رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة الشاعر الأب يوسف سعيد -1-

بدء بواسطة برطلي دوت نت, مارس 04, 2014, 07:55:58 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة
الشاعر الأب يوسف سعيد -1-


صبري يوسف

يبني الأب يوسف سعيد قصيدته كمن يترجم مشاعره الدَّفينة ضمن توهّجات حلميَّة باذخة في التَّأمُّلات، كأنَّه يبني برجاً شاهقاً من الدُّرَرِ والأحجار الكريمة، يبنيها من خلال تدفُّقات عفويّة منبثقة من خياله، ذاكرته، خبراته، تأمُّلاته، أفكاره، أحلامه، مستنبطاً جملته الشِّعريّة من كلِّ هذه الرُّؤى والمسارب المتعدِّدة بإيقاعٍ انسيابي، مركِّزاً على تأمُّلاتٍ روحيّة أدبيّة فنِّية مدهشة، حيث يشيَّدُ عوالمه من ينابيع رؤاه المتشكِّلة من هذه الرَّوافد، معتمداً على خبراته ومشاهداته وخياله السِّيّال، كأنّها تدفُّقات شلالٍ، تتهاطلُ رذاذاته بانتعاشٍ لذيذ من أعالي الجِّبال، لينثر لنا حروف قصيدة شعريَّة من مذاقِ التفَّاحِ ورحيقِ الحنطة.

يلملم الشَّاعر المبدع مفرداته ويموسقها ضمن سياق طفولي راقص، متَّخذاً أحياناً من كلمةٍ ما، ذات دلالات معيّنة ويسقط عليها أفكاره وجموحات خياله، ويعيد تكرار العبارة بأشكالٍ وصورٍ مختلفة، ويلتقطُ حالة مشاعريّة ويصيغ منها بناء شعرياً يتداخل مع عوالم رحبة، وكأنّه فنّان يرسم مشاعره وهو متوهِّج في بناء جملته الشِّعريّة، حيثُ خبرته في الكتابة تطوّرَتْ فأصبح كلّ ما ينطقُ به شعراً، لأنَّ إبداعه يولدُ من خلالِ حالات وتجلِّيات صافية، فلا يكتبُ إلا من منطلق حاجة الرُّوح والقلب والفكر، لترجمة ما يختلجُ في ذهنه، وكأنّه في رحلة حلميّة، لأنَّ طابع البناء الفنّي قائم على هذه الإنسيابيّة الحلميّة، المصهورة في مرايا الشَّاعر، فتعكسُ مرامي روحه، أفكاره، خياله، طموحه وكلّ ما يتراءى له في لحظات الاشراقات الشِّعريّة.

هناك انصهار وتفاعل بديع بينه وبين نصّه الشِّعري، وهو متوفِّز للكتابة في كلِّ آن، لهذا تراه يكتب أينما كان، حتَّى ولو كان في القطار، في حديقة، في استراحة، في مقهى، في الطَّائرة، في رحلة بحريّة.

إنَّ هذه القابليّة المفتوحة للكتابة والاستعداد الدَّائم لاحتضانِ القصيدة، تدلُّ على مخزون عميق في جوانيّة روح وخيال الشَّاعر، حتَّى أنَّه عدَّة مرّات أشار إلى أنَّه كتب ديواناً شعريَّاً مخطوطاً بعنوان، "مدن باطنيّة".

إنَّنا لو أمعَنَّا النَّظر في عنوان هذا الدِّيوان الَّذي أشار إليه أكثر من مرّة في حواراته التّلفزيونيّة، نجد أنّه توغَّل عميقاً في بواطنه، مجسِّداً شعريَّاً ما يعتري في أعماقه من عوالم ومدن باطنيّة الَّتي حلم بها طويلاً، ونقلها بكلِّ دلالاتها إلى حيِّز الشِّعر!

إنَّ الأب يوسف سعيد يكتب أحلامه ويترجم عوالمه الباطنيَّة بانسيابيّة كبيرة، فهو حالة شعريّة صافية، كأنَّه جاء إلى الحياة خصيصاً كي يكتب لنا شعراً مصفَّى من "ذهب الجنّة"، هذه الجنّة الَّتي يراها مسترخية فوق مآقي الشِّعر، ومتهاطلة من حنينِ السَّماء فوق مروج القصيدة.

