ثلاثة اشهر فقط من الخدمة الالزامية

بدء بواسطة simon kossa, أغسطس 09, 2011, 03:32:33 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

simon kossa

ثلاثة اشهر فقط من الخدمة الالزامية
شمعون كوسا

غالبا ما نسمع الكثيرين من الضالعين في اللغة العربية يتحدثون عن (بنات أفكارهم) ، فقلت إذا كان فكري أيضا أباً لبنات ، لماذا لم أتوقف يوما لتكليف احدىهذه البنات  بتخفيف الحمل عني في البحث عن موضوع او إسعافي في اوقات أرى نفسي وقد ضاقت بي السبل ونضب معيني الداخلي كالارض التي تهجرها الامطار او تعاقبها الاقدار؟  قلت فلنحاول ، ولم يكـذبّ الفكرُ الخبرَ فقام باصدار أمره بهذا الاتجاه ، واذا بأربع كائنات طاعنات في السن يَمثـُلن امامي صفاً واحداً ، بشعركثيف غزاه الشيب فغدا مرتعا لخلايا قضت نحبها ولم تجد لها مقبرة أقرب من شعرهن.  فقلت يا إلهي ما هذا ؟ هبّت إحداهن بوجهي زاجرة : ما بالك مستغربا ، هل تعتقد بان كل ما فكرت به سابقا وما تكتبه الان هو ثمرة جهودك او وليد يراعك ؟ ما  الذي أوصلنا نحن الى هذه السن وهذا المنظر غير نشاطنا الذي لم يعرف السكينة ولو للحظة .  قلت لهن : وما العمل ، اليس لديكن أخوات فتيّات او صديقات او بنات أعمام يبحثن لي عن موضوع لهذا اليوم على الاقل ؟
إختفت المتقاعدات الاربع لاخلاء مسرح الفكر لبنت فتية ظهرت وهي تحمل وريقة مطويّة باعتناء . قمتُ بفتح الوريقة ، واندهشت لدى رؤية تأريخها ، لانه بالرغم من قدمها ، كانت متماسكة تماما وحافظت على لونها وخطوطها .
كانت ورقة صغيرة اُستـُخرِجت من قاع صندوق منسيّ ، احتجزته بنت الفكر هذه لتقوم بلعب دورها  في يوم كهذا . كانت الورقة تحمل العنوان التالي : (سمعان في الجيش   -سنة 1970)   .  لجوئي الى بنت الفكر الفتية وفـّر عليّ وقتا طويلا كنت احتاجه لاستعادة الاحداث، لأنّي رأيت الواقعة امامي وكأنها وليدة بضعة أيام خلت . الموضوع يتعلق بقصة صديق قديم كانت قد تركت ظروفـُها وتطوراتـُها وقعا كبيرا في نفسي ، فقيـّدتُ خطوطها العريضة ، كما كنت قد اعتدت في كل حدث يثير اهتمامي .
فإلى من يهوى سماع القصص او الانصات الى أحاديث قديمة دون أن يهاب وجع الرأس ، الذي إذا بدأ بوخز صاحبه ، فانه يردد لمئات المرات جملته : ألم ينتهِ صاحبنا لحدّ الان ؟ 
تبسيطاّ للامور ، أقترح ان يكون سمعان هو الذي يروي قصته مباشرة ، أي ان يكون الحديث بصيغة المتكلم عوضا عن إتّباع اسلوب الغائب المملّ الذي يزيد من فرص وجع الرأس في جمل تبدأ بـِ  :قال سمعان ، وتابع سمعان واضاف سمعان وأجاب سمعان !! فها هو سمعان في قصته :

