مدينة بغداد السريانية وقصة القس والدير

بدء بواسطة موفق نيسكو, يناير 04, 2015, 11:11:52 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

موفق نيسكو

مدينة بغداد السريانية وقصة القس والدير

ورد اسم بغداد في المصادر القديمة بعدة صيغ مثل بغداد، بغداذ، بغدان، معذاد، مغداذ، ويُسميها بعض الأتراك إلى اليوم (بغدات)، وسُميت بمدينة السلام نسبة إلى نهر دجلة الذي كان يُسمَّى نهر أو وادي السلام، وهذا الاسم أطلقه عليها أبو جعفر المنصور تفاءلاً به، وسميت المنصورية ومدينة المنصور نسبة إلى الخليفة المنصور (المسعودي، مروج الذهب3: 992. ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ص163، ياقوت الحموي، معجم البلدان ج1:ص678، أبو الريحان البيروني، الآثار الباقية عن القرون الخالية، وغيرهم)، كما سُميت الزوراء نسبة إلى ازورار الباب أو القبلة في المسجد (المسعودي، التنبيه والإشراف، ص312)، أو من ازورار (قوس أو ميل) نهر دجلة (ابن كثير البداية والنهاية 1: 97 ومعجم البلدان2: 954)، أو أنها سُمَّيت المدينة المدورة لأن المنصور وضع أساسها بشكل مدوّر، والأسماء الأربعة الأخيرة عربية أمَّا الأولى فقد قيل فيها الكثير منها سومري وفارسي وغيره، ويقول الأستاذ طه باقر أمين المتحف العراقي إن اسم بغداد ورد في المصادر المسمارية بصيغة بغداد (بكدادا) أو بغدادو، غير أن المقطع (بغ) يقرأه المستشرقون ب (خو) فتكون القراءة خودادو، وهذا بعيد لأن مقطع (خو) يعبر عن الصوتين (بغ و خو) وليس للصوت الأول مقطع خاص به، وترفض دائرة المعارف الإسلامية أيضاً أن يكون اسم بغداد سومري (ج4 ص4)، أمَّا الوثائق التي ورد فيها الاسم قديماً فهي:
1: لوحة سبار في تل أبو حبة وتعود للقرن الثامن عشر قبل الميلاد أي زمن حمورابي.
2: حجر زمن الملك الكشي (نازي ماراتاش) حوالي القرن 14 قبل الميلاد، وحجر آخر زمن الملك الكشي (مردوخ بلادان الأول) في القرن 12 قبل الميلاد ووردت بصيغة (بكدادي).
3: حجر يُعرف ب (حجر ميشو) اشتراه سنة 1780م طبيب أوربي ويعود للقرن 12 قبل الميلاد.
4: رقيم طيني عُثر عليه في نينوى يعود للقرن السابع قبل الميلاد.
وهناك آراء تقول إن كلمة بغداد فارسية وغيرها ومنها:
1: معنى بغداد في معجم البلدان 1:677 هو فارسي يتكون من باغ ومعناها بستان وداد أو داذويه اسم رجل.
2: باغ هو اسم صنم أهداه إلى كسرى خصي المشرق وقال له بغ داد أي الصنم أعطاني: (المعرب للجواليقي ص73، وورد هذا الرأي أيضاً في معجم البلدان).
3:  كلمة بغداد آرية استعملها الكاشيون أو فارسية معناها عطية الله.
4 اسم بغداد في لغة أهل بابل القدماء مكون من بغ يعني البستان أو الجنينة، وداد يعني الحبيب، ويصبح معنى بغداد هو جنينة الحبيب.
5: إن بغداد كانت سوقاً يقصدها تجار الصين، وكان اسم ملكهم بغ وعندما كانوا يرجعون لبلدهم كانوا يقولون بغ داد أي أن ربحنا هو من عطية الملك (معجم البلدان).
6: قال ابن الجوزي قول عبدا لله بن المبارك إن بغ معناها شيطان وداذ عطيته (مناقب بغداد ص6).
7: وقال آخرون أنها كلمة بابلية قديمة (بعل جاد) وتعني معسكر البعل لان هذه المنطقة كانت معسكراً للجيش البابلي، أو من كلمة (بعل داد) أي مدينة الإله شمس لانتشار عبادة الشمس في بلاد بين النهرين.
