صفحة من الاساطير الاغريقية / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, يونيو 08, 2014, 07:31:40 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

صفحة من الاساطير الاغريقية








برطلي . نت / خاص للموقع



لقد قرأت مؤخرا كتابا بعنوان (مغامرات تيليماك) ، من تأليف الكاتب الفرنسي فينلون . رواية تستقي افكارها من كتاب (اوديسّه) اليوناني الذي تدور احداثه الاسطورية في القرن الثامن قبل الميلاد ،  يقوم تيليماك في البحث عن ابيه (اوليس) الذي اختفى بعد انتصاره في معركة طرواده . خاض تيليماك مغامرات عديدة وركب اخطارا في البحار وهام على وجهه تائها بين الجزر والبلدان ، التقى العديد من الشعوب وتعرّف على ملوكها وتقرّب من آلهتها . جَمعَتهُ الصدف في احدى رحلاته مع صديق روى له ، بين امور اخرى ، قصة بلد يحمل اسم (بيتيك) ، حيث يصف له أخلاق سكان هذا البلد .   نمط عيش طبيعي ومنطقي ، قد يبدو غريبا في بعض جوانبه ، غير انه بنّاء . لقد وجدت فيه شخصيا الكثير من الحكمة . هل سيرى القارئ فيه ما رأيته أنا ؟!    لِنرى هنا :