تركتُ معهدا دينيا تابعتُ الدراسة فيه تقريبا الى النهاية ، أعني لاكثر من احدى عشرة سنة . خشية وجوب الانضواء تحت خدمة العلم ، اضطررت للعودة الى مقاعد الدراسة في الليل ، في صفوف يرتادها عادة من هُم في الثانية عشرة من عمرهم ، لان البلد الذي كان قد ولدني كان يتجاهل كليـّا  مستوى معهد ديني مسيحي يقتصر تعليمه على ست سنوات لغة فرنسية ، وثمان سنوات لغة آرامية وست سنوات لغة عربية نحواً وصرفاً ، وأربع سنوات لغة لاتينية فقط !!، ناهيك عن سنتي فلسفة واربع سنوات لاهوت . اريد الايضاح هنا بان هذه المواد كانت تلقى بعضها في نفس اليوم  أو نفس الاسبوع ، لاننا اذا تورطنا بجمعها متراكمة لتوصلنا الى ثلاثين سنة دراسة على الاقل !!!

ولكي لا اطيل عليكم الحديث اقول : صدر أمر يقضي بتوجّه كافة الطلاب المتجاوزة اعمارهم الى الخدمة العسكرية وكان القرار يشملني . بمؤازرةٍ من ضابط التجنيد ، تمكنت من تأجيل جنديتي لاربعة اشهر لاني كنت اعمل في شركة اجنبية في كركوك ، بعد ذلك نصحني الضابط ألاّ ألجأ الى تأجيل جديد ،  لان الفترة الالزامية لا بدّ من خدمتها ، ومن الافضل الابتداء مبكرا للخروج مبكرا . وتمّ سَوقي الى مركز تدريب كركوك .

أعرف بان البعض سيقول ، سيبدأ الاخ بإرهاقنا بسرد مجريات مراكز التدريب التي لا تخفى تفاصيلها على أحد . فعلا ، لا أرغب الدخول في التفاصيل ولكن بعدما امضيت خمسة عشر يوما هناك أوكد بان من يُقاد الى العسكرية ، يجب ان يعتبر نفسه نكرة ، لانه إن شاء أم أبى سيُعامل بطريقة فضّة لا تستخدم الا مع العبيد أو البهائم. يرى الجندي نفسه امام رئيسه كطفل يجب ان ينفذ اوامر صبيانية  وأن يخضع دون نقاش لعقوبات لا تليق بالرجل البالغ السويّ ، كالركض والهرولة والزحف والوقوف في الاستعداد والسجن وحرمان الرأس من شعره وغيره، وكل هذه الاحكام ، التي تفرض لأتفه الاسباب ، لا يرعاها قانون غير مزاج الضابط ، وإنّ خطأ جندي واحد احيانا يؤدي الى معاقبة الجميع .

عندما يُنادى الجندي ، يجب ان يتقدم بدق رجله اليسرى دقـّا قويا ، واداء التحية بيدٍ تهتز لقوتها ،  ويبدأ بتقديم نفسه كالتالي: أنا الرقم فلان !! ومن ثمّ  يذكر اسمه ، فيتقدم الضابط ، وإذا كان شخصا معقـّدا ، وقلـّما نجد عكس ذلك ، يدنو من الجندي في عملية تفتيش هدفها إيجاد ثغرة سخيفة ، كزرّ ناقص او غير مغلق بصورة جيدة ، او حذاء مغبرّ، او قبّعة معوجة والى آخره ، لاصدار أمر يعالج فيه عقدته النفسية أو يشفي غليلأ لم يقوَعلى اشباعه مع مستحقيه.

بهدف إراحة سمعان قليلا ، وتلطيفا للجو المنفعل هذا، اريد فتح قوسين في طرفة ، لعل البعض قد سمعها من قبلُ، ولكنها لا تخرج عن نطاق مركز التدريب . يُروى عن جندي في يومه العاشر في المركز . كان كلّما وصل ،  العريف المسؤول عن التعداد الصباحي الى اسمه،  يتجاوزه ويرفض قراءته . بدأ القلق يساور الجندي المستجدّ وخاف ألاّ يقيّده العريف غائبا . في أحد الايام ، وبعد التعداد مباشرة ، تجرّأ الجندي وتقدم بحالة استعداد نحو الضابط المشرف على التدريب وشرح له الموضوع .  ألتفت الضابط  للعريف مستفهما منه الامر، وهذا بدوره دنا من الضابط ليعترف له بصوت خافت قائلا : سيدي لا استطيع ذكر اسمه لانه سيحدث بلبلة وضحكا بين الجنود ، ووشوش له الاسم في أذنه . طلب الضابط من الجندي ذكرإسمه ، فاجابه الجندي : إسمي هو  مُضر  طه . كان العريف قد نسي ترك مسافة بين اسم الجندي واسم ابيه !!! ، واستأنف سمعان :

