تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

العراق ليس عراقاً بدون مسيحيين

بدء بواسطة برطلي دوت نت, فبراير 14, 2011, 08:42:38 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

المبادرة المدنية للمحافظة على الدستور

الطاولة الحوارية (حقوق الأقليات الدينية في العراق)/ مجلس النواب العراقي 13/1/2011م

العراق ليس عراقاً بدون مسيحيين

د. فارس كمال نظمي
جامعة بغداد
fariskonadhmi@hotmail.com
Mob: 07705317427


السادة رئيس وأعضاء مجلس النواب المحترمين

تحية عراقية خالصة.
في هذه اللحظة العراقية المأساوية التي تشهد تهجيراً عمدياً لسكان البلاد الأصليين (أي المسيحيين) نحو جهات الأرض الأربعة، لم يعد بالإمكان تخفيف الألفاظ ولا النطق بأنصاف الحقائق ولا اللوذ بمنطق الانتظار السلبي، إذ يترتب على الجميع الإقرار بمسؤولياتهم والتزاماتهم الإنسانية والوطنية والقانونية، وتفعيلها بإجراءات سريعة وملموسة، لاحتواء هذا الفقدان المجتمعي والحضاري الخطير الذي بات يتعرض له العراق على نحو متعاظم. ونقصد بالجميع هنا: مجلس النواب والحكومة ومؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني في العراق، فضلاً عن المجتمع الدولي بهيآته وجمعياته ذات الصلة.
إن قضيتنا اليوم، أي قضية الدفاع عن حق مسيحيي العراق في البقاء الآمن والكريم في موطنهم الذي كانوا من بين أبرز مؤسسي حضارته عبر التأريخ، إنما تستدعي أولاً تجديد النقاش لإعادة النظر بمفهومي "الأقلية" و"الأكثرية" اللذين باتا ينتميان إلى حقبة ما قبل الدولة المدنية العاقلة. فالنخب التي غيّرت وجه العالم عبر العصور من أنبياء وثوار ومصلحين وفلاسفة وعلماء ومفكرين وفنانين وأدباء ورجالات دولة حكماء، كانوا على الدوام هم الأقلية بالمعنى السكاني العددي؛ فهل تصح عليهم حقاً تسمية "الأقلية" إذا احتكمنا إلى المعايير الموضوعية لقيمة النتاج العقلي البشري التي لا تقدر بثمن؟!
آن الأوان للتخلي عن التفسير التقليدي لمفهومي "الأقلية" و"الأكثرية" وما يستتبعهما من ممارسات متحيزة أقل ما يقال عنها إنها تنظّر لتسويغ التمييز والتعصب والتهميش والإقصاء. ولنؤكدْ منذ اليوم أن ما يحدد الأكثرية والأقلية (إذا كان لنا أن نحددهما) هو القيمة النوعية لا الكمية.ولذا، علينا أن نقر أن المسيحيين في العراق كانوا على الدوام الأكثرية الأشد تحضراً بمعيار ممارستهم لقيم العقل والتسامح والحرية، وإن دفاعنا عنهم اليوم إنما هو دفاع عن الأكثرية، أي عنا جميعاً. ولنغادرْ إلى الأبد فكرة أن الحق يرتبط بالقياس الكمي لأعداد الناس التي تمثله، ونتبنى إلى الأبد فكرة أن الحق يظل يمتلك قدسيته النوعية المطلقة وإنْ كان مصدره إنسان واحد فقط !
إن القيمة الأبرز في الشخصية المسيحية العراقية هي "احترام الحياة" قولاً وفعلاً. فالمسيحي العراقي مسالم ومتسامح ومنفتح على الآخر العراقي أياً كانت هويته الدينية أو العِرقية أو الفكرية، إذ يطغى الطابع العقلاني الصرف ويحل التوازن النفسي المريح أينما يكون للمسيحيين موطأ قدم ودور فاعل في الحياة العراقية. كما يتجسد احترام الحياة لديهم بقيم الجمال عبر ممارستهم الشغوفة للفن وتوقير الطبيعة واتقان الحرف اليدوية والفنون البيتية، وذائقتهم الحسية العالية نحو جماليات المكان والوجود، على نحو يجعل من فرضية "الإنسان الفاضل" احتمالاً عقلياً لا يجوز رفضه ما دام المسيحيون يستوطنون أرض العراق.
وإذا كانت السنوات الثمانية الماضية قد شهدت انبعاثاً غير مسبوق لعنف ديني- سياسي دموي طال جميع مكونات المجتمع العراقي دون استثناء، وما نتج عنه من أضرار اجتماعية وحضارية ونفسية هائلة يصعب حصرها وتحديد مدياتها الآنية والمستقبلية، فإن مسيحيي العراق خصوصاً قد نالتهم حصة نوعية جسيمة من هذه الأضرار لأسباب فنية تتعلق بقلتهم العددية التي تجعلهم أهدافاً سهلة ومكشوفة أمام همجية الجماعات المسلحة المتطرفة. ويمكن حصر أهم هذه الأضرار التي اشتركت فيها أيضاً المحاصصة السياسية التي حدثت خارج إطار دولة المواطنة المنشودة، بنقطتين أساسيتين:
•   انحسار النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمسيحيين إلى أدنى مستوياته، وما نتج عنه من تراجع شديد في هيبتهم ومكانتهم المجتمعية. ومعروف أن مصادر وجود وديمومة أي جماعة اجتماعية هو السلطة والثروة والهيبة، وبدون هذه المقومات الثلاثة فإننا نبدأ بالتحدث عن جماعات منقرضة بالمعنى السوسيولوجي.
•   أدى كل ذلك إلى تضرر شديد في الهوية الاجتماعية للمسيحي العراقي، إذ تشوشت صورته الإدراكية عن دوره ومكانته وحقوقه في بلاده، واشتدت لديه مشاعر النقص الاجتماعي والنبذ والتهميش والعزل والاستلاب والاغتراب، وتدهور احترامه لذاته الاجتماعية وحتى لذاته الفردية بالرغم من تعلقه العاطفي الشديد بعراقيته وطناً وتأريخاً وفكرةً. كما استحوذ على تفكيره هاجسُ الهجرة النهائية إلى الغرب بوصفها أمراً حتمياً لا مفر منه "سيتحقق" عاجلاً أم آجلاً، لحفظ ما تبقى من نسله وكرامته.

