كنيسة ألمشرق الآشورية ومار نسطورس هل ألآشوريون هراطقة حقاً ؟

بدء بواسطة برطلي دوت نت, أبريل 03, 2016, 09:03:53 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

كنيسة ألمشرق الآشورية ومار نسطورس
هل ألآشوريون هراطقة حقاً ؟




يوآرش هيدو - شيكاغو



   إن  ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة هو كلام غير لائق بل إفتراء يثير السخط صدر عن رجل دين لاحدى  ألطوائف في مقابلة تلفزيونية في إحدى القنوات الفضائية.  كان رجل الدين هذا اسقفاً .  قال هذا ألاسقف وهو أرثوذوكسي في معرض حديثه عن ألكنائس المسيحية في العالم: "هناك ثلاث كنائس مسيحية في العالم هي: ألكنيسة الأرثوذوكسية والكنيسة الكاثولوكية والكنيسة ألانجيلية....."

   ويبدو ، عزيزي القارئ ، أن مقدم ألبرنامج ألمحترم ، وقد غاب إسمه عن ذاكرتي ، مع الاسف ، كان اكثر ثقافةً وتنوراً وتسامحاً من ألأسقف ألارثوذوكسي هذا ، فقال: عذراً يا سيادة ألاسقف ، لكنك أغفلت ذكر كنيسة ألمشرق ألآشورية التي كانت ذات يوم كنيسة مزدهرة لها ملايين ألاتباع ، وما زالت قائمة إلى يومنا هذا ولها أتباع كثيرون!!"
   ثار ثائر ألاسقف "ألجليل" ألارثوذوكسي جداً لدى سماعه مداخلة مقدم ألبرنامح وزعق قائلاً : "هؤلاء نساطرة يتبعون هرطقة نسطورس وليسوا مسيحيين . نعم إنهم فرقة مهرطقة ونحن لا نعترف بهم........إلخ"
   لقد بهت مقدم ألبرنامح وارتسمت على وجهه علامات ألحيرة والاستغراب من ردة فعل ألاسقف التي لم يكن يتوقعها ، لكنه لزم ألصمت وفضل عدم ألدخول في نقاش مع ألاسقف ألارثوذوكسي حول "بدعة " نسطورس و"أتباعه الهراطقة".

   شعرت بألم وغضب في آن معاً وقلتُ في نفسي : " ما أجهل هذا ألاسقف!! وما أشد كراهيته لكنيسة ألمشرق ألآشورية !!"
   وأنت ايها القديس العظيم ، شهيد ألايمان ألقويم ، مار نسطورس ، كم ظلمك أسلاف هذا ألاسقف حين إجتمعوا في مجمعهم "المسكوني" ألسئ الصيت قبل خمسة عشر قرناً ونيف بمدينة أفسس وبعد أن ألصقوا بك عشرات ألتهم ألباطلة ، أدانوك وخلعوك من منصبك وعزلوك عن الكنيسة ، وكل ذلك لم يكن كافياً لشفاء غليلهم أو إرواء تعطشهم للانتقام حتى أفلحوا في طردك من ألدير الذي إنزويت فيه بعد عزلك ، ونفيك الى الصحراء التي كانت كثبانها ألرملية وحرارتها أللافحة أرحم من قلوبهم .

   بعد مرور فترة وعلى شاشة قناة فضائية أخرى شاهدتُ قسيساً يردد الأباطيل ذاتها فيما يتعلق بكنيسة ألمشرق الآشورية واصفاً أتباعها كما وصفهم سيده ألآسقف "الجليل" بانهم يتبعون "هرطقة" نسطورس .  لقد طفح ألكيل فقررتُ أن أكتب هذه المقالة رداً على تلك إلافتراءات والأباطيل لا لكوني من أتباع تلك ألكنيسة التي أفتخر بانتمائي إليها ، بل إظهاراً للحقيقة وتنويراً لتلك العقول التي يردد أصحابها ألتهمة الباطلة ذاتها ألتي الصقت ظلماً بأحد ألملافنة ألعظام ، أعني القديس نسطورس .