8: تقول دائرة المعارف الإسلامية أن اسم بغداد فارسي ومعناه عطية الله، لكن الأستاذ الدكتور عبد الرزاق الحسني يعلق في نفس الصفحة قائلاً، قد تحقق اليوم أن اللفظة ليست بفارسية بل هي آرامية تفيد معنى باب الإله أو باب الضان أو دار الغزل، فهي بل دودو أو بكدادا أو بيث كدادا(مج4 ص3).
9: إن كلمة بغداد آرامية (بلداد) تتكون من لفظتين (بل) وهو أحد الإلهة (وداد) ومعناه (فتك).
– والآن يرى أغلب الباحثين المعاصرين أن بغداد هي كلمة آرامية (سريانية)، ويقول الأستاذ طه باقر إن بغداد فقدت أهميتها وأصبح يُشار إليها كمستوطنة للقبائل الآرامية (رحلة تافرنييه إلى العراق في القرن 17، الملحق رقم17 ص112)، والباحثون يرون أن بغداد كلمة سريانية مؤلفة من مقطعين الباء من كلمة بيت وكاتد ومعناها القطيع أو الغنم فيكون معناها بيت الغنم أو الحضيرة (يوسف غنيمة، لغة العرب4: 1926–27 ص82، اغناطيوس نوري، رحلة إلى الهند حريصا ص4. وفؤاد البستاني، المشرق 32:1934 ص68)، شانها شان كثير من مدن وقصبات العراق ذات الأصول الآرامية مثل بعقوبة (بيت المتعقّب)، باعشيقا (بيت الظالم)، باطنايا (بيت الطين)، بحزاني (بيت المشهد أو بيت الحزانى)، باعذرا (بيت العذارى) وغيرها.
– معنى غداد بالسرياني الغنم أو الضان (المطران أوجين منا الكلداني، دليل الراغبين في لغة الآراميين ص82) ، فيكون معنى بغداد بالسرياني هو بيت الغنم أو الضان.
– يقول البطريرك السرياني اغناطيوس يعقوب الثالث إن كلمة كرخا (الكرخ) تعني المدينة المدوَّرة (البراهين الحسية على تقارض السريانية والعربية ص16) والكرخ كانت قرية مسيحية بين نهر الصراة ونهر عيسى.
– يقول الأب بطرس حداد أنه سمع البطريرك الكلداني بولس شيخو (1958–1989م) أكثر من مرة يشرح لهم معنى كلمة بغداد بأنها كلمة آرامية وأن الخليفة المنصور قبل زيارته للدير رأى رجالاً يجذلون الخيوط وينسجون الخيام، فسألوا الديراني من هؤلاء وما اسم المكان؟، فقالوا بكذاذا أي بيت كذاذا التي تعني موضع النسج وإعداد الخيام، فقال الخليفة سأُسمي مدينتي باسم الفقراء، ويُرجِّح الأب بطرس حداد أن اسم بغداد آرامي مستنداً إلى أن الأسماء الآرامية أقدم عهداً وأكثر انتشاراً من الأسماء الفارسية في العراق وأن أسماء المنطقة ذاتها هي آرامية مثل قطفا وسونايا وبراثا وغيرها (بطرس حداد، كنائس بغداد وديارتها ص10).
– يقول المطران السرياني اثناسيوس أغناطيوس نوري: وبغداد على رأي البعض مركبة من كلمتين: بغ وداد، وبغ فارسية تفسيرها كرم أو بستان، وداد اسم علم بمعنى العدل فهي إذاً كرم داد، وهذا الرأي مردود، فإن بغداد هي بلا شك لفظة سريانية، وقد ورد اسمها في العاديات المكتشفة حديثاً ومعناها الحظيرة، وهي مركبة من لفظتين بيت، وداد ومعناها الغنم والضان، ومن عادة السريان حذف الياء والتاء من كلمة بيت وإدخال الباء من اللفظة الأولى على اللفظة الثانية، فتصبحان كلمة واحدة، كما يقولون بكفيا أي محل الحجارة، ومثلها كثير، وهكذا بغداد أي الحظيرة باللفظ السرياني الشرقي، لذلك لا الفرس ولا العرب وضعوا لها هذا الاسم بل اسمها عريق في القدم، وقد ذكرها سعيد ابن البطريق في تاريخه فقال: إن بغداد سميت بهذا الاسم لأنه كان بها راهب في صومعة، وكان اسم الراهب بغداد، وكانت الصومعة في وسط أرض واسعة حسنة فاستحسن أبو جعفر الموضع فاختطه وبنى فيه المدينة، والأصح أن اسمها قديم منذ عهد البابليين الأقدمين كما ذكرنا آنفاً (هدايا المسرة أو رحلة إلى الهند).