لقد أثبتت التجربة الملموسة أن الإجراءات الأمنية المتخذة لحماية المسيحيين في بغداد والموصل وبقية المحافظات العراقية باستثناء إقليم كردستان، لم تكن فعالة ولا كافية، لأسباب موضوعية تتعلق بضعف الأداء المهني للأجهزة الأمنية من جهة، ولأسباب لوجستية من جهة أخرى تتعلق بصعوبة توفير الحماية لمكونٍ مجتمعي محدد بعينه ينتشر ديموغرافياً ضمن مدن واقضية ومحلات سكنية وأماكن عمل تحتوي مكونات مجتمعية أخرى ما برحت تتعرض هي الأخرى لهجمات التطرف الديني- السياسي الأعمى بأنواعه المختلفة التي طالت الجميع دون استثناء في كافة أنحاء العراق.
وإزاء ذلك، وبناءً على كل هذه الشواهد والحقائق، إلى جانب توكيدنا على ضرورة أن تضطلع الأجهزة الأمنية بدورها الكامل في حماية أمن العراقيين جميعاً بما فيهم المسيحيين، فإننا نقترح أن يقوم مجلس النواب العراقي بإطلاق مشروع أو مبادرة أو حملة وطنية بعنوان ((العراق ليس عراقاً بدون مسيحيين))، تخصص لها الموارد الإدارية والمالية المناسبة، عبر تفعيل الخطوات الآتية ذات المضامين القانونية والسياسية والاجتماعية، آملين تفاعلكم الإيجابي والسريع معها:
1-   تشكيل لجنة متخصصة لإدارة هذه الحملة، تضم برلمانيين، وحقوقيين، وأكاديميين متخصصين بالعلوم الاجتماعية، وممثلين عن منظمات المجتمع المدني، وشخصيات دينية.
2-   إصدار تشريع يستبدل مصطلح "الأقلية" أينما ورد في القوانين والوثائق الرسمية للدولة العراقية بمصطلح "المكوّن"، إذا كان يقصد به فئة عِرقية أو دينية أو مذهبية، والاكتفاء بمصطلحي "الأغلبية" و"الأقلية" لأغراض توصيف التحالفات السياسية في البرلمان وغيره فقط. إن مصطلح "الأقلية" بالمعنى العِرقي أو الديني أو المذهبي إنما ينتمي لحقبة سابقة من فلسفة حقوق الإنسان، إذ يشهد العالم اليوم قفزة نوعية في الوعي البشري بفكرة الأخاء والمساواة سواء على مستوى الفقه القانوني أو الفكر السياسي الديمقراطي بالرغم من كل الانتهاكات المستمرة لحقوق الشعوب. فلا توجد "أقليات" بالمعنى النوعي لفلسفة الحق، فالجميع بات لهم صفة الأكثرية بما فيهم الفرد الواحد، على مستوى التأثير السياسي والمشاركة في اتخاذ القرارات المتصلة بمصير الوطن والدولة. هذا فضلاً عن إن مصطلح "الأقلية" له تأثيراته النفسية السلبية على من يوصف به، وحتى على من تسمي نفسها بالأكثرية أيضاً، لأنه يكرس فكرة "الوصمة" Stigma في المجتمع. علينا أن نعيد الاعتبار الكامل لهيبة الفرد الواحد بوصفه الأكثرية الحقيقية بالمعنى الفلسفي العميق لقيمة الحياة البشرية. ولنكنْ نحن العراقيون رواداً تنويريين في اعتماد هذه المنظور المنصف للكرامة البشرية، والمعزز لبنية الهوية الوطنية في بلادنا.