يبني الشَّاعر نصّه من خلال صداقته مع الكون، مع الحياة، مع السَّماء، مع التُّراب، مع الكلمة، مع موشور الأحلام المتدفِّقة من خيوط الشَّمس، حتّى أنّه أحياناً يكتب عن ذاته كأنَّه جزء من الطَّبيعة!

إنَّ أجمل ما في أدب وشعر الأب يوسف سعيد، أنّه لا يخضع ولا ينتمي إلى أيَّةِ مدرسة أو تيّار أدبي أو فنِّي معيّن، وممكن أن نطلق عليه "تيار سعيدي" نسبة إلى كنيته من جهة ولأنّه يترجم شعراً سعيداً مفرحاً يصبُّ في الوئام والمحبَّة والسَّلام، فلِمَ لا نطلقُ عليه التِّيار السَّعيدي، المنبعث من رؤاه الفرحيّة النَّقية السَّامية الصَّافية، مثل صفاء سموّ السَّماء الَّتي ترجمها بيراعه الشِّعريِّ الفيَّاض؟!. لهذا لا يمكن أن ندرجه في سياق منهجي معيّن، لدراسته نقديَّاً، فهو أشبه ما يكون بانبعاثاتٍ فرحيّة، شأنه شأن الفنّان الَّذي يتدفَّق ألواناً رائعة، وشأن الملحِّن الَّذي يتدفَّق ألحاناً بديعة ولا يعلم النقَّاد كيف يموسقونها ضمن تيَّار معيّن، فهي سيمفونية ناضحة بتجلِّيات روحيّة، إنسانيّة، عفويّة، شوقيَّة، وكأنَّ المبدع يكتب لذاته التوّاقة إلى متعة العطاء، متعة الإبداع، متعة التأمُّل، متعة التَّجلِّي، فهل ممكن أن نسبر أغوار هكذا شاعر، في الوقت الَّذي يرى هو ذاته أنّه في حالة حلميّة راقية، ولا يشعر بالضَّبط كيف بدأ وكيف انتهى من بناء نصِّه الشِّعري، حتَّى أنه يُخيَّل إليَّ أنَّه ممكن أن يضيف إلى شعره ما لا نهاية من الإضافات، لأنَّ نصوصه مفتوحة ولا يمكن أن نصل إلى نهاياتها حتَّى عندما يضع النّقطة الأخيرة في نهاية نصوصه. وأنا أرى أنَّ نصوصه تشبه حالة النّشوة القصوى، نشوة التَّأمُّل، نشوة الحياة في أرقى بهائها، نشوة الرّوح في أرقى تجلِّياتها، نشوة العناق العشقي العميق، فهذه النَّشوة الإبداعيّة في حالةِ عطشٍ مفتوح إلى آمادٍ لا نهائيّة. حالة شعرية

الأب يوسف سعيد حالة شعريّة خلاقة، فهو كشاعر وإنسان منسجم مع ذاته الشَّاعريّة الانسانيّة، فقد عاش الحالتين، شاعراً وإنساناً، متصالحاً مع ذاته إلى أقصى درجات المصالحة، فهو الشَّاعر الإنسان المبدع بدون أيّة تزويقات أو رتوش، لأنَّه عاش شاعراً، وترجم كلّ ما يعتريه شعراً بديعاً وخلاقاً، نظر إلى الحياة بمنظوره العميق كأنَّها قصيدة معرَّشة بأزاهير الخميلة! لهذا لم يقلقه أي شيء على وجه الدُّنيا، حتَّى الموت نفسه لم يقلقه، حيث قال منذ يفاعته في إحدى مقاطعه الشِّعريّة: "لا أنا ولا أنت نموت!".

استلهم الأب يوسف سعيد أبهى ما في نصوصه من أوجِ حنينه إلى طفولته الرّحبة، طفولة محفوفة بالسَّنابل وأغصان الدَّوالي والبراري المبرعمة بالطّيور والأزاهير والنَّباتات البرّيَّة، لهذا أودُّ أن أتوقَّف مليَّاً في بداية هذه الرّحلة الفسيحة عند قصيدة الطُّفولة، الَّتي كانت مدخلاً بديعاً لأبهى أسفار دواوينه!

