اصابنا الملل من الكتب فانصرفنا الى قراءة القهوة /شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, فبراير 09, 2016, 03:27:14 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

اصابنا الملل من الكتب فانصرفنا الى قراءة القهوة







برطلي . نت / خاص لبريد الموقع

شمعون كوسا

كنت قبل فترة في حديث مع احدى قريباتي عن بعض مواضيعي ،  فأعادتْ الى اذهاني  جلسة لقراءة الفنجان كنت أبديت فيها اهتمامي بالفكرة كموضوع محتمل لمقالات قادمة. في هذا المجلس ، كان كل محتسٍ لقهوتِه  قد قلب الفنجان ووَضَعَه على حافة الصحن تاركاً الثفل المستقر في قاعه يجفّ ويرسم خرائط تهدي القارئة في رحلة غوصها في غياهب المجهول بين الجبال والمغاور والطرق والفضاءات المفتوحة وغيرها . كان المرشحون لهذه القراءة معلّقين بشفاه القارئة المأذونة منصتين بانتباه شديد الى ما ستميط عنه اللثام  من ماض مليء بالذكريات الشخصية جدا ، أو التنبؤ بمستقبل تكتنفه المخاوف والهواجس والظلال ، عملية تتمّ برمّتها على هوى القارئة وطباعها  ومزاجها في ذلك اليوم.
انا الذي استخفّ كثيرا بهذه الممارسة ، كنت أسمح لنفسي التدخل بين حين وآخر ، واستبق القارئة في بعض قراءاتها ، فأقول مثلا  :  لا تنسَي فقرة العصفور الذي لم يترك فنجانا إلاّ وطار فيه ، فكانت تؤكد كلامي  وتقرّب الفنجان للأقربين اليها مستشهدة بهم ، وتقرأ صفحة كاملة  عن الموضوع . بعد أن ضمنتُ حقوق الطير في الجلسة ، اغتنمتُ برهة صمت لها وقلت : إنني ابصر من مكاني طريقا مفتوحا ، هل لكِ ان تتأكدي من قولي ؟ نظرتْ إليّ مبتسمة وقالت : هل انت داخل الفنجان لترى بهذا الوضوح ؟ إن ما تقوله صحيح ،هناك طريق مسيّج من الطرفين ينتهي بفضاء مفتوح ، وتوجهت لصاحب القهوة قائلة : استبشر يا سيد  إن الفرج قريب .
وبعد ان تحدثتْ عن شجرةٍ كبيرة ، وعن شمس ساطعة ، ورزق قادم ، وغمامة سوداء ستنقشع ، اوقفتُها من جديد وقلت : ألم تنسَي أمر الرسالة ،لأني لم احضر جلسة فنجان لم تعثر القارئة  فيها على رسالة ؟ شعرتُ هنا وكأني احرجت القارئة التي اعتبرتْ كثرة ملاحظاتي  تدخلا في اختصاصها  . قامت تبحث عن الرسالة مرغمة ، أدارت الفنجان مرتين ومستعينة بخيالها ، قالت : فعلا اني ارى خطوطا تشبه ورقة لابد انها رسالة سيستلمها صاحبنا عن قريب .   قلت لها ما نوع الرسالة، هل تحمل خبرا سارا أم بالعكس ؟ فردّت عليّ قائلة : هل انا الذي سوف أستلم الرسالة ام صاحبُها ؟ بوسعك التواصل معه لمعرفة فحواها .  جوابُها هذا ذكّرني بنكتة شيّقة لم أقوَ على منع نفسي من سردها هنا. وهي عن رجل معتوه كان يمسك بيده قلما وكأنه يكتب رسالة ، فسأله طبيب المصحّ قائلا :  ماذا تفعل ؟ قال المريض اكتب رسالة . قال الطبيب: ولمن ستوجهها ؟ قال انني اوجهها لنفسي . قال الطبيب:  وماذا تكتب في الرسالة ؟ فابتسم المخبول بدهشة وقال : هل بوسعك معرفة مضمون الرسالة قبل ان تستلمها بالبريد ؟ !!
في اسفل الصفحة الثالثة من كتاب الفنجان ، وصلتْ قارئتنا الى بند الطائرة والسفر ، ومدّت الفنجان امام انظار جارتها مشيرة الى موضع الطائرة . عندما خلتها في ختام قراءتها ، قلت لها بشيء من السخرية : وأين عين الحسود ؟ تناولت صاحبتنا الفنجان بامتعاض ،  وبعد ان أعادت حساباتها ورؤاها وتفسيراتها،  واستنجدت من جديد بخيالها ، قالت : فعلا هناك عين بعيدة في الجانب الايمن الجنوبي من الفنجان ، وفقأتها بأصبعها . وخوفا مِن ألاّ اذكِرّها بأمور اخرى ، استمرت بتقليب الصفحات في قراءة مواضيع لا تضرّ ولا تنفع عن مرض يمكن تجنبه ، واخبار سارة عن نجاح وخطوبة وزواج ، أمور عامة لا بدّ لها ان تتحقق في حياة أي انسان .