   ترى ما علاقة مار نسطورس بكنيسة ألمشرق؟  ومَن أطلق علينا تسمية "النساطرة"؟ ولماذا؟ وهل كان مار نسطورس مهرطقاً حقاً؟  وهل أتباع كنيسة ألمشرق هراطقة؟  ومَن هو الشهيد مار يوحنا نسطورس؟ في مقالتي هذه سأحاول ألاجابة على هذه ألأسئلة.
   ولد نسطورس في مدينة جيرمانيسيا أو (جيرمانيقا) حوالي (382).  ويرجّح أنه تلقى تعليمه بمدينة (أنطاكية) حيث تشرّب بتعاليم تيادورس ألموفسويسطي (ألمصيصي) وديودورس أسقف طرسوس.  دخل دير القديس يوبريبيوس ألقريب من أنطاكية .  رسم كاهناً.   وسرعان ما إشتهر بغزارة علمه وزهده في الحياة وإيمانه ألقويم وإستقامته وعفته.  كان يمتلك صوتاً جميلاً وكانت خطبه في غاية البلاغة فذاع صيته كخطيب مفوه في كل مكان حتى بلغت البلاط في القسطنطينية.

   في عام (427) شغر كرسي القسطنطينية ألبطريركي بوفاة البطريرك (سيسينياس).  لم يجد ألامبراطور ثيودوسيوس ألثاني شخصاَ أفضل من نسطورس ليخلف البطريرك ألراحل . في العاشر من نيسان (428) جرى تكريسه . كان على مار نسطورس ، بطريرك القسطنطينية ألجديد أن يواجه العديد من ألبدع وألهرطقات التي كانت تعج بها عاصمة ألامبراطورية الرومانية ألشرقية .
   وينسب الى نسطورس قوله وهو يخاطب ألامبراطور يوم تكريسه في كاتدرائية المدينة خلال عظته: " ايها ألامبراطور : إضمن لي أرضاً خالية من ألهرطقات وأنا سأضمن لك ، بالمقابل ، ملكوت ألسماوات ، أعنّي على القضاء على الهراطقة وأنا سأعينك في إلحاق ألهزيمة بالفرس."

   لقد أوّلَ خصوم نسطورس هذا القول تأويلاً مغايراً لما قصده هو إذ إعتبروه نابعاً من غطرسته بينما كان ما قاله نسطورس تعبيراً صادقاً عن إخلاصه وتقواه وتفانيه من أجل ألكنيسة التي أراد أن يصونها ويطهرها من تعاليم المهرطقين وأصحاب البدع ويستأصل المعتقدات ألغريبة من جذورها .
   شنَّ مار نسطورس حملة شعواء ضد تعاليم  آريوس وأبوليناريس وغيرهما من ألهراطقة وألمضلّين وكان عازماً على تطهير ألبلاد من كل هرطقة ونشر ألايمان القويم .  ولكن لسوء الحظ وفي إنعطاف مفاجئ بل من سخرية ألاقدار ، وجد نسطورس نفسه بين عشية وضحاها متهماً بالهرطقة .  ولكن كيف حصل ذلك ؟
   كان لنسطورس عند تسنمه منصب البطريركية أعداء كثيرون لم يرق لهم ترقية راهب مغمورلا يمتلك من المؤهلات والمواهب سوى صوته ألجميل وخطبه البليغة ، حسب زعمهم ، إلى أعلى منصب كنسي في ألامبراطورية الرومانية الشرقية .  إتحد هؤلاء ألخصوم في جبهة واحدة وترقبوا ألفرصة ألمناسبة لإسقاطه .

   كان نسطورس قد إصطحب معه قسيساً من أنطاكيا يدعى (أناستاسيوس) ليعاونه . كان هذا القسيس يؤمن إيماناً راسخاً بتعاليم (تيودورس ألمصيصي) ألذي ورد ذكره آنفاً .  كما كان في الوقت ذاته عدواً لدوداً للأريانيين وجميع ألذين إعتادوا على عبادة مريم العذراء وأصروا على تسميتها (أم ألاله).
   في واحدة من مواعظه ألمثيرة للجدل ، خاطب أناستاسيوس ، في محاولة منه لدحض هذه الهرطقة ، خاطب الناس قائلاً:"لا يجوز لأي إنسان أن يسمي مريم "ثيوتوكوس" أم ألاله ، ذلك لان مريم ليست سوى إمرأة ويستحيل على ألاله أن يولد من إمرأة !!".