إنَّ شعر الأب يوسف سعيد يبهرني في بنائه الفنِّي وفي تدفُّقاته وصوره الخلاقة، وتدهشني لغته المبنيّة على بوحٍ طازج، والعصيّة عن الفهم أحياناً وصعوبة الولوج إلى مغاليقها الخفيّة أحياناً أخرى! ولكن مع كلِّ هذا الغموض في بعض أشعاره، أجد متعةً كبيرة عندما أتوغَّل في فضاءات نصوصه، خاصَّة القصائد الَّتي تنساب بإيقاعٍ ملحمي، حيث يكتب بنَفَسٍ طويل كأنّه في سباقٍ مع الفرح، مع هبوب نسيم الصَّباح، لما يمتلكُ من قدراتٍ راقية جدَّاً في بناء خيوط النَّصّ الَّذي يغوص في متاهاته بعفويّةٍ باهرة، مع أنّه لا يهتم بخيط القصيدة، ومع هذا ترى قصيدته كأنّها معبّقة بنكهة الحنطة، منسابة كأغنية تنشدها جوقة الفلاحين على إيقاع المناجل وهم يحصدون باقات السَّنابل بمتعةٍ غامرة وشهيَّةٍ مفتوحة! أخَذَتْ قصيدة الطُّفولة من ديوان (السَّفر داخل المنافي البعيدة)، وقتاً مطوَّلاً منّي، وكلَّما كنتُ أقرأها كنتُ أجد شيئاً جديداً، وما وجدتُ نفسي إلا وأنا أزدادُ توغُّلاً في عوالم هذا الشَّاعر المتدفِّق شعراً شفيفاً، مستمِدَّاً رحيق أشعاره من عوالم طفولته الرَّحبة تارةً، ومن تجاربه الغنيّة في الحياة تارةً أخرى.

قصيدة الطُّفولة أشبه ما تكون بترتيلة الحياة، حياة الشَّاعر نفسه، إنّه يرغب عبر نصّه الشِّعري العودة إلى نقاء الطُّفولة، إلى الماضي الحميم، رغبةً منه في تجسيد هذا العالم المكتنـز بالصَّفاء ونزوعه إلى الحرّية!

ومن خلال دراستي وتحليلي لهذه القصيدة، تبيّنَ لي أنَّ الشَّاعر أسقط بين ثنايا نصّه دلالات فكريّة وحياتيّة واجتماعيّة ورؤاه الكثيفة في الحياة وموقفه منها دون أيِّ تحفُّظٍ وكأنّه يتلو في حالة انتشاء ترتيلته المفضّلة من أخصب وأنقى محطّات عمره، حيث يبدو واضحاً أن الشَّاعر كتب قصيدته بكلِّ مشاعره وأحاسيسه وأحلامه ودمه وأعصابه، فهذه القصيدة أنشودته الرُّوحانيّة الشَّفَّافة، حيث يقول:

"أتركُ نقاط دمي على جوانب محبرة، بعض هذه النِّقاط انساب كدهنٍ مهراق، .... أشيِّدُ أعشاشاً لطيورٍ مصنوعة من دم الكلمات" ..

وهناك أمثلة كثيرة تشير إلى أنَّ الشَّاعر ملتحم بكلّ مشاعره وأعصابه ودمه مع بناء القصيدة، فيعلنها صراحةً ويقول: "هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر، ..."

يربط الشَّاعر هذا العالم الَّذي نعيشه بالشِّعر، ويعتبر أعصاب العالم ودماء العالم متأتِّية من وداعة وانبعاثِ الشِّعر، وبهذا يضعُ الشِّعر في مقام جوهر الحياة، ومحرّك الإنسان والكائنات كلّ الكائنات، وحالته هذه أشبه ما تكون بحالة النّيرفانا، عندما تتحوَّل الذَّات إلى حالة إنصهاريّة متوحِّدة ومتماهية في الموضوع الَّذي تتوق إليه، كحبِّ الإله أو حبِّ أيّ شيء إلى درجة ذوبان الذَّات فيه، فالأب يوسف سعيد عَشِقَ الشِّعر والحرف والإبداع إلى درجة الذَّوبان فيه، فيراه جزءاً لا يتجزَّأ من كيانه، بل يعتبر كلّ ما في الحياة منبعث من دماء الشِّعر ومن أعصابه. لقد التحمَ في الشِّعر خلال سنين حياته، ولهذا يعتبر الشِّعر بمثابة كائن بديع فيه تصفو القلوب وفيه ومنه ترتقي الحياة إلى أرقى تجلِّيات العطاء!