– يقول الأب جان فييه الدومنيكي: وكان تأسيس بغداد بالنسبة للمسيحيين يعني العودة إلى مركزها التقليدي في ما يسمونه بيت أرماي أي ديار الآراميين، ومع أن الخليفة المنصور لم يُخطط للمسيحيين حي خاص بهم في بغداد لكن سرعان ما نشأت قرب قرية العتيقة ضاحية لليعاقبة (السريان الأرثوذكس) بالقرب من باب المحول كنيسة مار توما الى الجنوب الغربي من الكرخ، وحي للروم (السريان الملكيين) والنساطرة (السريان الشرقيين) بالقرب من باب الشماسية الباب الشمالي للرصافة التي بُنيت سنة 768م لأبن الخليفة المهدي (أحوال النصارى في خلافة بني عباس ص53).
– كما سُمَّيت بغداد بابل من قبل المؤرخين والرحالة الغربيين في كثير من المصادر التاريخية نظراً لشهرة بابل القديمة وقربها عنها حيث تصوروا خطأ أن بغداد هي بابل، ومن العرب الذي ربط بغداد ببابل ابن رستة حيث قال إن بغداد هي من ارض بابل (الأعلاق النفيسة ص108)، وتقول دائرة المعارف الإسلامية إن بغداد (بابل) هي حاضرة العراق حالياً، وكثيراً ما خلط الأوربيون بين بغداد وبابل في القرون الوسطى، كما خلطوا أحياناً بين بابل وسلوقية وقطسيفون، فقد وردت بغداد في مؤلفاتهم باسم بابل، بابلونيا (babel، babellonia)، وشاع إطلاق اسم بابل على بغداد في التفاسير التلمودية لشيوخ العشائر البابلية ومصنفات اليهود المتأخرين في العصر العباسي، وكان الرحالة الغربيون إلى القرن 17 يُسمُّون بغداد بلداخ بلد تشو (baldache، baldacco) ومنهم ماركو بولو الذي زار المنطقة سنة 1260م حيث سمَّى بغداد بلداش (رحلة ماركو بولو ج1 ص56–59)، وأن الرحالة الفرنسي بيترو ديللافاليه (1586–1652م) الذي زار بغداد سنة 1616–1617م هو أول من دحض هذا الرأي الخاطئ.
– في مطرانية سعرد الكلدانية مخطوط إنجيل كتبه سنة 1572م المقدسي برخو من قرية فيشخابور، يقول فيه: إنه أهدى الكتاب لكنيسة بابل وهي مدينة بغداد المشهورة (أدي شير، فهارس المخطوطات السريانية بالفرنسية، الموصل 1905م، رقم 20).
  – اعتقدَ عالم النبات والرحالة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف الذي زار العراق (1573–1575م) أن مدينة الفلوجة القريبة من أطراف بغداد هي بابل، واعتمد الرحالة الانكليزي الشهير جمس بكنكهام على رأي ليونهارت ووقع في نفس الخطأ (رحلة الهولندي ليونهارت راوولف في القرن السادس عشر ص177–192).                                             
– الرحالة كاسبارو بالبي (1550–1625م تقريباً) زار العراق سنة 1579م وسَمَّى بغداد (بابل الحديثة أو الجديدة).
– كتب الأب باسيفيك رئيس بعثة الكبوشيين في 12 آب 1628م وصلنا بابل ويقصد بغداد.
– الأب فيليب اسبري يوليان الكرملي (1603–1671م) الذي زار العراق سنة 1629م، يُسمِّي بغداد (بابل الجديدة) لأنها شُيدت بمواد بابل القديمة، كما أنه لم يكن يميز بين آشور وكلدية فيقول في وصفه لبلاد كلدية، كلدية أو دولة الآشوريين هي أقدم ممالك العالم التي ازدهرت منذ عهد نينوس، وأهم مدنها حالياً بغداد التي تُسمَّى بابل الجديدة (رحالة أوربيون، رحلة الأب فيليب، ترجمة الأب بطرس حداد ص62–68).