ان بيتيك بلد يبدو وكأنه محافظ تماما على رخاء عيش يليق بالعصر الذهبي . مناخه معتدل في الشتاء لا يتحمّل الرياح العاتية ، والهواء في الصيف لا يمرّ إلا عند منتصف النهار لتلطيف الجوّ هنا وهناك . تدور ايام السنة وكأن الطبيعة في عرس ، حيث يتعانق فيه الربيع والخريف في تناوب دور سهل ومتواصل . أراضيه دائمة الخصب ، سهولا كانت أم وديانا . ورود الياسمين وأشجار الرمان واشجار اخرى دائمة الخضار تزين اطراف شوارعه . قطعان ماشيته تغطي الجبال  ، لان البلد يعتمد على الصوف الذي توفره الاغنام ، صوف ناعم بات محطّ الانظار .
في بيتيك عدة مناجم للذهب والفضة ، غير ان السكان ، البسطاء بطبيعتهم والسعداء في بلدهم ، لا يقيمون أي وزن لهذه المعادن ولا يحسبونها ضمن ثرواتهم . انه شعب لا  يهتم إلا بِما يسدّ حاجته في حياته اليومية . يقول الراوي : عندما حاولنا بدء التجارة مع شعب بيتيك ، وجدنا الذهب والفضة مستخدمان كالحديد ، لصُنع المحاريث أوالعُدَد واللوازم المنزلية الاخرى .  وكونُهم لم يحتاجوا في حياتهم الى التبادل التجاري ، فانهم لا يعرفون ما هي العملة وما فائدتها . إنه شعب انصرف الى الزراعة ، أما المهن أو الحِرف اليدوية ، فانهم  يمارسونها على قدر حاجتهم اليها.
لم يعتد أهلُ البلد على تشييد المنازل . يقولون بأن هذا يجعلهم متعلقين بالارض وخاضعين لها . نظريتهم بهذا الخصوص تقول بانه يكفي للانسان ان يقيَ نفسه من تقلبات الجو ، ويقولون بأن كل ماهو متّبع عند الشعوب الاخرى بهذا الشأن يندرج في سياق البطلان ويدعو للخمول . عندما يكلمونهم عن شعوب تمتلك صناعات البناء ولها عمارات فخمة وآثاث ذهبية ومصوغات واقمشة مطرزة واحجار كريمة وعطور زكية واطعمة فاخرة وآلات موسيقية رنانة وغيرها ، يقولون : ان هذه الشعوب تعيسة لانها انصرفت لافساد نفسها . باعتقادهم ان هذا الفائض عن الحاجة يدعو للكسل ، فضلا عن أنه يسبّب الدوار لمالكه ويعذبه ، ومن جهة اخرى يزرع الغيرة داخل نفس من هو محروم منها وقد يلجأ هذا الاخير للعنف لاقتنائه . هل يمكن ان يكون جيدا ما هوفائض عن الحاجة ؟ إنه لا يصلح إلا لافساد الانسان ؟ ويقولون ايضا : هل ان سكان هذه البلدان هم اسلم منّا بنيةً أو اقواها ؟ هل يعيشون بحرية وسعادة ؟ طبعا لا ،  لانهم لا بدّ أن يحسدوا بعضهم البعض  وقلوبهم تنخرها غيرة سوداء . إنهم يتحولون الى مرتع خصب للجشع والخوف والبخل . افراحهم تفتقر الى البراءة والبساطة ، لانهم عبيد لاحتباجات مزيفة خاطئة تتعلق بها سعادتهم . هكذا يتكلم عقلاؤهم الذي اكتسبوا حكمتهم من الطبيعة .
انهم يُمضون حياتهم معا دون تقسيم الاراضي . كل عائلة يحكمها رئيسها الذي يعتبر ملكا حقيقيا . يحقّ لرئيس العائلة معاقبة اولاده واحفاده في حالة ارتكابهم خطأً ، ولكنه لا يفعل هذا قبل استشارة بقية افراد العائلة . ولكن هذه حالة نادرة جدا ، لان الارض تستمد سعادتها وهدوءها من براءة الناس ، واخلاقهم الرفيعة ، ونواياهم الحسنة ، وطاعتهم الوديعة ،  وبصورة عامة ابتعادهم عن الرذيلة .
انهم لا يحتاجون حكّاما عليهم لان ضمائرهم هي التي تحكمهم .أموالهم مشتركة ، غزارة محاصيلهم قد غرزت فيهم القناعة والاعتدال . ليست لهم مصالح شخصية تجعلهم يختلفون مع الاخرين ،  فهم اناس يحبون بعضهم البعض بحب اخوي . كلهم متساوون والمتميّز بينهم يكون من ازدادت حكمته . الغش والعنف والتزوير والتذمر والحروب ، غير مدرجة في مفاهيمهم ، لانهم سكان بلد باركته الالهة . تربة بيتيك لم تتخضّب يوما بدمٍ بشري .
عندما يسمعون عن معارك او غزوات أوانقلابات في بلدان اخرى ، يعبّرون عن دهشتهم قائلين : ماذا حلّ بهؤلاء الناس ، هل ان حياتهم طويلة جدا ، أو ملّوا منها كي يلجأوا الى اختصارها بموت سريع ؟ هل قد خُلقوا كي يمزقوا بعضهم البعض ؟
إنهم لا يفهمون الاعجاب او المديح الذي يُكال للحكام الغزاة الذين يقومون باستعباد  الناس في امبراطوريات كبيرة . يقولون ما هذا الجنون الذي لا يجد سعادته إلا في اخضاع اناس آخرين له ، كيف يتلذذ الانسان وينعم بالحكم على أناس بالرغم عنهم ؟ ان الحكيم هو الذي يقبل بقيادة شعب رجاه ان يكون له أبا وراعيا . فالحكم على الشعوب ضد ارادتها هو البحث عن شرف زائف مقابل تعاسة من استعبدهم .
ألا يتحقق المجد الا باللجوء الى الظلم والعنف والتعالي والطغيان والاعتداء على الجار؟ لا يجدر التفكير بالحرب الا للدفاع عن الحرية . ان الغزاة ، محبّي الحروب يشبهون الانهار التي تفيض ، انها تبدو جبارة عظيمة غير انها تجتاح المزارع الخصبة وتتلفها عوضا عن أن ترويها.
في هذه المدينة لكل رجل امرأة واحدة . نساؤهم جميلات ، بسيطات ومتواضعات . المرأة تجذب الرجل بفضليتها قبل جمالها .  قناعة الشعب واعتدال تصرفاته تضمن له حياة طويلة خالية من الامراض . يعيش الناس في هذه المدينة طويلا لانهم يحبون الحياة . لقد ابعدتهم الاقدار عن الحروب ، وهذا يضمن لهم احترام جيرانهم ، بحيث أنّ عدداً كبيراً من هؤلاء يطلبون وساطتهم في نزاعاتهم الحدودية . انهم يسخرون من هؤلاء قائلين : ما بالكم قد تكالبتم على الطمع في مزيد من الاراضي ، هل تخافون من تناقص المساحات ، إن الارض واسعة وتسدّ حاجة الانسان في كل زمان ومكان .
الحديث يطول ويطول غير اني ، خوفا من اُنعَت بالغشيم الساذج ساتوقف هنا . انه حديث غريب لعصرنا ، ولكني لا ارى فيه أية غرابة بل ارى بان روح الحديث دواء للكثير من أمراضنا ، نحن الذين تطورنا كثيراً وتمدّننا ، دخلنا عصر الحضارة ورأينا بريق المادة فتركنا الجوهر ، تنكّرنا للمبادئ وحلّلنا المُحرَّم وانصرفنا وراء مصالحنا الشخصية البحتة !! 







Matty AL Mache