عندما نتوغَّل في فضاءات ورحابة الشِّعر الَّذي كتبه الشَّاعر، نجد موضوع الحرّية ساطعاً، يتلألأ في أوجِ نصوصه، ويبدو أنَّ الشَّاعرَ يتوقُ توقاً عميقاً إلى الحرّية والتَّسامي والارتقاء والتَّأمُّل، حيث يقول:

"نفسي وهي في انتعاشتها المتسامية تحتسي شوقاً من مياه ينابيعها". "جدائل ليلي قرب ساقية تروي شجرة التَّأمُّل" ..

"نسوةٌ قرب سريري يحدثنني عن هلاكي المؤجّل، بينما أراقبُ كوكباً كبيراً، متمنِّياً الارتقاء إلى دياره، هل في أحواضه السَّماويّة زنابق من نوع ٍآخر؟!" ..

هناك توق شديد لدى الشَّاعر للارتقاء والسُّموّ نحو أحضانِ السَّماء، وقد تلوَّنت شفافية روحه بهذا النّزوع نحو عالم السُّموّ والارتقاء، ربّما لكونه أبّاً روحيَّاً، عمل أكثر من نصف قرن من الزَّمن في عالم الكهنوت، جنباً إلى جنب مع عالم الشِّعر، المتعطِّش إلى سماء القصيدة، سماء الرُّوح، سماء الإبداع، سماء الأب يوسف سعيد. وسماؤه لها نكهة خاصّة، نراها مطرّزة برحيق الكلمة، المتطايرة من تعاريج الحلم!.. مستمدّاً من رحاب رؤاه الحلميّة بناءً مختمراً في ذاكرة الشَّاعر التواّقة إلى مزج الواقع بالحلم والخيال فتأتي القصيدة متفرِّدةً في بنائها وأسلوبها وألقها، حيث يقول:

"انّي أستيقظُ في ظهيرة النَّخيل، أبحث عن مدنٍ متعرِّجة القلب، انّي أحلم برائعِ نسكي وتصوُّفي أرجوزة خالدة" ..

إنَّ ما يميِّز أسلوب الأب يوسف سعيد عن غيره من الشُّعراء هو عفويَّته في الكتابة ودمج نزوعه الصُّوفي مع رؤاه السُّورياليّة النَّابعة من تراكمات الحالات الحلميّة، ورؤاه المستمدّة من تجربته الفسيحة، حيث يقول:

"يخرجُ حلمُ المجدليّة من أحلامي" ..

".. ترشقني سهام الأحلام" ..

"وحدُها الفراشات تستريحُ على أجنحةِ البرق" ..

هذه الصُّورة الشِّعريّة الأخيرة تحمل بُعداً عفويّاً مجنّحاً في عالم الإبداع!

ولو أمعنّا النَّظر في هذه الصُّور، نرى في ثنايا تجلِّياتها لوحات فنّية، يفرش سورياليته ورمزياته وصوره المدهشة، فتأتي القصيدة معتّقة بنكهة الحياة وكأنّها خلاصة تجربة فنّان عشق الحرّية، واللَّون، والحرف، والسَّماء المستوطنة فوق مهجة السموِّ والارتقاء! وللشاعر موقف جليل تجاه الشُّعراء ويعتبرهم حكماء هذا العالم، قائلاً:

".. ايُّها الشُّعراء أنتم حكماء العالم" .. "مَنْ يقتلُ شعراءنا، يحذفُ مليون حكمة من دفاتر الشَّرائع″ ..

"أعلنها صراحةً: هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر" ..

ونستشفّ من هذه الأمثلة أنَّ الشَّاعر لديه موقف تجاه نفسه كشاعر واتجاه الحياة كوجود، وموقفه تجاه نفسه هو أن يكون حكيماً يحمل بين جناحيه رحيق الشَّريعة والحكمة ليقدِّمها للحياة والوجود.

قصيدة الطفولة

حملت قصيدة الطُّفولة بين ثناياها هموم الغربة وهموم الحياة، وهذه الهموم هي اِمتدادات لعذابات الطُّفولة وتشرُّدها، فقد عاشَ الشَّاعر طفولةً قاسية، ذاق خلالها مرارات التَّشرُّدِ والفقر لكنّه مع كلّ هذا حافظ على نقاوته منذ الطُّفولة حيث يقول:

"لا شيء في حياة هذه الطُّفولة، سوى ممارسة التَّشرُّد، ماشياً بلا زوجين من الأحذية، ومن فرط الانشقاقات في قميصي، الشَّمس تغزو جسدي .." ..