– الرحالة الفرنسي جان بابتيست تافرنييه الذي زار بغداد في 25 شباط سنة 1652م، مع أنه سَمَّى بغداد بابل، لكنه ميَّزَ بين بغداد وبابل القديمة فقال: وصلنا بغداد التي تُعرف عادة باسم بابل، ومع أن بغداد تعرف باسم بابل، فإنها تبعد مسافة كبيرة عن بابل القديمة (رحلة الفرنسي تافرنييه ص57).
– يقول الراهب الدومنيكي جوزيبه دي سانت ماريا سنة 1656م: إن بابل الأولى القديمة تبعد ستين ميلاً جنوب بابل (بغداد)، (رحلة سبستياني إلى العراق ص15، ورحلة كاسبارو بالبي ص83،91).
– سنة 1743م عُيَّن الأب عمانوئيل باييه الكرملي أسقفاً لبابل، أي لبغداد.
– يقول المعلم لومون الفرنساوي (1724–1794م): إن بابل هي كناية لبغداد كما أن نينوى هي كناية للموصل (المعلم لومون الفرنساوي، مختصر تواريخ الكنيسة ص606).
– لاحظ الرحالة الفرنسي اندريه دوبريه الذي زار العراق (1807–1809م) أن الكثير من المؤلفين يخطئون فيعدّون أن مدينة بغداد هي بابل (رحلة دوبريه إلى العراق، ترجمة بطرس حداد ص125).
– وحتى كنيسة روما أخطأت فتصوَّرت أن بغداد هي بابل، ويقول البطريرك الكلداني عمانوئيل دلي: عندما بدأ المرسلون والرحالة الغربيون يجوبون بلادنا ويطلعون أكثر فأكثر على تقاليدها وكنائسها وأصالة تراثها، كتبوا تقارير عن ما رأوا واطلعوا عليه من المعلومات التاريخية والدينية والجغرافية، وجاء في كتاباتهم الغث والسمين، فقد أخطأوا عندما ظنوا أن بغداد هي بابل، فخلطوا الحابل بالنابل، وخبطوا بين الجنوب والشمال. (المطران دلي، المؤسسة البطريركية في كنيسة المشرق ص147).
– يرى الأب بطرس حداد الذي ترجم كثيراً من كتب الرحالة إلى اللغة العربية: إن تسمية بابل لبغداد هي عادة عند أكثر الرحالة الغربيين، ولذلك اضطر هو نفسه أن يترجم كلمة بابل بكلمة بغداد، إلاّ عندما يتعلق الأمر ببابل الحقيقية (الحلّة) فإنه يُسمِّيها بابل.
بناء مدينة بغداد وقصة القس والدير
كانت الأديرة والكنائس المسيحية تنشأ عادة في المواقع الخصبة قرب الأنهر، ولهذا كانت أكثر الأديرة فيها بساتين وأشجار وجنان، ويتناول المؤرخون قصة بناء بغداد من قِبَل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (712–775م)، وهذه الرواية مقترنة براهب أو قس ودير أو وبستان يقع شمال قرية الخطابية المسيحية بين باب الشام وباب الكوفة أسفل شارع قصر هاني، لأن منطقة بغداد كان يسكنها ناس وكانت عامرة بالحقول والمزارع وكثيرة الترع والجداول المائية التي تصب في نهر دجلة أو المتفرعة عنه، وكان هناك دير صغير قرب بستان القس هو دير قرن الصراة أو دير مار فثيون الذي كان يقع عند مصب نهر الصراة في دجلة (أحمد اليعقوبي، البلدان ص235. وكان الدير قائماً إلى زمن وفاة اليعقوبي سنة 897م، (وفثيون هو قديس سرياني استُشهد في 25 تشرين الأول 446م وبُنيت عدة كنائس وأديرة على اسمه) ثم صار يُعرف بعد إنشاء بغداد بالدير العتيق للتمييز بينه وبين الأبنية الجديدة، وبعد إنشاء الدير شُيد القصران المشهوران بالخلد وقصر القرار، والمنطقة التي اختارها المنصور سنة 146هج، 744م لبناء نواة مدينة بغداد كانت أبنية مسيحية بين الدير وبستان القس، ويقول الدكتور مصطفى جواد والدكتور احمد سوسة: إن من المحتمل أن المنصور قد ألحق قسماً من حدائق الدير بقصر الخلد الذي اشتهر بحدائقه الواسعة (دليل خارطة بغداد قديماً وحديثاً ص9 و ص75) ، وذكر ماري بن سليمان في ترجمته للجاثليق السرياني النسطوري سبريشوع (832–839م) أنه جدد أبنية دير مار فثيون