إن قراءة الفنجان تندرج ضمن ممارسات اخرى كفتح الفال وقراءة الوجه او الكف ، او الابراج أو رمي زهر النرد أو البحث عن فك رموز قديمة بواسطة الحروف والارقام ، أو قراءة علامات معينة في السماء تدعو للتفاؤل أو التطيّر والتشاؤم ، وايضا العودة الى تنبؤات شخصيات تاريخية مثل نوستراداموس وغيره ، في محاولة لتقريب هذه العلامات والتنبؤات من وقائع معينة او ظروف خاصة نمرّ بها. كان الانسان دوماً يحتاج الى كشف المجهول ومعرفة المصير، أو التعجيل في معرفة مستقبل قريب متمنيا سير الامور كما اشتهتْها سفنه ، حتى اذا كان قائلها وكاشف غطائها مازحاً او حتى كاذبا.
فكّرتُ في الموضوع مليّاً وقلت بان امر الفنجان شائع ، وكل قارئة لها فقرات عامة تفسرها على هواها وعلى هوى ما تقرأه في وجه زبونها ، لماذا لا اخوض أنا ايضا هذه التجربة واقوم بقراءة فنجان لنفسي ؟ لاسيّما وأن الخيال سيوصي عليّ عند كافة مكاتبه وفروعه. قمت بغلي القهوة وبعد ان سكبتها في فنجان كبير احتسيت ثلثيها . قمت بمراسيم تجفيفها ، بغية الحصول على أكبر عدد من خرائط تحوي مباني وطرق مواصلات ومدن وبشر وحيوانات. امهلتُ الفنجانة المدة الشرعية المنصوص عليها ، وعندما امسكت بها امتلا قلبي فرحا لان ورشة الرسم كانت عامرة  بصفحات توفر قراءة ممتعة ، فتناولت الصفحات تباعا وكانت حصيلة رؤيتي كما يلي :
رأيت شجرة كبيرة جدا امتدّت بعض جذورها الى ما وراء الجبال ، وطال جذعها  فدخل عدّة منعطفات ، منحدراً هنا ومرتفعاً هناك الى انتهي بفروع وأغصان كثيفة الاوراق توزّعت على مساحة مائة وثمانين درجة . كانت نهاية الاغصان في مناطق واسعة مقفرة ، بالرغم من مساكنها الكثيرة . كانت الشجرة قد نفضت بعض اوراقها هنا وهناك.  جلستُ لامعن النظر في الشجرة ومسارها ،  ودعوت نفسي لوقت قصير من التأمل ، كنت انظر الى الرسم واغمض عينيّ ، واقلب الموضوع مرتين وثلاث ، وبعدها قرأت الفنجان لنفسي بصوت مسموع قائلا  : هناك طرق طويلة  خلت من سالكيها ، وبعد ان قطعوا شوطا كبيرا  انتهوا الى  مساحات مشيدة وهي المدن والقرى . كان بعض الناس قد وصلوا والبعض الاخر  جالس على قارعة الطريق ، وقسم آخر يركض لأنه أشرف على إصابة الهدف المنشود  . كانت وجوه السائرين مبتهجة . هل هناك تفسير آخر لما اراه سوى أنّ الجماهير متجهة الى القرى التي نزحت منها ، وها اني أشبِه بينهم  أشخاصا اتوقع معرفتهم . رأيت الجماهير وكأنها  دخلت قره قوش ، واخرى على وشك الدخول الى برطلة  وكرمليس ، وفي الجهة الاخرى ابصرت اناسا رفعوا علما في بعشيقة وبحزاني وسنجار ، وبعد تقليب الصفحة، رأيت الناس يهللون في تلكيف ، وباطنايا ، وباقوفا ، وتلّلسقف ، ورأيت جماهير غفيرة اخرى قد خرجت لاستقبال   القادمين والترحيب بهم ،  فقلت لا بد ان هؤلاء هم اهالي القوش الابطال .
بحثت عن مدينة الموصل فرأيتها هادئة ومأهولة ، غير اني  لم ألحظ اناسا يدخلونها ، فقلت لا بدّ لي من الاستفسار  او السفر الى المدينة لأتأكد بنفسي من وضع مدينة مهمة لم أبصر فيها حركة العائدين ، ولكني استدركت نفسي وقلت : اذا لم تكن الموصل قد خلت تماما من حملة الرماح والسيوف ، وأيضا من ربّهم  الدمويّ الذي يلتذّ بتعذيب خليقته وذبحها !! ، كيف تطمئنّ نفسُ ساكني هذه القرى ويعودون اليها دون خوف ؟
لم أرَ في الفنجان عينَ الحسود ولا فضاءات مظلمة أو ابواب مغلقة ، كانت الشمس ساطعة والاشجار قد اخضرّت والعصافير  ومعها الفراشات تتحوّل من غصن الى غصن لمواكبة العائدين ، فانتهيتُ بقناعة بأن الفرج قريب . هذه كانت قراءتي الخاصة للفنجان . ولماذا لا تصحّ القراءة ، لاسيما وانّي كرّستها لهذه النية التي تشغل بالنا جميعا ،  وتعبر عن آمال مئات الالوف من المنكوبين الذين رأيتُ كل واحد منهم في خيالي  يشاركني برشفة من فنجاني ذي الحجم الكبير؟ 






Matty AL Mache