إلا أنَّ الشَّاعر (الطُّفل) ما كان يهتمُّ بمسألة الفقر وما كانت الانشقاقات في قميصه تشكِّلُ له مشكلةً حتّى ولو غزَت الشَّمس جسده .. لقد كان يوسف سعيد (الطُّفل) كما يرسمه الشَّاعر، يحلم برائحة الكباب والطّرشي المطجن ولكنَّه كان أكثر سعادةً منهم (أي من الأغنياء)، لأنّه كان يستمدُّ سعادته من حرّيته وتجواله في غابات المدينة ويصوِّر لنا الشَّاعر هذه المواقف بوضوح في قصيدته حيث يقول:

"الموصل العذراء تعرف جيّداً كم كنتُ أعاني الفقر. مراراً مارستُ طقوسه في سبوتي اليتيمة، أمخرُ في عباب مياهِ الكنائس، ومع هذا كنت أحلم برائحة الكباب والطّرشي المطجن، لكنّني في تشرُّدي كنتُ أكثر سعادةً منهم، كنـتُ حرّاً في الظَّهيرة المحرقة، أسوح في غابات المدينة" ..

إنَّ يوسف سعيد (الطّفل)، يحمل خصائص يوسف سعيد الشَّاعر، ويبدو من خلال تصوير الشَّاعر لطفولته، أنّه كان ينـزع نزوعاً عميقاً نحو الحرّية، وكان يحبُّ السُّموّ فوق المادّيات، مفضِّلاً مشاهدة الطُّيور في الحديقة عن لذائذ الطَّعام وكلّ هذا يشير إلى أنّ نفسيّة يوسف سعيد (الطّفل) كانت راقية وسامية بالرَّغم من الفقر الذّي كان يعانيه، وهذه إحدى الدَّلالات الّتي تشير إلى أنَّ الشَّاعر ما كان يهتم بمادّيات الحياة منذ نعومة أظفاره، مفضِّلاً التَّمتُّع بمشاهدة الطُّيور عن لذائذ الطَّعام، حيث يقول: ".. ربّما تلك القيلولة عادة مكتسبة في الظَّهيرة، تناول الأغنياء غذاءهم الدَّسم من مقاصفهم. أغزو موائدهم ببراثن جوعي، أحياناً أنظر خلسةً، آكلُّ سريعاً من مقاصفهم، أتناول فتاتهم فقط، ثمَّ أهرع إلى برّيَّة المدينة، راكضاً وملاحقاً أسراب القبّرات وأعودُ أدراجي، وقد نسيتُ لذائذ تلك المناسف، مراقباً الطُّيور في الحديقة الوحيدة .." ..

إنَّ تفضيل يوسف سعيد (الطّفل)، مراقبة الطُّيور عن لذائذ الطَّعام، ينمّ عن وجود خصوصيّة مزاجيّة تقترب إلى عالم فضاءات الشِّعر والحرّية منذ أن كان طفلاً. ولو اهتمَّ منذ الطُّفولة بالمادّيات، لأصبحت هذه الاهتمامات في مقتبل الأيام على حساب حساسيته الشِّعريّة، ولكنّه لم ينجرف إلى عالم المادّيات رغم قساوة طفولته، لهذا حافظ على نقاوة ذاته الشِّعريّة، ويبدو لي أنّ يوسف سعيد (الطّفل)، كان في داخله شاعراً، وذلك من خلال سلوكه وتوقه إلى عالم الطُّيور والبراري الفسيحة، تاركاً خلفه لذائذ الطَّعام ومادّيات الحياة، مركِّزاً ومستمتعاً بمباهج الطَّبيعة. وعندما شبَّ الشَّاعر عن الطَّوق، وبدأ يمارس رسالته الكهنوتيّة، نراه يمارس (نزوعه الطُّفولي النَّقيّ)، حيث لم يجده أحد طوال عمله في رسالته الكهنوتيّة الّتي امتدّت أكثر من نصف قرن، أن قَبِلَ عرضاً ماليَّاً خلال قيامه بأعمال أكاليل الزَّفاف، والعماد ومراسيم التَّأبين والدَّفن. واتّخذَ من القلم رايةً له، غير مبالٍ بمادّيات هذا العالم على الإطلاق!

