مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي / 11

بدء بواسطة بهنام شابا شمني, يناير 28, 2014, 11:30:56 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

بهنام شابا شمني

مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي

والمنشورة في كتابه ( يوميات غجري لا يُجيد الرقص )*


* ( يوميات غجري لا يجيد الرقص ) كتاب للبروفسور باسيل عكولة البرطلي طبعة بيروت 1972 جميع احداثه تعود لما قبل سنة 1950 .
سنقوم بنشر وعلى شكل حلقات ما جاء في كتابه هذا عن ذكرياته التي تتحدث عن برطلي  .



الحلقة الحادية عشرة



كانت الكنيسة تنتصب قبالة بيتنا الحقير وتشكل تناقضا صارخا ، فتزداد كراهيتي لها يوما بعد يوم . وكانت تتعاون مع الأغنياء ـ كل في حقله ـ لتسلبنا لقمة الخبز .كان رجالها يلاحقون الأرامل والأزواج الذين لم ينجبوا أولادا ، تعدهم بالسماء لتستولي على أراضيهم بحجة وقفها لله .
على ذكر السماء اقر بأنني لم أكن أحبها كذلك . لماذا ؟ لأنها كانت غالية الثمن لا يمكن لتعساء مثلنا أن ينالوها ، إذ لا بد للوصول إليها من عمل المستحيل . كنت أحس بنوع من التخدير وأنا اسمع الكاهن يتحدث عن أشجارها المثمرة ومياهها و .... أي إغراء تشكل الجنة لأناس مثلنا لم يجلسوا في فيء شجرة و لا ذاقوا ماء عذبا ، يتعبون كالبغال من الصباح حتى المساء في مناخ حارق يشوي ظهورهم . كنت أتمنى أن احصل عليها مع والدتي ووالدي وإخوتي ، فأرفع ثوبي وأحلّ حزامي واغرق في الماء الصافي واشرب واشرب في ظل سنديانة خضراء وأنا أشاهد والدي متمددا على الأرض ، وقد خلع حذاءه وأسند ذراعه إلى وسادة ناعمة وشرع يدخن غليونا طويلا والى جانبه والدتي بثياب جديدة تشوي له لحما وتسقيه بيدها كأسا من عرق . كان الوصول إلى السماء يتطلب منا أن نزيد على حرماننا حرمانا بالأصوام الطويلة القاسية والصلوات التي لا تنتهي . وهكذا زادت المسيحية ببعض مظاهرها الغبية الصارمة على بؤسنا بؤسا .
فالمرأة كانت تنقطع عن العلاقات الجنسية طيلة الاصوام المتعاقبة والكاهن يعضنا باستمرار عن خطيئة الشراهة مؤكدا أنها خطيئة رئيسية . لكنني لم افهم حتى ما هي الشراهة لفقير مثلي كان غذاؤه يتألف غالبا من رغيف  من خبز التنور المبلل . يكفي للدلالة على فقرنا إننا لم نكن نذوق اللحم مرة في الشهر أو الشهرين أو الثلاثة . وكثيرا ما كان والدي لبؤسه _ يكتفي بشراء كرش بقرة تقضي والدتي في تنظيفها ساعات قبل أن تطبخها . كان سوق القرية طيلة تسعة أشهر من السنة خاليا حتى من ورقة خضراء . أما كيف كان باستطاعتنا أن نقترف خطيئة الشراهة في وسط تلك المجاعة والعطش ، فهذا ما أعجز عن تفسيره .
كانت الكنيسة تلاحقنا في كل مناسبة لتعشّر ثروتنا ، لا سيما كل صيف ، في أثناء دورة الأسقف السنوية . كان يأتي من المدينة في سيارة يسبقه صوت الجرس معلنا وصوله ، فنهرع إلى لقائه ونأخذ بتقبيل يده . وما أن يدخل باب الكنيسة الخارجي حتى يطردنا الوكيل حفظا لراحة سيادته . وفي صباح اليوم التالي يطوف القرية وقد أحاطت به دزينة من كبار القوم - كنت اعلم ذلك من عمائمهم وأحذيتهم التي تختلف عن عمامة وحذاء والدي – بيتا فبيتا ، فيتسارع الجميع إلى استقباله متبركين . كانت الحاشية ترافقه لغاية واضحة هي إجبار الناس ، ولو بشكل غير مباشر ، إلى التبرع لسيادته الذي كان ينتقل من دار إلى دار كالحجل ، رغم شيخوخته ليعود بسرعة إلى مقره في الكنيسة . كانت النسوة يكنسن بيوتهن استعدادا لاستقباله رغم معرفتهن بعدم توقفه فيها ، لأن الجميع كانوا يعرفون مراحل استراحته : بيت مدير المدرسة ، وبيت وكيل الكنيسة ، وبيت المختار ... كان المشهد يثير فضولنا فنتبع الحاشية وراء الحمار الذي اعد لنقل الحبوب التي تبرع بها أبناء القرية وكأننا في مهرجان وأنا في مقدمتهم يزجرني أعضاء الحاشية الواحد بعد الآخر حتى إذا وصل الموكب إلى حينا عدوت كالسلوقي إلى والدتي أخبرها ، فيستولي عليها الخجل وتسرع في كنس البيت وتنتظر بصبر وصول سيادته ، حتى إذا اقبل أسرعت إليه تقبل خاتمه الذهبي المرصع بالياقوت ثم تدخل إلى المخدع وتجلب غربالا صغيرا من الشعير أو الحنطة الذي جمعته من بيادر القرية لطعامنا . كنت أتمنى لو انتزعه من أيديهم وأعيده إلى مكانه في صندوق الطين وأنا أفكر في القحط الذي قد يتجدد في العام المقبل . ويا ليت الحكاية انتهت هنا . كانت والدتي تقصد الكنيسة بعد سفر الأسقف لتشتري لطعامنا قليلا من الشعير المخلوط بالحجارة الذي جمعه في دورته . كل شيء له علاقة بالكنيسة كان له ثمن . كنا ندفع ثمن العماد ، والزواج والوفاة والصلاة لأجل موتانا ليخرجوا سالمين من نيران المطهر حيث حجزوا لفترات لا يمكن تحديدها . علمت بعدئذ سبب عدم التحديد هذا . كان ذلك يحملنا على الدفع دون حساب ، لئلا يبقى أهلنا المساكين يتعذبون هناك ، بينما يصعد جيراننا إلى السماء .