[ تفكيك الكراهية في المجتمع العربي ] / المطران غريغوريوس يوحنا إبراهيم

بدء بواسطة matoka, مايو 29, 2012, 09:49:49 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

[ تفكيك الكراهية في المجتمع العربي ]








قنشرين /

هذا موضوع قديم جديد، ومرتبط بالتقاليد الدينية، والعبر التاريخية. ويمسّ الأفراد والجماعات على السواء. وكان من أهم التحديات التي واجهتها الإنسانية في مراحل زمنية متعددة . ولا تحتاج العبارة " الكراهية " إلى تفسير أو شرح أو تأويل، إنّها نقيض الحب. فـ " المحبة  " تقبل بالاخر، وترضى به، وتعمل من أجل خيره، وتفرح بالرجاء، تبارك ولا تلعن بل تهتم بالآخر، تسالم ولا تخاصم،لا تنتقم بل تغلب الشر بالخير.

اما"  الكراهية  " فهي عكس ذلك، إنّها  ترفض الآخر ولا تظن إلّا السوء به، وتعطي مكاناً للحقد والضغينة، وتصب جامات الغضب عليه.

وفي الموروثات الدينية قصصاً منذ البدء، تعمق مفاهيم المحبة والكراهية، وتسلط الاضواء على مكانة كل منهما عند الله والناس فالاولى مقبولة، والثانية مرفوضة .
  ورغم مرور الزمن مازالت نظرة الدين هي هي لا تتغير في ابعاد المصطلحين، من حيث الرضى وعدم الرضى حتى نفهم ابعاد الموروثات الدينية انقل صوراً من المسيحية عن الكراهية ونقيضها المحبة وكما في المسيحية هكذا في بقية الأديان الصور واللوحات مكرّرة في كل زمان ومكان.

ففي اول سفر من اسفار العهد القديم وهو " التكوين " نقرأ أن الكراهية دبّت بين الحيّة والمرأة بسبب الخداع. وفي علم اللاهوت بقيت الكراهية بين الحيّة، وهي رمز للشر، ويمثلها الشيطان، وبين حواء، وهو الانسان الذي عليه ان يسعى للخير، الى زمان طويل .
وفي عالم الفن نرى في لوحة آدم وحواء رجل المراة وهي على الافعى طبقا لقوله تعالى: واضع عداوة بينك وبين المراة هو يسحق رأسك وانت تسحقين عقبه تكوين ٢ /١٥

ومن كراهية المرأة للحيّة نرى صوراً كثيرة في تعاليم الكتب المقدسة، منها الصراع بين الخير والشر في كل الأبعاد، فلو تمعنّا في الصراع بين الاخوين قايين وهابيل، لوجدنا أن الكراهية كانت وراء مقتل الثاني. فالكتاب  المقدس يقول :وحدث اذ كانا في الحقل أن قايين قام على هابيل اخيه وقتله. فقال الرب لقايين : أين هابيل اخوك ؟ فقال: لا اعلم ! احارس انا لاخي. فقال : ماذا فعلت ؟ صوت دم اخيك صارخ إلي من الأرض  . تكوين ٤ /٨-١٠
صورتان من العهد القديم تؤكدان أن الله يرضى بالمحبة ويرفض نقيضها الكراهية، يكافىء على الاولى، ويجازي على الثانية حتى ولو في الخفاء .

ولكن الأخطر هو ان تتجاوز تعاليم دين ما من الصراع بين الخير والشر، إلى زرع الكراهية باسم الدين بين الناس ، حتى ولو كانوا من ابناء دين واحد. فالغلو والتكفير هما بدء الكراهية ضد الآخر، بل هما التحريض على نبذه، والعبث بكيانه الانساني .

وتأتي اليهودية في مقدمة الأديان التي اشاعت مفهوم الكراهية في تاريخها. يكفي ان نقرأ صفحات الاعتداءات من خلال الاحتلالات لاراضي وممتلكات الشعوب والامم الاخرى، وهي طريق تحرير الارض بعد الخروج من سيناء. لقد استباح رجال الدين كل شيء باسم الله والدين في سبيل تحقيق الحلم بامتلاك ارض الميعاد، كم هي كمية الكراهية وراء هذا المشروع اللانساني، إنّها باب  كبير للعداوة  وعدم قبول الآخر. ومن هنا نقيس ما جرى من اعتداءات في الماضي والحاضر من الانسان على اخيه الانسان بعيدا عن الروح الانسانية.