فهل نجح في حمل القلم؟ نعم نجحَ إلى حدٍّ بعيد! حيث لم ينقطع عن الكتابة منذ أن مارسها حتَّى نهايات العمر، لأنَّه وجدَ في الكتابة متعةً لا تضاهيها متعة. أصدر عام 1958 مسرحيّة بعنوان المجزرة الأولى.

لم أقرأ هذه المسرحيّة، وراودني الكثير من التَّساؤلات، كيف بدأ الأب يوسف سعيد كتاباته الأولى في المسرح، هل كانت تحمل إيقاعاً شعريَّاً، لماذا ودّع هذا الأدب الرَّفيع، مغترفاً ومجسِّداً من فضاءات الشِّعر فضاءً باهراً، كم أتوق لقراءة نصّه الأوَّل، أرضه البكر، كيف زرع فيها تأمُّلاته الأدبيّة الأولى في الحياة، كيف كتب المجزرة الأولى الَّتي حلَّت به وبنا وفي دنيانا، هل لخَّص لنا فكرة جنوح الإنسان نحو مسار الشّرِّ وابتعاده عن مسار الخير والسَّلام والمحبَّة، هل ركَّز عبر نصِّه على ضرورة اتباع طريق الصَّلاح والفضيلة والخير وتقديم أبهى ما لدى إنسانيَّة الإنسان من عطاءٍ خلاق؟! أسئلة كثيرة راودتني وما تزال!

ثم حلَّق عالياً في عوالم الشِّعر، قرأ في باكورة عمره جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، والشِّعر القديم والجديد، وقرأ الشِّعر المعاصر، وتوقّف عند رامبو ونيرودا وجبران والسيَّاب وأدونيس والماغوط وأنسي الحاج وشعراء آخرين من الغرب والشَّرق.

تبلورت ناصيته اللُّغوية في كركوك، حيث التقى هناك جماعة كركوك وشكَّلوا جماعة أدبيَّة رائدة، أثَّرتْ على الحداثة الشِّعرية، ليس في العراق فحسب، بل في العالم العربي أيضاً، وأعمق ما كان يربط جماعة كركوك مع بعضهم بعضاً هو الشِّعر، هو الإبداع الخلاق، بعيداً عن منغِّصات ما نراه الآن من شلليات.

وأجمل ما ميّز جماعة كركوك هو هذا الصَّفاء الرَّاقي في تعامهلم وعطائهم واستمراريَّتهم في الإبداع الرَّاقي لكلِّ واحد منهم، وهكذا بنى الأب يوسف سعيد عالماً فسيحاً لعالمه الشِّعري، متفرِّداً في بنائه وأسلوبه الأدبي منذ أن خطى خطواته الأولى حتى آخر نصٍّ أو قصيدة كتبها!

أصدر الأب يوسف سعيد ديوانه الأوّل "الموت واللُّغة" عام 1968، حيث يقول في مقدِّمة الدِّيوان:

"إنّ لمجموعة الموت واللُّغة قصّة، كانت تربطنا بالمرحوم رئيف الخوري، الأديب الفذّ، صداقة عميقة. وكان رئيف إنساناً، حيَّاً في إنسانيَّته، عظيماً في تعبيره، ذا رسوخ في الأدب .. فجأةً غيَّبه الموت، وكأنَّني بموته وجدتُ أشياءً جديدة في عالم الموت. وعشتُ في دوَّامة أربعين يوماً وأربعين ليلةً، أكتبُ ما يعصره المجهول عليّ. وولدَت هذه المجموعة، تجربة تحاول أن تتجاوز الموت باللُّغة!

تراني وقفتُ أمام الجدار أم اخترقته؟! " ...