الذي كان قديماً أيام الفرس، ولما بنى المنصور مدينته ونزله الناس، هدم سبريشوع تلك الأبنية لأجل من تغلب عليها ولم يتعرض للهيكل والمذبح وجدد بناء الإشهاد والأروقة (ماري بن سليمان، أخبار فطاركة كرسي المشرق ص76–77)، وكان قرب الدير بستان يسمي بستان القس يقع شمال قرية الخطابية المجاورة لباب الشام، وكاهن الدير أو صاحب البستان كان واحداً ممن استدعاهم المنصور لاستشارته في بناء مدينة بغداد (دليل خارطة بغداد ص8 و40)، وذكر الطبري أن الخليفة المنصور نزل الدير قرب قصره المعروف بالخلد، واحضر صاحب رحا البطريق، وصاحب بغداد، وصاحب المخرم، وصاحب الدير المعروف ببستان القس، وصاحب العتيقة، فسألهم عن مواضعهم، وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول، فاخبر كل واحد بما عنده من العلم (تاريخ الطبري 7: ص616 حوادث سنة 145هجرية 762م )، وكانت بغداد محفوفة من أكثر أطرافها بأديرة لذلك لم يكن المنصور الوحيد الذي يُنشئ بناءً قرب الأديرة، فقد أنشأ معز الدولة البويهي قصره المشهور بالدار المعزية بجوار دير درمالس ومقابل دير درتا على ضفة دجلة اليسرى في أعلى بغداد (منطقة الصليخ حالياً)، وأنشأ الأمين قصره عند دير الزندورد الذي كان يقع قرب باب الازج (باب الشيخ حالياً)، وينقل كثيرا من المؤرخين بصيغ متعددة رواية الدير والراهب والبستان وكيف أن الخليفة المنصور أسس نواة بغداد، ويتخلل الرواية عنصر التنبؤ الأسطوري الذي غالباًً يُنسب إلى الرهبان ورجال الدين عموماً وبشكل طريف أحياناً، حيث تذكر الرواية أن الراهب تنبأ أن شخص اسمه مقلاص سيبني بغداد، ونحن نأخذ الراوية عن ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة بغداد:
عن علي بن يَقطين قال: كنت في عسكر أبي جعفر المنصور حين سار إلى الصراة يلتمس موضعاً لبناء مدينة، قال: فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة (دليل خارطة بغداد قديما وحديثا ص9)، فما زال على دابته ذاهباً جائياً منفرداً عن الناس يفكر قال: وكان في الدير راهب عالم فقال لي: كم يذهب الملك ويجيء قلت: إنه يريد أن يبني مدينة، قال: فما اسمه قلت: عبد الله بن محمد، قال: أبو من? قلت: أبو جعفر قال: هل يلقب بشيء قلت: المنصور قال: ليس هذا الذي يبنيها قلت: ولمِ قال: لأنا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قَرنا عن قرن أن الذي يبني هذا المكان رجل يقال له: مقلاص، قال: فركبت من وقتي حتى دخلت على المنصور ودَنَوتُ منه فقال لي: ما وراءك قلت: خير ألقيه إلى أمير المؤمنين وأريحه من هذا العناء فقال: قل، قلت: أمير المؤمنين يعلم أن هؤلاء معهم علم وقد أخبرني راهب هذا الدير بكذا وكذا فلما ذكرت له مقلاص ضحك واستبشر ونزل عن دابته فسجد وأخذ سوطه وأقبل يذرع به فقلت: في نفسي لحقه اللجاجُ ثم دعا المهندسين من وقته وأمرهم بخط الرماد (كان الرماد يُستعمل في تخطيط المدن)، فقلت له: أظنك يا أمير المؤمنين أرَدتَ معاندة الراهب وتكذيبه فقال: لا، والله ولكني كنت ملقباً بمقلاص، وما ظننتُ أن أحداً عرف ذلك غيري،.. إلى آخر الرواية التي يريد الخليفة أن يثبت أن لقيهُ كان مقلاص (كذلك راجع تاريخ بغداد أو مدينة السلام 1ص66. ابن الجوزي مناقب بغداد ص7. ابن الأثير الكامل في التاريخ 5: ص7. ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ص161–162. عبد الرحمن الأربلي، خلاصة الذهب المسبوك مختصر من سيرة الملوك ص73. تاريخ الطبري، حوادث سنة 145هجرية، وغيرهم).
