مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي / 7

بدء بواسطة بهنام شابا شمني, ديسمبر 08, 2013, 09:04:16 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

بهنام شابا شمني

مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي

والمنشورة في كتابه ( يوميات غجري لا يُجيد الرقص )*


* ( يوميات غجري لا يجيد الرقص ) كتاب للبروفسور باسيل عكولة البرطلي طبعة بيروت 1972 جميع احداثه تعود لما قبل سنة 1950 .
سنقوم بنشر وعلى شكل حلقات ما جاء في كتابه هذا عن ذكرياته التي تتحدث عن برطلي  .



الحلقة السابعة


لم تكن المطرة الاولى تبعث الطمأنينة في قلوب ابناء القرية ما لم ينبت الزرع والعشب . وهذا يعني مطرا غزيرا يستمر اياما تصل معه الارض الى الاشباع فتتجمع المياه الفائضة في الاودية والغدران والمناطق المنخفضة . كانت وجوه النسوة والصبايا تشع كالارض ويظهر عليها الشبع .
وتطفو على الشفاه ضحكات قوية لان المطر كان كذلك املا بزيجات عديدة . لم اشاهد في مواسم القحط زواجا واحدا على مدار السنة بين الفلاحين . كان البيض يكثر مع الربيع فيتوافد اهل المدينة لشرائه مباشرة او بواسطة سمسارات عجائز ، بالاضافة الى الذين امتهنوا هذه الصناعة . فيدورون في القرية ويصيحون باعلى صوتهم وفي يدهم سلة من ( الخوص ) : بيض ! بيض ! اثنتان بخمسة فلوس او ما شابه ذلك . فتناديهم والدتي ، وبعد مساومة طويلة تكون حصيلتها خسارة او ربح فلس واحد لا غير كانت تتم الصفقة في هدوء لئلا تكتشف الجارة سر العملية . لم نكن نأكل البيض الا في مناسبة واحدة هي عيد الفصح ، وهو اكبر المواسم عندنا . كان البيض الملون كل مظاهر العيد ، نقامر به من الصباح الى المساء في حلقات متعددة تنتشر في البيادر ، ثم ناكل ما انكسر منه . كنا رغم صغرنا دهاة كالثعالب نقوم بصفقات شراء وبيع بين اللاعبين ، فنجمع لنا بضعة فلوس كنا نعدها ثروة . كان اكثرنا يسرا لا يملك اكثر من بيضتين في النهار ، اذا خسر واحدة قبل الظهر لا يتجرأ على المقامرة بالثانية حتى المساء .
حتى البيض الملون كان يختفي في مواسم القحط ويمر عيد الفصح كئيبا قاحلا . اما في المواسم الممطرة فكانت منطقتنا تشهد ربيعا سهليا رائعا تتخذ فيه الارض والحقول اشكالا والوانا اسطورية تشبه الحفلات الطقسية في اعيادنا .
حزام من الخضرة يحيط بقريتي التي تتحول الى شقراء مغرية كانثى في عز نضوجها ، وسماء بزرقة الفيروز ، وزهور لا تحصى تنمو اليوم لتموت غدا او بعد غد وكأن القدر يلاحقها . كانت قطعان الغنم والخراف تتجمع عند الظهر والمساء حول خيام البدو امام بيتنا فاشاهد الحالبات قابعات كغربان بينها واسمع ثرثرة لا تنقطع ، ووراء البيادر حلقات الصبايا ينتظرن الليل ليعدن بالبقرات الى الدار . اما الرجال فكانوا يجلسون هنا وهناك على الارض يتحدثون ويدخنون ويتثاءبون .
الشتاء كان كئيبا بالنسبة الي . فمع المطر تتحول الارض والازقة الى مساحات موحلة ويشتد البرد كثيرا . كان الطقس متطرفا جليديا ولا ملجأ لي غير المدرسة او البيت او الكنيسة . كانت هذه الاخيرة اشبه ما تكون بثلاجة كبيرة نضيع على مقاعدها لقلة عددنا فتصطك اسناننا من البرد فنغتنم فرصة استدارة الكاهن نحو المذبح للصلاة لنهرب كالافاعي الواحد تلو الاخر باحثين عن قبو فيه قليل من التبن نتدفأ فيه . كنت احب المدرسة ايام الشتاء فمساحة الصف ضيقة وعدد التلاميذ الكبير كان يحولها الى حمام دافيء اما في ايام الثلج ـ وهو حدث نادر في قريتنا ـ فكنا نلازم بيوتنا ونخبيء اقدامنا العارية تحت اللحاف لنتدفأ .