3-   تخصيص مناصب سيادية للمسيحيين، سواء في القضاء أو مجلسي النواب والوزراء أو رئاسة الجمهورية أو الأجهزة الأمنية، ليس على أساس المحاصصة الضيقة الأفق والغاية، إنما على أساس أن المسيحيين على مدى التأريخ العراقي المعاصر كان لهم كفاءاتهم التنويرية التكنوقراطية في كافة التخصصات، والتي يجدر بأي سلطة تدعي الديمقراطية والتمدن أن تستثمرها للصالح العام. إن هذا الإجراء سيسهم في تفتيت حاجز التهميش وعقد الإقصاء لديهم، وسيعيد لهم مكانتهم في قلب بلادهم، وسيعزز لديهم مشاعر الانتماء لأرضهم والتمسك بديارهم ما داموا أسياداً مبجلين في وطنهم.
4-   اعتبار المناسبات الرئيسية لدى كافة الطوائف الدينية غير المسلمة، بما فيها الطائفة المسيحية، عطلاً رسمية، يجري الاحتفاء بها على المستويين الشعبي والإعلامي. ويشرّع مجلس النواب ذلك بقانون، إذ يكفل الدستور العراقي توفير الأرضية القانونية لهذا القانون ما دام إنه أقر مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع العراقيين.
5-   يقوم مجلس النواب بتوجيه الوزارات المعنية، كوزارة الثقافة ووزارة الإعمار والإسكان ، لتنظيم مهرجانات ومؤتمرات متخصصة بالثقافة المسيحية العراقية، وإقامة التماثيل والنصب التذكارية لرموز وأحداث وشخصيات تستحق الإعلاء والتمجيد، ليس أولهم العلامة اللغوي الأب "أنستاس الكرملي" وليس آخرهم العلامة المؤرخ الأب "بطرس حداد".
6-   يوعز مجلس النواب عبر لجانه المتخصصة، إلى وزارتي التربية والتعليم العالي، بتأسيس أو دعم تأسيس مدارس وجامعات تعنى بالفكر المسيحي بمذاهبه المتنوعة مع المحافظة على الطابع الثقافي التنويري لهذه المؤسسات التربوية المستحدثة. ولنا في "كلية" بغداد و"جامعة الحكمة" و"مدرسة عادل" و"مدرسة الراهبات" وغيرهم نماذج تستحق الدراسة والاقتباس، إذ تخرّجت من هذه المؤسسات المسيحية رموز عراقية كبيرة من كافة الأديان والمذاهب. كما يترتب على وزارة التربية إدخال مناهج جديدة في مراحلها الدراسية المختلفة، تتضمن "تأريخ الأديان" و"فلسفة الأديان" على أسس موضوعية معلوماتية بعيدة عن التبشير أو تخطئة الآخر، بما يضمن لأتباع جميع الديانات العراقية الاطلاع على التراث الفكري لبعضهم البعض دونما انحياز لدين على حساب آخر، وبما يقوي قيم التسامح والتعايش والتشارك..
7-   إن جميع التوصيات السابقة يمكن إدراجها نصاً وروحاً ضمن قانون يشرعه مجلس النواب بالتشاور مع ممثلي كافة المكونات العراقية وأكاديميين متخصصين بشؤون السياسة والقانون والاجتماع والنفس والانثروبولوجيا والفن وتأريخ الأديان، بعنوان ((قانون حماية المكونات العراقية))، ليكون تشريعاً مرحلياً يضمن تفعيل حقوق كافة المكونات العِرقية والدينية والمذهبية بما فيهم المسيحيين، ريثما يجري إرساء أسس الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة بشكل كامل في العراق، وهي مهمة بعيدة المدى ما نزال في بداياتها الأولى. وعند انجاز تلك المهمة ستنتفي الحاجة إلى مثل هذه القوانين، ويبقى الدستور وحده كفيلاً بضمان حقوق الجميع ما دامت الهوية المدنية للإنسان ستتقدم على كل هوياته الأخرى، وعياً فردياً وواقعاً سياسياً.

