الكلاب من الأدوية الرئيسية . يسقون البول للمصابين بالحصبة ويقطرونه في الأعين المصابة بالرمد ويذوبون روث الكلب في قليل من الماء ويقدمونه شرابا في حالات بعض الحساسيات الجلدية الحارة ؟ يبدو ما أقوله للبعض أقرب إلى الطرافة أو الخيال منه إلى الحقيقة . أؤكد أن الأحداث واقعية مئة بالمئة ، جمعت منها ما يتعلق بي أو ترك أثرا أو ذكرى في مخيلتي . إن قريتي اليوم مدينة صغيرة . زرتها قبل شهرين ، فرأيت الكهرباء والجرارات والأطباء و ... لقد أصبحت الأحداث التي أصفها من المنقرضات . لكن هذا كله لا يمنع أنها صحيحة وهي وحدها قادرة على أن تفسر الكثير من قضايا حاضري وحاضر بلادي . فآثار الوشم في خدود بعض نساء القرية وجرس الكنيسة والمناخ الذي لا يرحم هي بعض الشواهد الباقية على تعاسة الأيام التي عشتها في طفولتي .