مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي / 6

بدء بواسطة بهنام شابا شمني, نوفمبر 30, 2013, 08:53:30 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

بهنام شابا شمني

مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي

والمنشورة في كتابه ( يوميات غجري لا يُجيد الرقص )*


* ( يوميات غجري لا يجيد الرقص ) كتاب للبروفسور باسيل عكولة البرطلي طبعة بيروت 1972 جميع احداثه تعود لما قبل سنة 1950 .
سنقوم بنشر وعلى شكل حلقات ما جاء في كتابه هذا عن ذكرياته التي تتحدث عن برطلي  .



الحلقة السادسة


كان بيتنا يتالف من غرفتين مشيدتين بالجص والحجارة يعود بناؤهما الى جدي الذي ـ على ما سمعت بعدئذ ـ كان يمتلك اراضي وحقولا لا بأس بها . قد يكون ذلك صحيحا . غير ان ما اتذكره انا هو ان والدي باع اراضيه قطعة قطعة باسعار تافهة . كان مدفوعا الى ذلك بحكم تقدمه في السن وازدياد عدد افراد العائلة ، ولادة بعد ولادة ، لان اشغاله كانت ابعد من ان تسد حاجاتنا الاستهلاكية . ولما احس الملاكون بذلك التفوا حول والدي كما يلتف الذباب حول بقعة الدبس . فاستولوا على اراضينا ـ بل اغتصبوها ـ عن طريق الربا الذي كان يفوق احيانا المئة بالمئة او عن طريق تسليفنا بعض المواد الغذائية من الحنطة او الصوف او السمن ، حتى اذا عجز والدي عن تسديد ديونهم عمدوا الى اقناعه ببيعهم قطعة ارض . لم يكن والدي غبيا او ساذجا ، لكنه مع معرفته التامة باللعبة زنتائجها كان يقع فيها مرغما . كنا سبعة بطون يجب اشباعها وكسوتها . وكان ، بالرغم من ذكائه المفرط ، يدور حول البئر ويحاول التخلص من جاذبيتها فتجره اليها بعد ان يصاب بالدوار . كان كالدجاجة امام ثعلب يستسلم لقدره او كالنعجة تتقدم الذئب بهدوء وهو يسوقها بذنبه وقد امسك برقبتها الى حيث يفترسها . وكم من نساء اغتصبهن اثرياء القرية في سنوات المجاعة ، وبيوت وحقول انتقلت  الى هذه الديدان ، لان شبح المجاعة كان مسلطا فوق رؤوسنا كسيف ( ديموقليس ) او كصاعقة ( جوبيتر ) . ولا انسى الصلوات الطويلة التي كان يؤديها اهل القرية في مواسم القحط وكيف كانت عيون والدتي تتسمر وهي ترقب في الافق ولادة غيم تبشر بمطر قريب . كان انقطاع المطر هاجس الفلاحين وكابوسهم ، فيصبح هذا الموضوع محور احاديثهم لاسابيع وشهور متواصلة . وكانوا يحولون ابصارهم من السماء الصافية الى الحقول القاحلة العطشى والممزقة كقلوبهم يرفعون عمائمهم عن رؤوسهم ويقرعون على صدورهم يسألون رحمة الله . كان الجفاف يولد لديهم رجاء يتلاشى مع الايام حتى يتحول الى يأس يصبغ وجوههم وينعكس في عيونهم وتمتماتهم وصلواتهم . فالمطر كان كل شيء بالنسبة اليهم ، فاذا سقط باكرا دعوه ( الوسمي ) ، واذا تاخر ولد قلقا يتاكلهم كما تاكل حشرة السون حبات الحنطة الخضراء . نعم ، كان الجفاف يدفع والدتي الى تقنين وجبات طعامنا الفقيرة فيزداد الخبز سوادا كلما تأخر المطر حتى يتحول الى خبز شعير . كنا نخافه اكثر من الطاعون لان انقطاع المطر كان يعني بالنسبة الينا عامين كاملين من المجاعة والعطش لان الابار ذاتها كانت تجف او تعجز عن سد حاجات القرويين المساكين . كانت والدتي تقصد مسافة ستة كيلومترات بحثا عن بئر ماؤها عذب يصلح لطبخ الفول والعدس والحمص التي كانت تشكل جزءا هاما من غذائنا . اقول ذلك لان الماء الحلو كان شيئا نادرا كالشجر . كانت والدتي تنقله على ظهرها كدابة في جرة من فخار او في وعاء من جلد الماعز تشده بحبل الى كتفيها وتحفظه في خوابي كما تحفظ الخمر اوالسمن . لم اذق ماء عذبا خلال سنوات طويلة الا ماء المطر في الغدران القذرة حول قريتي . فعملية نقل الماء كانت تستغرق يوميا اكثر من نصف النهار . وما يزال مشهد النساء والصبايا يحملن الجرار على الاكتاف ذهابا وايابا الى البئر كقوافل النمل يؤلمني حتى اليوم . كانت ايام الالم تلك جلجلة تستمر منذ الولادة حتى الموت . كان المطر يخفف مدة من قسوة المأساة فيتوفر الماء في اشهر الشتاء والربيع ـ وياما أقصرها ـ فتستبدل النساء الابار البعيدة بالغدران والاودية المحيطة بقريتنا . ويتنوع طعامنا قليلا ، فيصبح الفول الاخضر ونبات ( العاقوب ) وهو طعام الجمال المفضل العنصرين الوحيدين الجديدين في غذائنا . لكن اذا كانت النباتات البرية الموسمية تدخل تغييرا مهما جدا في رتابة حياتنا اليومية كانت مياه الغدران الملوثة ـ حيث يلتقي الحمير والناس والكلاب السائبة للشرب ـ تجلب معها اوبئة تسبب في موت المئات من الاطفال والكبار . وكان التيفوئيد والبارا تيفوئيد ينتشر بسرعة في ذلك المحيط المتخلف تساعده البيوت القذرة والجهل باصول الوقاية البدائية . كانو يدعون التيفوئيد ( الوجع الحار ) ويخافون منه خوفهم من جهنم . اتذكر ان والدتي اصيبت به ، فبقيت طريحة فراشها نحو اربعين يوما . وسمعت هذيانها وانا نائم بين ذراعيها وحولها اخواني وشقيقي الصغير . كنا نقاسمها الطعام ونقف صامتين الى جانبها وهي ممددة على ارض البيت وقد تحولت الى هيكل عظمي . لا اعلم كيف شفيت وبماذا ، لكنني متعجب اليوم كيف لم يصب واحد منا بالعدوى .

سعيد لويس

موضوع جميل جدا نريد المزيد ان امكن لان سمعنا منذ الصغر ولحد الان بهذا الكتاب ولم نحصل عليه لذلك نرجو كل فتره ان تنشر موضوع وشكرا