تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

جدل حول ثورة 14 تموّز / د. يوسف شيت

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يوليو 15, 2015, 03:55:47 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

جدل حول ثورة 14  تموّز


برطلي . نت / بريد الموقع

د. يوسف شيت

التحليل المنطقي للأحداث التاريخية يعطي الفكرة الأكثر قربا للحقيقة في تحديد أسباب وقوع الحدث، وهذا لا يمنع من تواصل الجدل حول الحدث مهما اختلفت وتضاربت الأفكار حوله. وتضارب الأفكار ينبع من النظرة الطبقية للحدث رغم أنّه في كثير من الأحيان يغطّى بطابع قومي أو ديني أو عرقي. الأحداث التاريخية التي نعنيها هنا، هي الثورات والحروب العالمية والإقليمية والأهلية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير في بنية المجتمع الطبقية أو الديموغرافية أو تغيير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة. وفي كلّ الأحوال فهي صراعات طبقية مهما زيّنت بواجهة قومية أو دينية أو عرقية، والاختلاف في النقاش هو اختلاف في وجهات نظر طبقية، أي الدفاع عن المصالح المادية سواء كانت مصالح ذاتية أو حزبية تمثّل فئات أو طبقات اجتماعية محددة، وبغض النظر عن قبول المحاورين بالصراع الطبقي أو عدم قبوله وتحويره بإعطائه واجهات أخرى. والواجهة القومية والدينية والطائفية يستغلّها السياسيون لإثارة عواطف الناس والكسب السياسي لتوظيفه لمصالحهم كما يجري في العراق.
ثورة 14 تمّوز تعتبر من أهم الأحداث في تاريخ العراق المعاصر، سواء اعتبرت انقلابا عسكريا أو مؤامرة على النظام الملكي أو مجرّد محاولة الجيش للتدخّل في الشؤون السياسية للبلد. وهذا لا ينفي بأنّ ثورة تمّوز جاءت بعد أن عجز النظام الملكي الذي كان يمثّل طبقة الإقطاعيين وفئة الكومبرادور من كبار التجّار المتطفلين على أموال البلد عن حل المشاكل المتراكمة وهي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومنها  زيادة البطالة والفقر بسبب الهجرة من الريف إلى المدينة للانخراط في سوق العمل الذي هو أصلا لا يستوعب سكان المدن، الحدّ من حرية الرأي بملاحقة الصحف والمطبوعات التي تعارض النظام وزج المعارضين في السجون، الإجهاز على المنظمات المهنية التي أجازتها بنفسها ثمّ غلقها، مطاردة الأحزاب الوطنية وتجريم قياداتها وإصدار أحكام بحقّهم تصل إلى الإعدام، كإعدام قادة حركة الجيش في 1941 وإعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي بعد وثبة كانون الثاني 1948، قمع الانتفاضات الشعبية بطرق وحشية وإراقة دماء المنتفضين وسحب الجنسية من شخصيات وطنية ونفيهم خارج العراق. هذا بالإضافة إلى تكبيل البلد باتفاقيات عسكرية واقتصادية تنخر أمواله الضئيلة وتوظيف أموال طائلة للأجهزة القمعية. بالإضافة إلى خرق النظام لكثير من مواد دستور 1925 لم يسنّ مجلس النوّاب أي قانون يراعي مصلحة الجماهير، خاصة الفئات الفقيرة، لأنّ معظم نواّبه ينصّبون بإرادة الحكّام الذين ربطوا البلد باتفاقيات جائرة وفي مقدّمتهم الوصي على العرش عبد اله ونوري سعيد. مثلا في انتخابات 1954، رغم تزويرها، حملت 11 نائبا معارضا إلى البرلمان، وهذا ما لم يتحمّله النظام. على أثر ذلك تمّ تعيين نوري السعيد، بأمر من بريطانيا، رئيسا للوزارة والذي قام بدوره في إلغاء نتائج الانتخابات وإجراء انتخابات جديدة في نفس العام بعد أن أصدر مراسيم جديدة لقمع ما تبقّى من الحريات وإسكات صوت المعارضة. بهذا الصدد يقول عبد الرزاق الحسني في مؤلفه " تاريخ الوزارات": " انتهت الانتخابات الجديدة بمأساة لم يشهدها تاريخ البرلمان العراقي نظيرا لها، لعلّ أغربها أنّ الشرطة كانت تعتقل كل مرشّح غير مرغوب فيه من قبل الحكومة، وفاز بالتزكية 121 نائبا من أصل 135 وفاز البقية بانتخاب صوري". كما زاد عدد ممثلي الإقطاعيين من شيوخ العشائر والأغوات من 19% عام 1925 إلى حوالي 40%. وهنا نرى باستحالة تشريع أي قانون  يمسّ مصالح الفئات التي يمثلها النظام شبه الإقطاعي وأصبح النظام عائقا حقيقيا في تطور العراق من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية.