كنت أتساءل لماذا هذه العذابات التي لا يعرف أحد مدتها ،حتى كاهن الضيعة ؟ كان أخذ حمام يوم الجمعة كافيا لقضاء سنوات هناك . كيف كان بإمكاني أن أحب إلها يلاحقنا رجاله كجباة الضرائب ورجال البوليس من يوم ميلادنا حتى القبر ، ويدفعوننا حساب فواتير الصلوات وغيرها ... كانوا يختلقون المناسبات لامتصاص أقصى ما يستطيعون امتصاصه منا ، فحولوا بعض الأعياد إلى أسواق يجري فيها مزاد علني . اذكر عيد الدنح . كانوا يختارون بطريق المزاد العلني في الكنيسة صبيا يغطونه بخرقة بيضاء ويحملونه قنينة ماء . كانت هذه العملية تكلف غاليا بالنسبة إلى دخل القرويين ، فيعدل الفقراء عن تقديم أنفسهم .وهكذا تخلو الساحة للأغنياء من الديكة والدجاجات الهرمات . وفي يوم الجمعة العظيمة ، كان الكاهن يختار أربعة أو ستة صبيان أو أكثر حسب عدد الدافعين ليحملوا تابوت المسيح . لم أتمكن من الاشتراك في أية حفلة من هذه الحفلات لتعاستنا ، فكنت اكتفي بالتفرج على أبناء الأغنياء وهم يقومون بهذه المهمات فأزداد كراهية لهذا الوجه البشع من وجوه الدين .
سأتحدث عن الطريقة التي كان يتم فيها اختيار هؤلاء المحظوظين . كان الكاهن بعد الإنجيل يقف في وسط المذبح وبيده صليب كبير من الفضة ، فيلقي موعظة عن الحفلة ، ثم يحث المؤمنين على العطاء بسخاء . العطاء . العطاء للكنيسة و لله . دائما العطاء ، دون أن يعطينا الله أو كنيسته شيئا . كانت معاملة غير متوازية وغير عادلة ، ومع هذا كنا نعطي . كانوا يبيعوننا حتى الشموع المصنوعة بأيديهم بأسعار غالية لأن لها فعالية إيقاف البرد وغير ذلك من المعجزات . نعم ، كانت والدتي عند أول قطعة برد تسقط توقظني من نومي وهي تصرخ : أشعل السراج . انه البرد . وتذهب تبحث عن شمعة شمعون الشيخ ، ذات الاختصاص في هذا الموضوع ، فتشعلها وتقف تحت البرد في ذلك الجو العاصف صارخة (( يا شمعون الشيخ . يا شمعون شيخ )) .كنت أراقب العملية جيدا ، ولا افهم ما دخل هذا الشيخ في القضية وكيف سيوقف البرد . ثم يزداد البرد شدة ويزداد تضرع والدتي عنفا حتى إذا تبللت  كقطة دخلت البيت وأطبقت الباب وراءها وهي تقول : (( لقد توقف . أخيرا لقد توقف )) . اتجهت السحابة صوب القرية المجاورة . كنت أصغي بخشوع الرهبان إلى الموقف الدرامي فأسمع صوت البرد واضحا فأخبر والدتي التي تصر على العكس ، لأن مفعول شمعة شمعون الشيخ مطلق فأسألها لماذا ، إذا كان ذلك صحيحا ، سيضرب البرد حقول القرية المجاورة _ وهي أكثر تعاسة منا _ بعد أن أنقذنا الشيخ منه ؟
أريد أن أعود إلى المزاد العلني . كان الكاهن يبدأ بصوت عال : الله يعطيكم . واحد بثلاثين وبستين وبمئة . الله يعطيكم . فيجيبه واحد أو واحدة من مقعدها : وزنتان شعير ، فيقاطعها أخر : ثلاث وزنات حنطة ، والكاهن يلاحق المحسنين بدعائه الرتيب : الله يعطيكم . أعطوا  تعطوا . ويسود الكنيسة هرج ومرج وتبدأ سلسلة من المضاربات الوهمية حتى إذا انتهت العملية بنجاح ، دعا المسجل _ هو عادة شماس أو وكيل _ أبناء المحسنين والمحسنات إلى المذبح ، ويبدأ الاحتفال . كنت غالبا ما أفضل مغادرة الكنيسة لألعب في ساحتها مع رفاقي الذي كانوا يفكرون مثلي بأن الله هو الكاهن أو وكيل الكنيسة ، فلا يحبون رؤيته .
ولم تكن كنيسة القرية وحدها تلاحقنا لانتزاع القليل القليل الذي كان لنا دون أن تفلت أحدا . حتى الفقير الذي لا يملك شيئا ويعتاش على حسنات غيره كان ملزما بأن يلقي في صندوقها ((فلس الأرملة)) . بل كان هنالك الكنائس والأديرة المجاورة كذلك . فكلما شاهدنا حمارا عليه خرج أو كيس ووراءه جوق من أعيان القرية ، كنا نستنتج وجود عملية جمع تبرعات . كان زي الراهب أو الكاهن المرافق لأولئك العجول الدليل الوحيد على هويته . وكان كل واحد يوزع الذخائر والبركات ويدافع عن ديره وقديسه . وكانت بعض الذخائر عبارة عن قطعة قماش أو خبز أو تراب يدعي الراهب أو الكاهن انه وضع على قبر الشهيد أو القديس فيؤمن الناس بقوته العجائبية . غير إنني كنت شاهد عيان على عمليات احتيال ولعب بعقول البسطاء من أبناء قريتي في مناسبات عديدة . كم مرة نفذت قطع القماش لكثرة الطلب ، فيستدعيني الراهب أو الكاهن ويشير إلي أن اذهب إلى دكان معروف لديه فأشتري ذراعا أو ذراعين أو أكثر من القماش التجاري الذي تلبسه النسوة . وما أن أعود مع البضاعة حتى يتأخر عن القطيع قليلا ويختبئ تحت قنطرة أو حائط قديم ويقسمه إلى قطع صغيرة أو كبيرة لتوزيعها على أبناء قريتي المساكين ، فيخبئونها باحترام لتخيطها النساء في ثياب أطفالهن للتبرك أو الاستشفاء . أما التراب فكان الرهبان يجمعونه من حيث شاؤوا ويلفونه في أوراق أو خرق ويوزعونه مؤكدين انه من قبر القديس الذين ينتمون إلى ديره .


يوسف الو

لنتمعن جيدا بما جاء في كتاب البروفيسور باسيل عكولة ونستعرض حياتنا مع الكنيسة والكهنة ومع اللأقطاعيين أيام زمان ومع من أراد التسلط على رقاب المساكين والبسطاء حينها !! ونعود بعد ذلك الى أيامنا هذه التي لازالت البعض من تلك الأوهام تركب عقول ما تبقى من البسطاء والمساكين وقد تركب عقول الآخرين للمظاهر فقط ! وهنا أكرر ما جئت من خلال ردي لأعضو مجلس ناحية برطلة وهو قولي بأن أهلي في برطلة لازالوا مساكين وبسطاء وأبرياء وأن كانت الكنيسة سابقا تقوم بتلك الأعمال ( على حد قول البروفيسور ) فاليوم هناك من يتشابه مع تلك الأفعال بالتلاعب بعقول الناس بالحديث الملسن وتطييب الخواطر كما يقولون وعلى أعتبار هؤلاء القوم هم من أبناء برطلة فعيب علينا أن نحجادلهم أو نعرضهم وفي هذه الحالة يكونوا على صواب وهم في أعلى درجات الخطأ وأيذاء المقابل , أذن صدق كارل ماركس عندما قال وقبل أكثر من 150 سنة مضت بأن ( الدين أفيون الشعوب ) وما يتصرف به البعض من رجال الدين وتابعي الكنائس في العالم أجمع يثبت بالملموس مقولة كارل ماركس الذي أتهم حينها بالألحاد .
نتمنى أن تتنور عقول الجميع وخاصة البسطاء والمساكين والمغلوبين على أمرهم وأن يصحوا من نومهم العميق وأن يعلموا جيدا بأن مكانة وقيمة وتقدير كل أنسان مرهون بأعماله وتصرفاته من خلال حياته الفانية .