إن الصراع اليوم في العراق كما نراه هو صراع بين قيم التقدم وقيم التخلف، أو بين قيم الحداثة والتمدن وقيم التعصب وما قبل التمدن. إنه صراع بين ثقافتين، وبين منظورين فلسفيين اجتماعيين، وبالتالي هو صراع ثقافي وقيمي بين أسلوبين في الحياة. ولأنه صراع من هذا النوع، فإن مسيحيي العراق اليوم، شاءوا أم أبوا، باتوا يتموضعون في قلب هذا الصراع المحتدم، إلى جانب اقرانهم من عقلانيي العراق وشرائحه المتنورة. فالمسيحيون بهذا المعنى أصبحوا قوة ثقافية لها تأثيرها في موازين هذا الصراع، لأنهم ببساطة يكتنزون طاقة اللاعنف العاقلة غير المحدودة في سرمديتها. فلا يمكن أن نتصور تطوراً إيجابياً لديناميات هذا الصراع ونتائجه دونهم. وإذا كانت أعز المكتسبات البشرية في ميدان الحرية والعدل، قد عُزيت إلى الدافع المسالم المتحضر من الطبيعة البشرية، فإن ترويع المسيحيين من قوى التطرف الديني المسلح، وتهجيرهم وتغييبهم عن وظيفتهم الإصلاحية الضامنة - من بين عوامل أخرى- لتماسك النسيج المجتمعي، سيلحق أضراراً إضافية بالطبيعة البشرية العراقية المتضررة أصلاً، وسيدفع إلى استقطابات سياسية أكثر عنفاً ومأساوية على المديين القصير والبعيد. ومن هنا يكتسب الاحتفاظ بالوجود المسيحي في العراق أهمية مصيرية قصوى لكافة العراقيين بوصفهم بنية سوسيوسياسية موحدة.
مسيحيو العراق يريدون في أعماق وجدانهم البقاءَ الابدي في بلادهم. إنهم يعشقون مدنهم وشوارعهم وبيوتهم ودكاكينهم ومطاعمهم ومدارسهم ومكتباتهم وكنائسهم، لكنهم بحاجة ماسة ومصيرية إلى "تطمين نفسي" حقيقي و"دمج" صادق في الهوية الوطنية العراقية، يعيد لهم الثقة بإمكانية الحياة والاستمرار والعطاء في بلدٍ لهم الفضل الأول في إرساء أسس حضارته العريقة. هم لا يريدون أمناً مثالياً وكاملاً، فليست لديهم أوهام حيال الواقع العراقي الذي يكتوي الجميع بناره اليوم. إنهم يريدون حداً أدنى معقولاً من الحماية والكرامة والاهتمام والاعتبار والاعتراف بعراقيتهم الأصيلة.
فما دمتم تدّعون تمثيلكم للشعب العراقي، كل الشعب، فلا نظنكم ستتخلون عن مسؤوليتكم الأخلاقية والوطنية في التحرك العاجل لإطلاق الحملة الوطنية لحماية مسيحيي العراق، بتنسيقكم وإشرافكم، وبمشاركة فاعلة من مؤسسات الدولة الداعمة ومنظمات المجتمع المدني وكل النخب المثقفة المتعاطفة مع هذه القضية المصيرية.
ننتظر منكم موقفاً قد يكون فيصلاً حاسماً بين دعم الروح العراقية أو خذلانها.
مع التقدير.

13/1/2011م