وفي كل يوم تتكرر صور المأساة الانسانية على ارض فلسطين حتى يومنا هذا، والسبب الرئيس وراءها هو استخدام الكراهية كسلاح من أجل الدفاع عن مشروع حق غير موجود، لا هو باطل لأنّه مبني على الاعتداء على النفس والجسد.

والشيء بالشي يذكر، إنّنا نجد حتى اليوم في مناهج التربية والتعليم، صوراً كريهة تحض الإنسان على القيام بأعمال منافية للاخلاق والقيم، وتبني عالما تسوده الكراهية.
فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا ، كم هي مسؤولية قادة الأديان في تنقية الذاكرة من صفحات الكراهية التي  زرعتها الاحداث الثارية بين ابناء الاديان ؟
وهنا لا يمكن ان ننسى الصراعات بين اتباع الديانات، فما هو الذي حصل بين اليهودية والمسيحية بداية، ثم بين المسيحية والوثنية، انها بذور الكراهية التي زرعها القادة في نفوس الناس.
هذا العمل التحريضي ادّى إلى دمار وخراب في النفوس.  والتاريخ غنيّ بالشواهد .

فهذا شاول مثلا ما الذي دفعه، قبل ان يصبح بولس، ان يضطهد التلاميذ في اورشليم، ثم يحمل رسائل من رؤسائه قادة اليهود لاضطهاد المسيحيين في كل مكان وخاصة في دمشق. إنّها الكراهية الموجّهة منه ومنهم إلى دين جديد .

والاضطهادات التي اثيرت في القرون الثلاثة الاولى من اليهودية والوثنية على المسيحيين الاوائل، اليست الكراهية بكل ابعادها التي ادّت إلى قوافل من الشهداء بين صفوف المؤمنين برسالة  السيد المسيح؟
وهذه صفحات المريرة تتكرر بين الاديان الاخرى في كل زمان ومكان، ولا يمكن ان نتجاوزها او ننساها  بسهولة لانّها في بعض البلدان وحتى يومنا هذا مازالت مستخدمة وتؤدي الى بث روح الكراهية بين ابناء الديانات، مثلا ما يجري في الهند وغيرها من بلدان العالم من وقت الى اخر، اذ تنقل وكالات الانباء نتائج
مثيرة للدهشة والاستغراب، لصراعات بين اتباع الديانات تؤدى الى ضحايا وشهداء معظمهم ابرياء، كيف تتمكن تعاليم الديانات المبنية على الاخاء والمحبة والتلاقي، ان  تنسى مهمتها ورسالتها الداعية الى المحبة والسلام وتفرغ ما في النفوس من الكراهية تجاه الاخر

وفي نفس الوقت نفكر في دور المذاهب الدينية في زرع الكراهية بين ابناء الدين الواحد.
اولا في المسيحية ومنذ القرون الاولى نرى ان اختلاف الرأي في شأن الدين والعقيدة كان وراء خلاف مرير في جسم الكنيسة الواحد سبب انقسامات مازالت آثارها حتى يومنا هذا، ولكن نتائجها مازالت تكمن في كراهية الواحد للاخر. هل كانت وصيّة السيد المسيح مثلا غائبة كليّاً عن فكر قادة الصراع واغلبهم من كبار رجال الدين.
عندما كان السيد المسيح يقارن بين تعاليم العهدين ويشرح مفهوم العين بالعين والسن بالسن اكّد بقوله
امّا انا فأقول لكم :" لا تقاوموا الشر بالشر.. ومن اراد ان يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء ايضا" انجيل متى ٥ العدد ٣٨
فأين اقوال السيد في اعمال لم تدع إلاّ الى الكراهية والبغضاء، بل تنفي كل معاني المحبة والسلام والوئام والوفاق بين الانسان واخيه الانسان .وصفحة الخلافات المذهبية، وهي صورة مكررة في اديان اخرى مازالت تلعب دورا في التفرقة وابعاد الواحد عن الاخر ، لا بل ادّت وتؤدي إلى تجسيد الكراهية في اعمال اعتداء على الجسد والروح .
واضرب مثلا من الامثلة الكثيرة وهي ماثلة في اذهاننا حتى يومنا هذا، وهو ما حصل من قتال بين الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا وهم يعتنقون ايمانا واحدا وعقيدة واحدة