كانت التعاسة نصيبنا منذ ان وعينا ، اذ يتحول بيتنا الصغير في ايام المطر والبرد الى مطبخ وملعب وحمام ومغسل ومرحاض . كان الخوف من اللصوص هاجس الكبار والصغار يسرقون كل ما تقع عليه يدهم من اموالنا : الدجاجات والبقر شتاء ، والوسادات وانية الطعام من على السطوح صيفا . كان الدافع الى السرقة الفقر وحده . كان هناك من هو اكثر تعاسة منا يطمع حتى بانيتنا العتيقة ودجاجاتنا . ورأينا صباح ذات يوم دجاجة مخنوقة وقد اختفت سائر دجاجاتنا ، فاستنتجت والدتي ان ذلك من فعل ثعلب . غير ان والدي اصر على ان في العملية سرقة وما الدجاجة المخنوقة سوى تمويه . نعم ، كان الخوف من اللصوص مسيطرا علينا ، حتى انني لم اكن اجسر على الخروج الى فناء الدار بعد غروب الشمس ولا الوقوف منتصبا على السطح . كنت اتصور المارين من امام بيتنا من ابناء القرية لصوصا ، وارى ظلالهم وراء كوم الحجارة وتحت الحيطان وفي كل مكان ، فانام في حضن والدي والف عنقه بيدي والتصق به خوفا منهم . وبسبب هذا الخوف لم يكن في بيتنا شباك بل كوة عالية صغيرة تسدها والدتي بالخرق ، فلا يبقى لنا بعد اغلاق الباب ليلا منفذا نستنشق منه نسمة هواء . وكانت والدتي تعد في زاوية من الغرفة ـ القصر ـ اثفية من الطين تطبخ عليها عشاؤنا . وكان الوقود الذي تستعمله كسائر اهل القرية من التعساء امثالنا عبارة عن روث البقر على شكل اقراص تلصق على حيطان البيوت لتجف وتصبح صالحة للاحتراق ، او على هيئة مكعبات ترتب في صفوف دائرية متصاعدة تشكل اسطوانات فارغة ضخمة مختلفة الاحجام تحيط بالقرية من كل جوانبها وكانها انصاب تذكارية لا اتجرأ على التطلع اليها ليلا خوفا من اللصوص . لم نكن نعرف في ذلك الوقت علبة الكبريت او مقدحة بنزين او غاز . كانت نساء القرية يقرضن بعضهن النار . وكم ارسلتني امي ابحث عن النار في قطعة فخار ، فانتقل من جارة الى جارة حتى احظى بقليل من الرماد ، فيه بقايا لم تنطفيء ، فاحمله واعدو مسرعا فتضعه تحت قليل من القش والتبن . فتنفخ فيه اولا ثم انفخ فيه بدوري حتى اذا ما اشتعل النار بدأنا نفرك اعيننا التي اعماها الدخان ، ثم نجلس حول الاتفية ننتظر العشاء ونتدفأ وقد امتلأ البيت دخانا ، حتى اذا انتهينا من العشاء انطرحنا على فراشنا على الارض الباردة وتمددنا بعضنا الى جانب البعض ، كالواح من الخشب تحت غطاء حقير من الصوف . كان بيتنا وقد اسود سقفه وحيطانه اشبه بمدخنة كبيرة .
هل كانت حياتنا حياة بشر ؟ كانت اقرب الى حياة انسان ما قبل التاريخ ، او حياة الحيوان . وكانت الاحذية من الكماليات والنساء اقرب الى الدواب . وكنا نتناول بعض الحشائش كالارانب ونفتش عن الفطر في مزابل القرية وهي المكان الوحيد الذي تنمو فيه .
اصبح الماضي مؤلما . انني ، وانا اخرجه من خرائب النسيان قطعة قطعة ، اكتشف ما لم اشعر به ابدا في حينه . نعم ، لم نكن نشعر بالظلم رغم حالتنا تلك . كانت على ما نظن نصيبنا ونصيب الاكثرية الساحقة من شعبنا ، فاستسلمنا لقدرنا وآمنا بان تعاستنا قد حتمها الله الذي اراد العالم طبقات . هذا ما تعلمناه في دروس الديانة في اروقة الكنيسة القديمة بفضل الخيزرانة التي كان يهوي بها المعلم على اصابعنا واقفيتنا . لم نكن نعرف شيئا عن الثورة واصحابها ، لان بعض الذين رفعوا اصواتهم اختفوا في ليلة بلا قمر .