   لقد أثارت هذه الموعظة إهتياجاً شديداً في القسطنطينية ، وكانت دهشة وغضب رجال الدين وألعلمانيين على حد سواء ، أشد حينما تصدى نسطورس نفسه للآمر .  فبدلاً من أن يعنّف أناستاسيوس كما توقع ألمحتجون ، القى نسطورس سلسلة من ألمواعظ دافع فيها عنه واسهب في شرح اقواله مستعينا بحجج بل وأحياناً مقتبساً ألكلمات ألحقيقية لمعلِّمَيهِ تيودورس المصيصي وديودورس اسقف طرسوس.
   حين وصول أنباء هذه المواعظ الى مصر ، أدرك كيرلس بطريرك ألاسكندرية أن فرصة ذهبية قد أتيحت له ألآن وأن عليه أن ينتهزها على الفور ليهاجم خصمه أللدود نسطورس ويدمره .

   خاض كيرلس مناظرة لاذعة مع نسطورس حول طبيعة ألمسيح ووجه إليه إتهامات باطلة ونسب إليه أقوالاً هو برئ منها وبعث برسائل إلى البابا (سيليستان الثاني) يؤلبه فيها ضد نسطورس .  كما أمر كيرلس رجال ألدين تحت إمرته بمهاجمة تعاليم نسطورس وإبتز أموالاً طائلة من أهالي ألاسكندرية ليرشو موظفي ألبلاط في ألقسطنطينية ليؤيدوه في نزاعه مع خصمه نسطورس .
   في يوم عيد القيامة من عام (429) إتهم كيرلس نسطورس على ألملأ بالهرطقة متجاهلاً تماماً أقوال نسطورس الحقيقية فيما يتعلق بطبيعة المسيح متهماً إياه بنكرانه ألوهية المسيح !.  وكان ألقصد من هذه التهمة ألباطلة وألخطيرة في آن معاً ، إثارة المؤمنين وإلهاب مشاعرهم وإضرام نار الفتنة وألقلاقل تمهيداً لخطوات أخرى يخطوها مستقبلاً لإسقاط خصمه وتحطيمه .  وقد تحقق ما أراده فعلاً إذ حدث إضطراب وإهتياح شديدين في الكنيسة .

   في عام (430) وبناءً على الافتراءات وألتهم ألباطلة التي لفقها كيرلس ضد نسطورس وأتباعه وبدون ألتحقق من صحة أو بطلان هذه التهم ، اصدر البابا حرماً كنسياً بحق نسطورس .  وعلى الفور حذا كيرلس بطريرك ألاسكندرية حذو ألبابا فحرم نسطورس .
   كان كيرلس رجلاً عديم الضمير ومجرداً من ألمبادئ ألاخلاقية بينما كان نسطورس إنساناً نزيهاً ومستقيماً ، باراً وأميناً.
   إستطاع كيرلس بأساليب ملتوية أن يستميل ألامبراطور ثيودوسيوس وألامبراطورة يودوكسيا وألأميرة (بولكيريا) أخت ألامبراطور ذات النفوذ الاكبر في ألبلاط وألممتلئة حقداً على نسطورس ، فضلاً عن عدد من ألرهبان وألاساقفة.  لقد أمطر كيرلس خصمه نسطورس بإثنتي عشرة لعنة أو حِرم كنسي نابعة من موقف عدواني سافر . وردّ ألانطاكيون على كيرلس بالمثل تماماً.

   ومع تعاظم ألانفعال وإشتداد حدة التوتر أصدر ألامبراطور ثيودوسيوس أمراً في تشرين الثاني من عام (430) يقضي بعقد مجمع عام بمدينة (أفسس) في (أحد ألعنصرة) من عام (431) لاحلال ألسلام بين ألبطريركين ألمتخاصمين لكن ألنتيجة كانت مزيداً من الصراع. ويمكننا ألافتراض بان أختيار أفسس مكاناً لعقد المجمع كان بإيحاء من ألاميرة بولكيريا.

   فقد كانت أفسس لزمن طويل مقراً لعبادة (أرتميس) إلاهة الصيد عند اليونان وهي (دايانا) عند الرومان .  وكان لأرتميس معبد شهير في المدينة أعتبر من عجائب الدنيا ألسبع.  ويبدو أن مخلفات تلك ألعبادة ألوثنية لم تكن قد تلاشت كلياً من ذاكرتهم بعد  إعتناقهم ألمسيحية. فكان من السهولة بمكان ، بالنسة لهم ، قبول تسمية أو مصطلح "أم الاله" التي عارضها نسطورس بشدة ، ومناصرة كيرلس ألاسكندري.  فكما قاوم أهل أفسس بولس الرسول وأطلقوا صرختهم الشهيرة وهم غاضبون هائجون ، "عظيمة هي أرتيميس   ألأفسسيين" . (أنظر أعمال الرسل 28:19 ، 34)، كذلك قاوموا نسطورس وهم ممتلئون غضباً وكأن التاريخ يعيد نفسه كما يقال .

   وكان أسقف ألمدينة (ممنون) شخصاً يتمتع بنفوذ قوي وكان أنانياً وغير عادل ، وخشية أن يفقد نفوذه  بتصاعد نجم القسطنطينية  عاصة ألامبراطورية ، وهو المتحمس ألغيور لمصطلح "أم ألاله" ، وقف إلى جانب كيرلس وسانده بقوة في نزاعه مع نسطورس بطريرك ألقسطنطينية .

   لقد كان هذا المجمع (مجمع أفسس سنة 431) كما يؤكد العديد من ألمؤرخين والكتاب والباحثين المنصفين في الغرب ، أكثر ألمجامع ألكنسية قساوةً وجوراً وأقلها عدلاً وأنصافاً ، لا بل كان موطن ضعف ووصمة عار في تاريخ ألكنيسة.  كان نسطورس يحظئ بدعم من ألامبراطور ثيودوسيوس في بداية ألامر إلا أن كيرلس الثعلب الماكر إستطاع أن يغير ألمعادلة لصالحه.

   ويمكننا أن نعزو سعي كيرلس المحموم لاسقاط نسطورس إلى سببين أولهما ألخلاف أو "التنافس أللاهوتي" بين مدرسة (أنطاكيا) التي إليها ينتمي نسطورس ومدرسة ألاسكندرية.  وهذا النزاع "العقائدي" لم يكن في حقيقة ألامر ، كما أثبتت ألاحداث فيما بعد ، سوى تمويه لاخفاء ألغرض السياسي .

   فقد كانت (ألاسكندرية) حتى نهاية ألقرن ألرابع تعتبر ألبطريركية ألاكبر في العالم بعد روما . إلا أن المجمع ألمسكوني ألثاني الذي إنعقد في القسطنطينية سنة (381) ، كان قد  أعلن أن روما والقسطنطينية متساويتان أو متماثلتان في ألاهمية أو المنزلة .  وهذا يعني أن ألاسكندرية قد أضحت تحتل مرتبة أدنى من ألقسطنطينية مما أثار حفيظة بطريرك ألاسكندرية، كيرلس ، ألمستغرق في طلب التسلط والنفوذ وألسطوة.

   حينما علم كيرلس أن يوحنا بطريرك  أنطاكيا وأساقفته ألمؤيدين لنسطورس يتعذر عليهم ألوصول في موعد إنعقاد  ألمجمع نظراً لسوء الاحوال الجوية وبأنهم يطلبون إرجاء عقده لحين وصولهم ، سارع كيرلس ألمتعجرف وألاساقفة الذين إصطحبهم معه إلى إفتتاح ألمجمع متجاهلاً إحتجاج المندوب ألامبراطوري وما يقارب سبعين اسقفاً . أما نسطورس الذي كان حاضراً في افسس فقد رفض حضور ألمجمع رفضاً قاطعاً وكان محقاً تماماً في رفضه . لقد كان ألخصم هو ألحكم !!

   لقد وصف نسطورس فيما بعد ظروف إنعقاد ألمجمع بهذه الكلمات : " لقد تصرفوا وكأنهم في حالة حرب ، وطاف أتباع ألمصري (كيرلس) في ألمدينة مسلحين بالهراوات وهم يطلقون صرخات بربرية ، يصهلون بضراوة منقطعة النظير ، متوعدين مَن أعتبروهم أعداءَهم بالويل وألثبور حاملين ألاجراس ويضرمون ألنيران .  لقد سدوا الطرقات لترويع الناس وإرغامهم على الهرب وألاختفاء ، معلنين أنهم سادة ألموقف وألمنتصرون ، سكارى بنشوة ألنصر الذي سلب عقولهم ويطلقون صرخات مليئة بالفحش والبذاءَة."

   وسط هذه ألاوضاع ألمتسمة بالتوتر والانفعالات ، طلب نسطورس حماية من ألامبراطور فارسل عدداً من الحراس لحمايته من غضب ألغوغاء . إفتتح كيرلس المجمع في ألثاني من حزيران (431) .  صوّت الحاضرون وعددهم مئتا أسقف بالاجماع على إدانة نسطورس وتحريمه كمهرطق وخلعه من منصبه .  وقد أرسل قرار ألادانة خطياً إلى نسطورس .  في السادس والعشرين من حزيران وصل يوحنا بطريرك أنطاكيا الى أفسس بصحبة أربعين أسقفاً ولم يكن بوسعهم أن يفعلوا شيئاً سوى أن يعلنوا أن مقرّرات المجمع كانت باطلة وظالمة وغير شرعية وعقدوا بدورهم مجمعاً مضاداً حرموا فيه كيرلس وألاسقف  ممنون ، اسقف أفسس المناوئ لنسطورس والمتمسك بشدة بمصطلح "ثيوتوكوس" أي أم ألاله.

   ولايجاد مخرح من هذا المازق ولتهدئة هذه الازمة التي شكلت تهديداً للاستقرار في الامبراطورية البيزنطية ، قرر ألامبراطور على مضض خلع البطريركين والاسقف ممنون ووضعهم تحت ألاقامة ألجبرية .أستطاع كيرلس الماكر عن طريق الرشوة أن يستعيد منصبه وسلطته الكنسية .  أما رد فعل نسطورس على القرار فلم يكن  سوى أحتجاج هادئ على جور الحكم ألصادر بحقه فعاد بعد خلعه لينزوي في ديره القديم بالقرب من أنطاكيا .

    أمضى مار نسطورس اربع سنوات في الدير ، وبسبب إشتداد ألمعارضة ضده نقل الى (البتراء) وفي نهاية المطاف  وبتحريض من ناصحه ألمخلص ومناصره سابقاً ، يوحنا بطريرك أنطاكيا ، أبعد إلى الصحراء المصرية حيث مات حوالي (451) كمهرطق في نظر الغربيين وكبطل وشهيد في نظر كنيسة ألمشرق ألآشورية .  لم تقبل كنيسة ألمشرق ألآشورية حكم مجمع أفسس المنعقد عام (431) إطلاقاً وهو ألمجمع ألوحيد من بين المجامع ألمسكونية ألاربعة ، الذي رفضته ولهم كل ألحق في ذلك . فقانونيته موضع شك وتصرف المؤتمرين كان شائناً بل مخزياً .

   فقد كانت ألتهم ألتي ألصقت بنسطورس تهماً باطلة ونسبت اليه أقوال وتعاليم هو برئ منها تماماً . وكانت ألغاية من تلك ألتهم وألافتراءات إثارة مشاعر المؤمنين وإشعال نار الفتنة وتأليب ألعامة ضد نسطورس تمهيداً لاسقاطه وعزله من منصبه كما سبق وأوضحنا.
   في عام (451) إنعقد المجمع المسكوني الرابع في (خلقيدونا) الذي عدّل فيه الرأي اللاهوتي لمجمع أفسس إلى حد كبير ليصبح مقارباً لرأي نسطورس القائل بطبيعتين في ألمسيح مع فارق أن الخلقيدونيين قالوا بأقنوم واحد في المسيح بدلاً من إقنومين .  كما أن هذا المجمع عزل خليفة كيرلس ألاسكندري ، دايوسكوروس .  ولنطرح الان السؤال الآتي: " ما علاقة مار نسطورس بكنيسة المشرق ؟"

   طبقاً لتقاليد كنيسة ألمشرق ، مار يوحنا نسطورس لم يكن آشورياً ولم يزر بلاد آشور ، مهد كنيسة المشرق ، قط ، رغم أن البعض يذهب إلى أنه كان من أصول آشورية . ومهما يكن من أمر فان كنيسة المشرق ألآشورية تأسست قروناً قبل مولد نسطورس وأنها لم تسمع بالنزاع الدائر بين مار نسطورس بطريرك القسطنطينية وكيرلس بطريرك الاسكندرية ولا حتى بمجمع افسس الذي أدان نسطورس إلا بعد مرور ثلاثين عاماً ، أي بعد موت مار نسطورس .  فهل من العدل وألانصاف إطلاق تسمية " النساطرة" على أتباع كنيسة المشرق لمجرد أن هذه الكنيسة رفضت إعتبار نسطورس مهرطقاً وبالتالي رفضت تحريمه؟

   تجدر ألاشارة إلى أن قانون الايمان النيقاوي لم يكن معروفاً لدى كنيسة المشرق حتى عام (410) ، أي بعد مرور خمسة وثمانين عاماً من أقراره ، لكنهم أقروه على الفور حينما نمى إليها . وما زالت الكنيسة تتلو ذلك القانون في كل قداس كما أقر في المجمع دون أي إختلاف .

   ترى ما الذي جعل الكنائس الغربية تطلق تسمية "النسطورية" على كنيسة المشرق وبالتالي تصف أتباعها بالهراطقة ؟!
   إن واحداً من ألاسباب ، بلا أدنى شك كان حقيقة أن كنيسة المشرق (ألآشورية) التي تؤمن بذات التعاليم أو ألآراء التي حملها أو آمن بها نسطورس - لا تلك التي إتهمه خصومه زوراً وبهتاناً بانه يؤمن بها- رفضت رفضاً قاطعاً إدانة نسطورس حين نمى إليها خبر عزله كنسياً ( أو تحريمه). وبما أنّ نسطورس قد حرم من قبل ألكنائس الغربية ، فان أية كنيسة لآ تؤيد تحريمه وجب التعامل معها بالطريقة ذاتها!!

   وفضلاً عن ألخلاف العقائدي هنالك أسباب أخرى ساهمت في إحداث ألقطيعة بين كنيسة المشرق والكنائس الغربية وهي أسباب جغرافية وسياسية ولغوية لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها في هذه المقالة فعذراً للقارئ الكريم .
   ومهما يكن من أمر فان بامكاننا أن نتصور ألاساءة ألبالغة التي  ألحقلها الغربيون بكنيسة المشرق باطلاق تسمية "النسطورية" عليها .  تلك التسمية التي تحمل معها ، في نظر الغرب وصمة "الهرطقة" ألتي كانت من نتائج نزاع لا ناقة لهم فيه ولا جمل إطلاقاً ، والذي لم يسمعوا به إلا بعد زمن طويل من إنقضائه!!

   يقول العالم أللاهوتي الكبير (مار عبد يشوع بَر بريخا) الملقب  بالصوباوي، مطران نصيبين وأرمينيا المتوفى (1318) ، في كتابه القيّم المعنون : "المرجانة حول حقيقة الايمان ألمسيحي" ، مستنكراً تسمية "ألنساطرة" التي أطلقها الغربيون على كنيسة المشرق : " وفيما يتعلق بالشرقيين (أي أتباع كنيسة ألمشرق) ، فلأنهم لم يغيروا إيمانهم الصحيح بل حافظوا عليه كما تسلموه من ألرسل ، أطلقت عليهم ظلماً تسمية "النساطرة" ،علماً أن نسطورس لم يكن بطريركهم ولم يكن لهم إلمام بلغته .  لكنهم حينما علموا أن تعاليمه مطابقة لتعاليم كنيستهم وأنه يحمل ألايمان القويم ذاته ، شهدوا له .  وهذا يعني أن نسطورس هو الذي تبعهم وليس ألعكس ولاسيما فيما يتعلق بتسمية "أم المسيح" .  لذا فحين طلب منهم تحريمه رفضوا ذلك مؤكدين بالدليل والبرهان بان تحريمه سيكون بمثابة تحريم تعاليم الكتاب المقدس وألرسل ألاطهار ."

   لقد ظل نسطورس على مدى خمسة عشر قرناً من ألزمن موسوماً بسمة الهرطقة في الغرب ، وكان هذا الموقف ثمرة ألتهم الباطلة التي ألصقت به وألاقوال التي نسبت إليه زوراً  وبهتاناً والتي بموجبها أدين غيابياً في ذلك المجمع .
   لقد أحرقت كتابات نسطورس ولم يبق مها سوى شذرات .  ويذكر ألمطران (عبد يشوع بر بريخا) مطران نصيبين ، ألذي ورد ذكره آنفاً ، في فهرسه الشهير (فهرس ألمؤلفين) أن نسطورس كتب " رسائل وميامر" ، " المأساة " ، "رسائل إلى قوزماً ، "كتاب هيراقليدوس" ، و" قداس مار نسطورس " .  وهذا ألاخير ما زال موجوداً حتى اليوم وتستعمله كنيسة المشرق في خمس مناسبات مهمة .  ولكن أهم ما كتبه نسطورس في نظر المؤرخين هو " كتاب هيراقليدوس" أو (The Bazzar) ، إختصاراً ، كما هو معروف عموماً في ألغرب .

   كانت صورة نسطورس في أذهان الناس خارج نطاق كنيسة المشرق هي ألصورة المشوهة التي رسمها خصومه ألألداء .  ولما كانت كتاباته قد أحرقت ، فقد عرفه الناس في الغرب من خلال ألتهم الباطلة وألافتراءات  التي لفّقها كيرلس وجماعته وبذا ساد ألاعتقاد بان إدانته كمهرطق كانت صائبة .
   لكن مهما طال الزمن ومهما كانت ألظلمة حالكة فلابد أن تنجلي الحقيقة يوماً  . ففي عام (1889) أكتشفت مخطوطة سريانية كانت ترجمة لكتاب ألفه نسطورس باليونانية . لقد أثار هذا ألاكتشاف ضجة كبيرة وأعتبر حدثاً مثيراً لأن هذه المخطوطة التي عمرها ثمانية قرون لم تكن سوى (كتاب هيراقليدوس)، أهم أثر كتابي لنسطورس .  في هذا المؤلف القيّم يتناول نسطورس نزاعه ومناظراته مع خصومه ، فضلاً عن تعاليمه وآرائه اللاهوتية ويفنّد جميع ألتهم ألتي وجهها إليه كيرلس وأتباعه واحدة تلو ألاخرى .

    حينما إنتهى نسطورس من كتابة مؤلفه هذا  قبل اسابيع قليلة من موته وقد أحسّ بدنو أجله ، إختتم كتابه بهذه ألكلمات الهادئة والمؤثرة في آنٍ معاً: "إن ألامور الدنيوية ليست ذات أهمية بالنسبة لي ولا أكترث لها إطلاقاً وقد كرست كل حياتي للرب الذي منحني إياها ، أنا الذي رأت عيناي نعمة ألرب أبتهل إليه كل يوم أن يعتقني من سجن هذا الجسد.... أما نسطورس فليكن ملعوناً (anathema) ! وداعاً أيتها ألصحراء رفيقتي وملاذي .... وداعاً يا أرض منفاي ، أيتها ألام ألرّؤوم ألتي ستحفظ رفاتي بمشيئة ألرب حتى يوم ألقيامة .....آمين."
     