تمّ نقلي الى كتيبة مدفعية لمقاومة الطائرات ، وكنتُ قد حصلت على وعد من أحد الضباط لتنسيبي الى قلم الكتيبة للاستفادة من قابلياتي اللغوية وغيرها . في احد الايام تمّ تبليغي بالتوجه الى مديرية الاستخبارات العسكرية . اعتبرتُ الموضوع عاديا ولم أعِر له اهتماما خاصا . في قاعة الانتظار المديرية سألني احد الجنود عن تهمتي ، ولم ينتظر ردّي كي يقول بان الخضوع لتحقيق الاستخبارات ينتهي احيانا بعقوبات أقلها التعليق بالمراوح ، وعدّد لي عقوبات خفيفة مماثلة اخرى .  نودي إسمي ، فوجدت نفسي امام عدد من الضباط الذين فاجأوني بالسؤال : لماذا تتكلم بالانجليزية في التدريب؟ فاجبتهم : ومع من اتحدث بالانجليزية ولماذا ليس بالفرنسية مثلا، ولكن لماذا ؟ السؤال الثاني : لماذا تعمل في الشركة الاجنبية ؟ فعلا كنت اقوم ببعض اعمال الترجمة للشركة لاوفـّر على الاقل ثمن بدل ايجار غرفتي ، لان راتب الجندي آنذاك لم يكن يتعدّى الثلاثة دنانير وخمسمائة وسبعين فلسا . بعد تحقيق طويل عن الشركة الاجنبية وامور اخرى، انتهى المحقق بالقول : لا تتقرب من الشركة ، وعليك مراجعة ضابط استخبارات وحدتك .

انطلقت حالاً إلى الضابط الذي نسيت اسمه وقابلني هذا بعبوس ، زاد سحنته السوداء بشاعة وقال : هيّئ نفسك للتوجه الى جبهة القتال في الاردن ، لانه ، بعد نكسة 1967 ، كانت هناك قطعات عراقية لا زالت ترابط في الاردن . 
إذا شرعتَ بوصف حالتي النفسية سازيد من فرص وجع الرأس ، لذا انهي الفقرة بالقول : بفضل توسّط رئيس العرفاء الذي كان قد اعتاد على طلب مبالغ من المال لقاء وعد  يُطلق على نفسه اسم (كلام شرف) ، تمّ الغاء النقل .

في يوم آخر ، وعند التدريب الصباحي للوحدة ، ناداني الضابط المشرف ، وكان من فصيلة من يحملون على أكتافهم الحروف (ن  ض  ت  ح) أو كما كان يطلق عليهم عامة الناس لقب (ابو الموس)  !!! تقدمتُ اليه ودائما ياستعداد تام وقال لي : سمعان افندي ، عليك التخلص من النظارات الطبية لانها ممنوعة في التدريب ، واضاف أيضا  : ألم تلمحني يوم امس في السوق ، لماذا لم تؤدِّ التحية ؟ فاجبته يا سيدي لقد قيل لنا بان التحية تُؤَدّى للرتبة العسكرية وانت كنت البارحة بزيّ مدني . لم يعجبه ردّي وأمر حالا بحلاقة شعري كاملا . قبلتُ العقاب بقلب مكسور ونفس محبطة تماما  ولكن رئيس العرفاء الحريص على عدم فقد رزقه السهل المضمون بكلمة شرف ، تمكن من إقناع الضابط ، أبو الشفرة ، لانه كان من بني جلدته .
بعد هذا غدوت أخاف من كل شئ ، كنت دائم الاستعداد لأداء التحية بمناسبة او غير مناسبة . ذات مرة كنت ادفع عربة يدوية لنقل الرمل في احدى عمليات السخرة التي لا هدف لها غير اشغال الجندي وتعذيبه ، فوجئت بمرور احد الضباط ، فوقفت ورفعت يدي اليمنى لاداء التحية فانقلبت العربة بما فيها ، دون ان يهتم صاحب السيادة للموضوع أو حتى يلتفت .