في العبر والدروس من التاريخ البعيد والقريب، نلمس ان الكراهية وابعادها شكلت كتلة من العداوة والخصومة بين معسكرين او كما يسمى بين قسطاطين. وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ يوجد معلم  يخفي وراءه هذا الكم الهائل من التطورات والتغييرات في الحدث .
فبعد تنوع الاحتلالات حتى القرن العاشر للميلاد، جاءت حروب الافرنجة المعروفة بالحروب الصليبية، فطبعت بصمة من الكراهية بين الغرب والشرق، وربما الاصح ان يقال بين المسيحيين في الغرب والمسلمين في الشرق، بدليل ان بعض المسيحيين في الشرق تعاطفوا مع الغزاة الغربيين اولا، ولكن عندما كشف القناع وبدت شراسة هذا الغرب المسيحي تجاه المسيحيين الشرقيين، اخذت ابعاد هذا الاحتلال الغربي تمتد الى كل  سكان المنطقة .

فالسؤال المطروح هنا كم من الكراهية خلقت هذه الحملات الاستعمارية بين الغرب والشرق، وما هي المدة المطلوبة من اجل ازالة غبار الكراهية من نفوس المصابين بشظايا هذه الحرب اللعينة ؟
وهل الدعوة الى التسامح تزيل اثار تصاعد العنف والارهاب على كل المستويات ؟ وكم تركت  حروب الفرنجة من الاثار السلبية  في  ذهنية الانسان الشرقي الذي يواجه اليوم تيارات متعصبة، وسياسات متطرفة، ومناهج اقصائية واستئصالية من جميع الاطراف؟
ان الدعوات التي جاءت من جهات متعددة منها اليونسكو، والفاتيكان، وجهات اخرى قيادية دينية وسياسية حتى الان لم تجد نفعا.

لقد اعتذر بابا الفاتيكان عن اخطاء الماضي في اكثر من مناسبة، ودعا الى الغفران المتبادل، من اجل بيئة خالية من ذاكرة الماضي الحافلة بالصفحات المريرة من الاساءات الموجهة من الغرب الى الشرق،  واعتمدت دوائر اليونيسكو مبادىء التسامح  في ١٦ تشرين الثاني ١٩٩٥ ، اهمها المادة الاولى وتنص على ما يلي:

ان التسامح  يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولاشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد ... واشارة الى معنى التسامح اكدت المبادئ ان التسامح هو الوئام في سياق الاختلاف. وهو ليس واحبا اخلاقيا فحسب ... انه الفضيلة التي تيسر قيام السلام، ويسهم في احلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.
ولكن رغم كل هذه الاجتهادات  نرى ان الكراهية  مازالت تتفاعل في علاقات الغرب والشرق من جهة، وبين الامم والشعوب والقبائل والدول من جهة اخرى . الا يجدر بنا ان نعود الى نتائج ما بعد ١١ سبتمر ، وغزو افغانستان  عام ٢٠٠١ واحتلال العراق  عام ٢٠٠٣ ونتحقق من شدة الكراهية التي اصبحت مثل جدار عازل بين القسطاطين او المعسكرين، خاصة وان الرئيس الاميركي تحدث عن حملة صليبية جديدة في العالم ؟

هذا الى جانب  اعمال منافية للاخلاق من خلال شتم رموز الاديان، وتشويه صلب رسالة السلام والوئام التي تحملها الى العالم، ومنها ايضا نشر صور كاريكاتورية مسيئة الى النبي العربي محمد على نحو استفزازي،  واتهام الاسلام بانه مثال للتعصب، وعدم التسامح مع الاخر،  ولاسيما مع الغرب ؟
كيف يمكن نزع فتيل الكراهية ، واسبابها مازالت ماثلة وتتفاعل مع احداث الزمن. ان التاريخ لا يرحم ابدا من يجعل نفسه عدوا للخير ويحمل لواء الكراهية بين الناس.



المطران غريغوريوس يوحنا إبراهيم
  متروبوليت حلب








Matty AL Mache

ماهر سعيد متي

ابدعت سيادتكم .. في كل كلمة سطرتها اناملكم السمحة ... شكرا لكم على المقال المعبر ... تحياتي

مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة