تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

الاثرياء الجدد

بدء بواسطة simon kossa, أغسطس 28, 2011, 04:42:25 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

simon kossa

الاثـرياء الجـُدُد


شمعون كوسا

سابقا عندما كان المغترب يزور ذويه في المنطقة ، كان يُستقبل بحفاوة كبيرة ويُحاط بكل مظاهر الاحترام والتقدير ، وعندما يتجول في شوارع مدينته كان موضع التفات الناس ، وبعض معارفه كانوا يتهامسون بينهم لدى مروره قائلين : هنيئاً لوالديه لانه قادم إليهما حتما بجيوب مليئة بالدولارات ، وكانوا يقصدون بالمليئة مبلغاً ، إذا توزع على كافة جيوبه ، فانه لن يخرج عن حدود الالف دولار . كان القادم يحظى بكل هذا الاهتمام لانه كان يُسعف ذويه ويرسل لهم بانتظام مبلغا شهريا او موسميا لا يتجاوز المائة او المائتي دولار . كان ذلك قبيل نهوض العراق من سبات الحصار الظالم ، أيام كانت العملة تسمى بعملة القرود ، والناس يعانون من شحّة المواد الغذائية والادوية وكل ما هو ضروري للحياة ، واذا توفرت فانها كانت كميات قليلة في متناول اصحاب الدولارات فقط .

أمّا الان ، وبعد ان بدأت المنطقة بالانتعاش الاقتصادي ، واقصد بالمنطقة )البقعة الآمنة من بلد لا  أجدُ له تسمية اخرى غير اسم بلد الاشباح ) !!، فان نفس المغترب أو زائرَ الامس ، إذا عاد الى بلاده اليوم ، سوف لن يلقى نفس الاحترام . سوف لن يلتفت اليه احد والكثيرون سيتجاهلونه او ينظرون إليه من فوق باقصى طرف عينهم اليسرى لكي لا يبصروا إلا جزأ منه، والبعض الاخر يشفقون عليه وكأنهم أمام فقير لم يُعلـَن بعدُ متسوّلا رسمياً ، ويقولون : يا للمسكين انه قادم من الخارج ، انه جدير فعلا بالعطف ولربما تجدر الحسنة اليه . يكون الزائر المسكين قد ارتدى في يومه الاول بنطالا قصيرا  وقميصا مزركشا مع قبعة وعوينات شمسية عاكسة ليظهر للناس انه قادم من الخارج، وعند إخفاقه في جلب الانظار يعود في اليوم التالي بزيّ محلي ويخرج كالممثل المسرحي الطامح في تصفيق الجماهير، غير انه يقابل ببرود أشد ،  لان الناس لم يعودوا يرون فيه غير شخص عادي جدا، فيرجع مموّل الامس الى البيت وهو يجرّ وراءه أذيال الخيبة ويقبع في زاوية محاولا إمتصاص فشله .

الكلام هنا عن المغترب العادي او المتوسط في بلدان اوربا حيث الدخل محدود ومحتسب بجزيئات اليورو وحيث الضرائب تلتهم نصف ما يكسبه المواطن . بلاد تؤمّن حياة الانسان ولكنها تحاسبه على اصغر وحدة من مدخولاته او ارباحه . والمموّل الذي لم يلقَ احتراما في زيارته الثانية للمنطقة ، كان في حينه يقتطع من رزقه هذا ليرسل للمحتاجين من أهله . هناك طبعا من بين هؤلاء المغتربين شرائح اخرى يزاولون اعمالا مختلفة او خاصة ، هؤلاء لن يجدوا نفسهم غرباء حتى تحت هذه الظروف الجديدة لان لهم على الاقل اراضي وامتيازات حصلوا عليها بالرغم من تواجدهم خارج البلد ،انها ممتلكات يجب إدارتها ، وهذا يعزّز من مكانتهم وامكانيتهم فيسيرون الخيلاء دون الخوف من نظرات الناس أو احتمال ادراجهم في قائمة الفقراء !!

عودةً الى موضوعنا الذي لم نبدأه لحدّ الان ، نقول بان المنطقة الآمنة هذه قد تغيرت بسرعة البرق بحيث برزت فيها طبقات جديدة من الاثرياء لم يكن لهم ذكر قبل أقل من ثلاث سنوات . ظهر اثرياء لم يجمعوا ثروتهم بصورة طبيعية أي بتسلق تدريجي للسلّم، أو بمراحل زمنية معقولة كما كان حال اثرياء المنطقة القدامى المعروفين . إن هؤلاء ليسوا  ثمرة حمل طبيعي ولكنهم انتاج انابيب زرعت في ارحام  حاضنات عصرية غريبة. هناك من لم يكن لهم اسم في المجتمع ، وإذا ذكروا فانهم ، إن لم يكونوا ضمن من كانوا يتضورون جوعا ، فانهم كانوا ضمن من كان خبزهم كفاف يومهم ، تحوّل هؤلاء وبفترة لم تتجاوز السنتين او ثلاث إلى اصحاب ملايين ، يحتكمون على ثروة تتكون من اموال واملاك وبيوت وعمارات واراضي انهالت عليهم عقب تعاملهم مع المقاول الفلاني، او خدمتهم لدى المسؤول الفلاني ، او تعاونهم مع الشخصية البارزة او العشائرية الفلانية ، او عملهم في المكتب الفلاني ، في زمن كان يهطل المال كالمطر وكانت التسهيلات يتم اغداقها بكرم غير منتظم على بعض مستحقيه والكثير من غير مستحقيه ، فوجد بعض هؤلاء نفسهم وقد اصيبوا بالتخمة ، بصحبة ثروة باتت تشكل عليهم خطرا. إنّ ما كان يتعامل به ارباب اعمالهم اواسيادهم كان بهذا الكمّ الكبير بحيث اتاح لهم الاستثمار والتجارة وتوظيف الاموال هنا وهناك ،  وعندما لم يجدوا للفائض منه مكانا ، ألقوه كفـُتات أو فضلات لمساعديهم أو من قدموا لهم مختلف الخدمات المشروعة وغير المشروعة التي ساهمت في تسهيل اعمالهم وزيادة ارباحها .

وهناك من أثرَوا دون إرادتهم لان رصيدهم المتواضع من العقار ، بحكم حركة السوق ، بلغ عشرة او خمسة عشر ضعفا ، فمَن كان له بيت كبير باعه ليشتري قطعة ارض شيّد عليها دارين ، إحداهما لسكناه والثانية للايجار ، وعاد فقام بتوسيع الثانية لتأجيرها ببدلات ايجار اكثر سخاء ، وفي هذه الاثناء يكون قد اقتنى قطعة ارض اخرى إن لم يكن قد حالفه الحظـّ في قطعة او قطعتي أرض  مجانيتين ضمن سلسلة القوائم النوعية والمهنية التي غطت كافة الشرائح المألوفة وغير المألوفة  .ولقد كثر الكلام ايضا عن اساليب اخرى للثروة تمثلت باستحصال  اراضي لاستثمارها في مشروع خدمي أو عام ، بعض هؤلاء المستثمرين الجدد باعوا الارض حالا وقبضوا ولم يعد لهم أثر ، وآخرون استغلوا التسهيلات الممنوحة لهم في غير الاهداف المخصصة لها ، فحققوا أرباح سريعة مشكوكا في نزاهتها . وهكذا أضحى قاطنو المنطقة ملاّكين أثرياء ، وبحكم اكتسابهم هذه الصفة الجديدة ، اصبحوا اعضاء جمعية متخصصة  لم يبقَ لها حديث آخر سوى اسعار الاراضي والبيوت والرغبة الملحّة بالحصول على القطعة الفلانية أو البيت الفلاني المطل على الشارع باي ثمن كان . وتبدأ مشاريع البيع والشراء والهدم والتوسيع ، لا سيما وان المستأجرين واقفون في طابور طويل ، والكل يزايد على الاخر .
أمسى الناس دائمي الانشغال ولم يعد لهم الوقت الكافي لتبادل الزيارات ، وحتى التحية تخضع لتسعيرة لان الردّ عليها يستغرق وقتا قد يفيد في عقد صفقة سريعة . وعند البعض منهم انفصمت عُرى الابوّة والاخوّة والبنوّة وحتى الامومة . همّهم الاوحد اضحى السعي وراء مضاعفة ثروة لم يتوقف نموّها ، والفلس اصبح هدفا يجب البحث عنه قبل ان يستولي عليه الغير من جار او صديق او حتى الأخ لان هذا الاخير أيضا اصبح غريما ومنافسا . واذا تجرّأ شخص ممّن يحتفظ بضمير غير ملوث بتوجيه لوم او انتقاد لعدم شرعية بعض الاهداف او الوسائل ، فانه يُقابل بازدراء وبوابل من الردود القائلة :  قم وابتعد من هنا ، لا زال عقلك صغيرا ، ما هذا الهراء ؟ وهل هناك شخص يأبه الان لما يجب وما لايجب القيام به ؟ أو يعير اهتماما للاعتبارات التي تذكرها انت ؟ لقد تغيرت المفاهيم والازمان وحتى القيم ، واذا بقيت متشبثا بمبادئك وبنمط تفكيرك هذا ، ستبقى طوال حياتك بهذا المستوى المتواضع .

إن بعض هؤلاء حريصون على الاحتفاظ بعلاقات ودّية مع بعض رجال الدين ، معتقدين خطأ بان هؤلاء أقربُ الى الله وبأن وضعهم يمكّنهم بصرف ما لا ينصرف من حالات ممنوعة من الصرف دينياً ، كغضّ النظر مثلا عن اساليب  ملتوية أوارباح فاحشة . وقد يساير احدُ رجال الدين ثريّا جديدا من الطبقة الجديدة  هذه ويعِده خيرا ، ولكنه متظاهراً باسلوب المزح ، يطلب منه بكل جدّ قائلا :  وأنت بدورك يا استاذ لا تنسانا ، اذا وقعت بين ايديك قطقة ارض مجانية او بسعرمناسب ،  بلغني على الفور كي أشرع ببنائها مسكناً لي ، إني الان في بيت أخي ، لقد اضطررتُ لتأجير الدارين اللتين كانتا بحوزتي لعائلتين أجنبيتين كانتا بأمسّ الحاجة إليها !!

هؤلاء الملاّكون قد روّضوا ضمائرهم وفق برنامج خاص وضعوه بنفسهم ، برنامج مفتوح لا يتحمل اية خطوط ملونة ولا سيما  الحمراء منها، وكانوا شديدي الحرص قبل تصديق تصاميم خططهم الخاصة على حذف فقرة ( تبكيت الضمير) التي كانت تقضّ مضاجعهم لفترات طويلة . 

روى لي احدهم بان الجوّ هناك اصبح خانقا ، فالحديث عبارة عن جمل غير مفيدة ، فاعلها ومفعولها من مفردات عجينة الورق ، والارقام ذات الاصفار التي هي سيدة الموقف اتخذت لنفسها اسماء الورقة والدفتر والبلوك ، والارقام الكبيرة جدا التي اصبحت حاجة ملحّة نظراً لتضخم السوق ، قد تحمل قريبا اسماء القواميس أو الموسوعات أوحتى سجلات الطابو، لان الملايين ومشتقاتها على الابواب ، وبالنسبة للمليار ، أوليس ايضا  عبارة عن ألف مليون فقط  ؟ والحبل لا زال على الجرّار ، حبل يحتاج الى زيادة في الطول  وحتى الجرار نفسه الى قوة حصانية أشد !!

عن الجشع والحسد المتزايدين واللتين تتميّز بهما المنطقة ، روى لي احد سكان البقعة الآمنة فقال : كان هناك امرأة تمتلك اراضي واسعة ، قررت توزيعها على ابنتيها المتزوجتين ، فاعطت الاولى عددا لا بأس به من القطع ولزوجها قطعة واحدة لانه لم يكن يملك شيئا . واعطت لابنتها الثانية نفس عدد القطع ، غير انها لم تمنح شيئا لزوجها لانه كان يملك اصلا إثنتي عشرة قطعة ارض . يقول الراوي بان النسيب الثاني الملاّك قاطعَ حماته وجافاها لمدة سنة كاملة وبدأ بمضايقة زوجته وتقريعها كل يوم بكلمات نابية وكان على وشك الانفصال عنها لانه لم يحصل على ارض مثل عديله،   فاضطرت الحماة معالجة الموقف باعطائه قطعة الارض التي كان يعتقد واهما بانها ستشبع نهمه !!
قيل لي بان القصة حقيقية ، وباعتقادي ان اولاد المنطقة يعيشون يوميا حالات مماثلة وكلّ على مستواه وإمكانياته . بصورة عامة ، عندما يصل الموضوع الى الاملاك وكيفية توزيعها تهتزّ العلاقة بين الاقارب ويتغير كل شئ ، فتأتي محاولات حرمان او تلكؤ او إعاقة او تأخيرأو حتى اعتداء ، وغنيّ عن القول بان للنساء باعا طويلا في تعقيد الامور ولربما إيصالها الى طرق مسدودة .

الحبّ الذي كان حلاًّ لكافة مشاكل العالم ، اصبح اليوم مطلوباً في محاكم يقودها الجشع ومن ورائه الحسد والانانية والكراهية وأذيال اخرى كالكذب والتزوير والرشوة والمحسوبية والمنسوبية والعشائرية والقبيلية .
انه حديث لانهاية له ، و لقد سبق وان تطرقتُ اليه بصورة عابرة في فقرات كثيرة مما كتبته قبل الان . إنه موضوع أزلي ، يتكلم عنه الجميع ، نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا ونشتمّ منه الرائحة التي نريدها ،  ونحس به يوميا ونعاني منه .

ختاما أودّ القول دون ان أكون واعظا : إذا لم يقرّر الانسان رفع عينيه عن الارض وترابها وما هو قائم عليها من بيوت وعمارات وبساتين ، ويترفعّ عما هو فائض عن حاجته ، وما لم يفكر مطوّلاً وهو متطلـّع بانظاره الى الأعالي في اتجاه بعيد جدا ، سوف لن يفهم بان الدنيا لم تدم لاحد وان كل شئ زائل باستثناء الاخلاق والمبادئ التي ستكون ثروة الانسان للآخرة إذا كان مؤمنا، واذا لم يكن كذلك ، فانها على الاقل ستكون رصيده لدى الناس عندما سيذكرونه خيراً في مجالسهم .