مرة اخرى تم تبليغي بوجوب العمل في مطعم الضباط ، انا الذي لا اعرف عن الطبخ شيئا ، وقال لي احد الجنود المخضرمين في الجيش بانه اذا حدث وأن لم يرضَ الضابط عن الطعام ، يقوم باهانة الجندي او شتمه بكل سهولة، فرفضت العمل . طلب الضابط حضوري ، وقبل ان يسمعني أتاني بصفعة قوية جدا على وجهي وأمر بحلاقة شعري وإيقافي لمدة ساعة تحت شمس آب المحرقة . وفعلا قام الحلاق ، معتذرا ومتأسفا ، بازالة شعري الذي كان يزعج الضباط  وتم اقتيادي تحت الشمس ،  وبعد التأكد من خلوّي من القمل او حشرات اخرى !! ، اعادوني كالمجرم الذي ثبتت ادانته الى الضابط الذي واجهني بيد مرفوعة لصفعة ثانية في حالة رفضي العمل ، فقبلت العمل صاغرا شاكرا.

لسوء حظ صاحب الصفعات ،  لم اخدم في المطعم ، لاني خلعت الجيش يوم صدور قانون البدل النقدي ، وأكاد اكون اول جندي إشترى نفسه بدفع المائة دينار المنصوص عليها في القانون . خرجت للحياة بالضبط  كمن افرج عنه بعد سنوات طويلة من السجن او كمن الغي حكم اعدامه .

لقد انتهت الخطوط العريضة لقصة سمعان ، وانا متأكد بان الكثيرين سيوجّهون له انتقادا لاذعا قائلين بان القصة اقل من عادية مقارنة مع الايام السوداء لحروب لم يعشها سمعان . ولكني اقول بان كل حدث يُقاس بمدى تأثيره على الانسان ووقعه داخل نفس الشخص . صاحبنا عانى لانه كان مرهف الاحساس كان ينكسر وينجرح دون ارادته جرّاء تصرف او أمر قد لا يترك أيّ وقع في غيره ، ولذا كان قد قال لي في حينه بانه كان فعلا يفضل ان يكون حماراً بكل ما تعنيه الكلمة ، لكي لا يشعر بالاهانة ولكي ينقاد للاوامر صاغرا دون تفكير او تأسّف او مناقشة او حزن أو حتى بكاء .
وانا اضيف ، اشكر الله بان سمعان لم يتحول الى حمار ، لانه لولا قصته هذه لكانت بنات الافكار لحد الان في جولتها للبحث عن موضوع آخر للمقال !!


ماهر سعيد متي

#1
أوكد بان من يُقاد الى العسكرية ، يجب ان يعتبر نفسه نكرة
سرد جميل .. وخبرة تسثحق الذكر .. كل عراقي مر بتجارب مريرة تصلح ذكرها، لا بل ان تؤلف عنها عشرات الكتب حاوية على خبرات قيمة .. شكرا لك على المقال .. تحياتي
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة

simon kossa

الاستاذ ماهر

فعلا القصص بعشرات الالوف ، وكان قد قال القائد الاعلى باني ساجعل لكل عراقي قصة ، فالقصص كانت لمن خدموا العسكرية التي كانت االخروج منها بعوق مباحا ، والانتهاء فيها مفقودا ايضا  كان أمرا مباحا والاسر فيها عاديا والموت فيها شرفا . الشرف كان الموت في سبيل ارضاء نزوات شخص  ، والكلام كما قلت يطول ولا ينتهي حتى باطنان الكتب.
شكرا لمداخلتك