إنّ عجز النظام عن تقديم أي حلول لمشاكل البلد وضعت الأحزاب والمنظمات والشخصيات الوطنية أما مسؤولية تاريخية وهي اتخاذ قرار بتغيير الأوضاع بعد أن استنفذت كلّ الأساليب في الضغط على النظام بتغيير أسلوبه في إدارة الدولة لصالح الجماهير الغفيرة، وبعكس ذلك جوبهت تلك الأساليب باستخدام الحدّ الأقصى لقوّته القمعية. على هذا الأساس تشكّلت جبهة الإتّحاد الوطني عام 1957 من الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب البعث وحزب الاستقلال ورفض طلب انتماء الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى الجبهة من قبل البعث والاستقلال لنظرتهما القومية الشوفينية وتوجهات  الحزب الديمقراطي الكردستاني الماركسية إلى جانب توجّهه القومي الكردي، مما حدا بالحزب الشيوعي العراقي إلى عقد اتفاق ثنائي مع الديمقراطي الكردستاني لتوسيع جبهة المعارضة الشعبية. لم يكن الجيش العراقي بعيدا عن هموم الشعب لأنّ الأغلبية الساحقة من جنوده وضبّاطه وضبّاط الصفّ ينحدرون من فئات متوسطة وفقيرة، وعلى أساس نظرته هذه شكّل الضبّاط خلايا سرية التي توحّدت تحت اسم "حركة الضبّاط الأحرار"، وكان الكثير من ضبّاطها ينتمون أو لهم علاقات مع أحزاب جبهة الاتحاد الوطني. كما أنّ أحزاب الحركة الوطنية العراقية كانت لها علاقات مع أنظمة وحركات وأحزاب تقدمية في المنطقة والعالم، لذلك لم تكن بعيدة عن الأحداث العالمية والتفاعل معها والاستفادة من تجاربها.
في صبيحة الرابع عشر من تمّوز 1958 قامت القطعات العسكرية بالاستيلاء على بغداد بقيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم بعد أن كانت بعض الأحزاب قد أبلغت بالحدث، ومنها الحزب الشيوعي العراقي الذي بادر إلى قيادة الجماهير الغفيرة عن طريق منظماته المنتشرة في كافة أنحاء العراق لمساندة انقلاب الجيش الذي تحوّل، وخلال ساعات قلائل، إلى ثورة عارمة أعمت عيون من كان ينظر إلى النظام العراقي  كونه سند دائم للرأسمالية العالمية وأحلافها العدوانية والأنظمة الرجعية في المنطقة لا يمكن زعزعته، وأجهضت كافة محاولات الدول الرأسمالية في التدخل العسكري للقضاء على الثورة بوحدة الجيش والشعب العراقي والإصرار على حمايتها مهما كلّف ذلك، إلى جانب الإنذار السوفييتي ضدّ أي عمل عسكري ضدّ العراق ووقوف الجمهورية العربية المتحدة في بداية الثورة إلى جانبها.
بعد الثورة حصلت إصطفافات طبقية جديدة، وهي حالة طبيعية بعد كلّ ثورة، بعد أن تشكّلت حكومة تمثّل  الأحزاب البرجوازية الوطنية وأبعد ممثلي الطبقة العاملة والفلاّحين عنها التي يمثّلها الحزب الشيوعي والنقابات العمالية والاتحادات الفلاحية، إلاّ أنّ تشكيلة الحكومة هذه لم تكن عائقا أمام الحزب الشيوعي والطبقة العاملة والفلاّحين وفئات المثقفين والكسبة في مواصلة النضال من أجل تحقيق المزيد من أهداف الثورة وإرساءها في كافة المجالات للانتقال إلى نظام برلماني ديمقراطي. إلاّ أنّ تنكر الأحزاب القومية ، خاصة حزب البعث، لأهداف الثورة واصطفافها إلى جانب الفئات المتضررة منها،بما فيها منظمات إسلامية، وبمساعدة شركات النفط الاحتكارية العاملة في العراق ومخابرات الدول الرأسمالية وبعض الأنظمة في المنطقة تمّ تشكيل حلف غير معلن للقضاء على الثورة وتحت شعار مشبوه "يا أعداء الشيوعية اتّحدوا". إلى جانب ذلك انحرفت سياسات عبد الكريم قاسم عن خط الثورة بسبب ملاحقته من ظلّ أمينا على أهدافها وصرف النظر عن النشاطات التآمرية، واستغلال هذه السياسات من قبل الحلف المشبوه الذي انتقم من الثورة ونقل حزب البعث إلى قمّة السلطة في 8 شباط 1963 ومنها أدخل العراق في نفق مظلم بعد سجن وقتل وتعذيب واغتصاب الآلاف من العراقيين وأصبح ما حققته الثورة خلال عمرها القصير في خبر كان.
لم يشهد العراق بعد الانقلاب الفاشي في 1963 سوى فترات قصيرة جدا من الاستقرار، بعدها أدخله النظام الدكتاتوري السابق في حروب لا ناقة ولا جمل فيها للعراقيين حتى مجيء الاحتلال في نيسان 2003 وفرضه نظام المحاصصة الطائفية والأثنية بمؤازرة الأحزاب الطائفية والقومية التي أدخلت البلد في دوّامة الإرهاب والفساد. إنّ الذين يحمّلون الثورة وزر ما آلت إليه الأحداث المأساوية، إنّما يبررون جرائم الأنظمة التي بدأها النظام الفاشي عام 1963 ولحدّ الآن انطلاقا من مصالحهم الذاتية. ولكن يبقى الأهم هو الاستفادة من دروس ثورة 14 تمّوز المجيدة لإخراج العراق من النفق المظلم.