   في هذه الكلمات الرائعة ألتي إختتم بها كتابه قبل أسابيع قليلة من رحيله من هذا العالم ألفاني ، تتجلى عظمة مار نسطورس .  فبالرغم من كل ألمظالم وألاساءات البالغة التي ألحقت به في مجمع أفسس مضى طائعاً الى منفاه حيث كتب دفاعه (كتاب هيراقليدوس) ألذي ظل محجوباً عن ألانظار قروناً ، متخفياً تحت عنوان مستعار حتى أكتشف مصادفةً ليزيل الغشاوة عن ألاعين التي عميت عن رؤية الحقيقة ، وليبرهن بان نزاع نسطورس مع خصومه لم يكن بدافع مصلحة شخصية بل من أجل الكنيسة والايمان القويم.
                                                                                           
   لقد أزاح الكتاب ألغشاوة عن أعين ألعديد من الكتاب والمؤرخين ورجال الدين في الغرب .ففي إشارة الى الكتاب المذكور أعلاه يقول (جَي. إف. بيثون بيكر) (J. F. Bethune Baker): "يكشف لنا الكتاب شخصية قوية ويساعدنا على معرفة الرجل (نسطورس) وفهم تعاليمه.  إنه (أي نسطورس) معني بالاساءة التي ألحقت بالايمان في أفسس أكثر بكثير من أهتمامه بألاذى الذي الحق به شخصياً مؤكداً أنه لو علم أن هناك من يحمل ألآراء التي نسبها إليه كيرلس، لكان في مقدمة من يتصدى له بلا هوادة . "

   في ختام هذه المقالة أدعو أولئك ألذين ما زالوا يعتبرون أتباع كنيسة المشرق ألآشورية "هراطقة" لكونهم يتبعون "هرطقة" نسطورس ، على حد زعمهم ، مرددين النغمة ألناشزة ذاتها ألتي رددها أسلافهم الطغاة قبل خمسة عشر قرناً ونيف ، أن يقرأوا ألتاريخ بامعان وبعقل منفتح وبروح مسيحية ، علّهم يدركون أن مار نسطورس ليس مؤسس كنيستنا ، وأن تسمية "النسطورية" فرضت علينا ظلماً واننا كنا دوماً نفضل تسمية كنيستنا بـ (كنيسة المشرق)، ومنذ ما يقرب من أربعين سنة أصبحت تعرف بـ (كنيسة ألمشرق ألآشورية) ، وأن مؤسسيها هم رسل المسيح وأنها ارثودوكسية أكثر منهم وأن تعاليمها مستقاة من الكتاب المقدس وأن أتباعها حملوا البشارة إلى أواسط آسيا والهند والصين ومنغوليا وقبرص وغيرها وإن مئات الالوف بل الملايين من أتباعها إستشهدوا بسبب إيمانهم بربهم ومخلصهم يسوع المسيح.

   وليعلم اولئك الحاقدون ألجهلة بان كنيسة ألمشرق لا يمكن أن تتنكر يوماً  لمار نسطورس فهو عندهم قديس وشهيد أساءَ إليه أسلافهم في مجمعهم السئ ألذكر عام (431)، وأن لشهيد ألايمان مار نسطورس مكانة سامقة بين آباء وملافنة الكنيسة الكبار وله تذكار تحييه الكنيسة جنباً الى جنب مع مار تيادورس ومار ديادورس .  كما أن لمار نسطورس قداس تقيمه كنيسة المشرق في خمس مناسبات في السنة .
   وليعلم الجميع أن لا مجال لخذلان مار نسطورس مهما غلا الثمن الذي يتعين علينا أن ندفعه من جراء توقيرنا له . وإن كان هناك من يصر على إعتبارنا "هراطقة" ، فنحن نشفق عليهم ونقول : يا رب أغفر لهم لأنهم يجهلون الحقيقة !!  آمين .