–  تقول دائرة المعارف الإسلامية إن كُتَّاب العرب أجمعوا على أن المنصور لم يُشيِّد بغداد في إقليم خالي من السكان، وذكروا بياناً كاملاً بأسماء محلات في الجاهلية أخذت تندمج تدريجياً في العاصمة العباسية فيما بعد، وكانت بغداد أهم هذه الأماكن، وهي قرية نصرانية من أعمال بادوريا (بادوريا كلمة سريانية بيث ديار أو دارا معناها مكان السكن أو الصراع) وهي كورة على الضفة اليسرى لدجلة تشمل الكرخ والأراضي جنوب نهر السراة وهو فرع من قناة نهر عيسى الذي يفصل بادوريا غن قطربل، ويجب أن نبحث عن معظم المحلات القديمة مثل براثا وحي الحربية الذي يضم قريتي الخطابية والشرفانية التي كان جُلَّ سكانها من النصارى الآراميين في الجانب الغربي للمدينة أي الكرخ التي تعني في الآرامية المدينة، ولا شك أن معظم أديرة النصارى التي ازدهرت في بغداد إبان العهد الساساني كان قد شُيَّد في الجاهلية منها قصر الخلفاء المعروف بقصر الخلد المشيَّد مكان دير قديم عند ملتقى نهر الصراة بدجلة والذي كان يسمى الدير العتيق (دائرة المعارف الإسلامية مجلد3 ص266، ومج4 ص3–7)، والحقيقة أن منطقة كرادة مريم  ومعظم المبان الحكومية السيادية والرسمية الحالية من المنطقة الخضراء والقصر الجمهوري والجندي المجهول وقصر المؤتمرات ومباني البرلمان وفندق الرشيد، وغيرها كانت مناطق مسيحية فيها أديرة وكنائس ومقابر مع ملحقات لحدائق وبساتين، وهناك كنيسة اسمها مار زيا تقع داخل القصر الجمهوري تم أخذها من الطائفة السريانية النسطورية القديمة في سبعينيات القرن الماضي وتعويضهم بدلها بقطعة ارض أخرى.
وفضلاً عما ذكرنا من المناطق المسيحية كان هناك مناطق وقرى أخرى مثل قرية درتا: دورتا ومعناها الدائرة أو الحافة وتقع مما يلي قطربل ويقول عبد الحق إن كان فيها دير للنصارى (دير درتا) (مراصد الاطلاع ج2 ص521–522، سونايا: معناها الممقوت أو المشوَّه، يقع في أطرافها الدير العتيق (مار فثيون)، براثا: المسكونة، البرية، أو البعيدة، بنورا–بناورا: بيت النار، قطيعة النصارى التي كان فيها كنيسة مار توما السريانية الأرثوذكسية ودير الأخوات العذراى وكنيسة للسريان النساطرة حيث كان الجاثليق يوحنابن عيسى من هذه المنطقة وأخوه خذاهي الأعرج كاهن كنيسة السريان النساطرة، قطفتا: القطافة، وتعني كثرة البساتين، مجاورة لمقبرة دير كليليشوع، قرب قبر معروف الكرخي، ومعروف الكرخي هو أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي، ولد لعائلة مسيحية سريانية نسطورية وتعلَّم من زملائه الأطفال المسلمين "بسم الله الرحمن الرحيم"، وعندما كان يدرس مع أخيه عيسى في مدرسة الكنيسة، كان يستعمل هذه العبارة كثيراً، فشكاه الكاهن إلى أهله، فغضبت عليه أمه وحبسته في سرداب أربعين يوماً، ثم طردته، فالتجأ إلى جامع موسى الكاظم واعتنق الإسلام وأصبح من علمائهم المشهورين وتوفي سنة 815م ودفن بالقرب من دير الجاثليق الواقع غرب بغداد عند باب الحديد والذي يسمى بالسريانية (دير كليل يشوع) أي أكليل يسوع، وتم بناء جامع معروف الكرخي فوق قبره سنة 1215م، وكذلك كان هناك في بغداد القديمة قرى ومناطق مسيحية مثل الوردانية والعتيقة وورثالا وغيرها، ونرفق خارطة بغداد القديمة الأولى وفيها أهم المبان والمناطق المسيحية.
[/size]