هكذا يمرُّ الشَّاعر بإحدى رحلاته الشِّعريّة، معتكفاً أربعين يوماً وأربعين ليلةً، يكتب عن الموت، موت صديقه، موت الإنسان، محاولاً على حدّ قوله تجاوز الموت باللُّغة! .. فهل يستطيع الإنسان فعلاً أن يتجاوز الموت عبر الُّلغة؟! .. ربّما تمنح اللُّغة الكاتب، فضاءات جديدة، تنسيه ألم الفراق، تمنحه السَّلوى وتضمِّد جراحه، إلا أنَّ الإنسان في النّهاية لا يستطيع تجاوز الموت لا باللُّغة ولا بأيَّةِ وسيلةٍ أخرى، لأنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة الّتي لا بدّ للبشر من عبورها، ولكن محاولة الأب يوسف سعيد في تجاوز الموت عبر اللُّغة، هو نوع من رفض العقل الباطني لموت الأصدقاء والأقرباء، موت إنسان عزيز! ..لأنَّ عقل الإنسان لا يتقبَّل الموت بشكلٍ عقلي، ولا يتقبّل الإنسان بسهولة فكرة الموت، لهذا يهرب منها أحياناً، ويواجهها أحياناً أخرى كما في حالة الأب يوسف سعيد، حيث نجده عبر ديوانه يواجه الموت باللُّغة، إلا أنَّ هذه المواجهة ليسَت أكثر من تفريغ حالات حزنيّة وانفعاليّة، وفاءً منه لصديقه، وهو يعلم في قرارة نفسه أنَّ الموت لا يمكن مواجهته ولا يمكن تجاوزه، ولكن الإنسان لا يبقى مكتوف الأيدي أمام صدمة موت الأعزَّاء، فهناك مَنْ يبكي بكاءً مرّاً، وهناك من يصمت صمت الموتى، ومَن يرتِّل ترتيلة الفراق والمبدع له المساحة الأكبر في تلقّيه الصَّدمة، نظراً لحساسيّته المرهفة تجاه الموت أو أي حدثٍ في الحياة! .. لأنَّ الإبداع هو نوع من مجابهة الموت بالكلمة، لأنَّ الكلمة باقية بعد رحيل البشر، وهي تصبُّ في عالم البقاء بعد الرَّحيل، وهي المعادل الأقوى للموت، فنراه يقول في قصيدة قبض الرِّيح:

"الرَّوضةُ تغنّي!

المنقار الورديُّ انفصل عن حساسية البلبل

لأنَّ قفص الفلاسفة سجنٌ غائر آهٍ! .. أقدام الرَّابية تخور." ..

موت صديق

يشبّه الشَّاعر الإنسان كجزء من الطَّبيعة، فقد اعتبر أنَّ موت صديقه أشبه ما يكون بأقدام رابية تخور! .. لقد كان الشَّاعر مصيباً عندما اعتبر الإنسان جزءاً من الطَّبيعة، نعم نحن جزء من الطَّبيعة، بل أنَّ الطَّبيعة أكثر بقاءً من الإنسان نفسه، لأنَّ الطَّبيعة باقية بعد رحيل الإنسان، ولكنَّها تخور هي الأخرى نتيجة الكثير من العوامل الطَّبيعيّة، وهي أيضاً تتآكل ولكنَّها تستنبت بنفس الوقت بهيئة جديدة، ومن هذا المنظور أرى أنَّ الإنسان يشبه الطَّبيعة كما شبَّهه الأب يوسف سعيد، وكان الشَّاعر مصيباً عندما شبّه الموت بأقدام رابية تخور، فكما أنَّ الرَّابية تشمخ فترةً من الزَّمن، فإنَّها تخورُ يوماً ما، نتيجة عوامل طبيعيّة، هكذا نرى الإنسان شامخاً في الحياة، ثمَّ يخور رويداً رويداً، شأنه شأن الرَّوابي والجِّبال!

ومن خلال قراءتنا لما كتبه، نرى أنَّ لديه رؤية فلسفيّة في الكثير من قضايا الحياة، منها قضيّة الموت.

إن الأب يوسف سعيد تطرَّق إلى أعمق قضايا الحياة وهو في باكورة العمر، تطرَّق إلى الموت عبر اللُّغة، وسبر أعماق الحياة من خلال اللُّغة واستطاع أن يقول كلمته عن الحياة والموت عبر اللُّغة، إنَّ الكلمة هي الَّتي تبقى ساطعة على جبهة الحياة، وتبقى شاهدة على شهقتنا ورحلةِ عبورنا في الحياة!

ثم أصدر ديوانه الثّاني: ويأتي صاحب الزّمان، ويتألّف من قصيدة نثريَّة واحدة، تدور أحداثها وعوالمها حول الكتب والأماكن المقدّسة، فيحلّق الشّاعر في فضاءات روحيّة فسيحة، مستعرضاً بأسلوب سردي أفكاره وتصوّراته، متَّخذاً من انجيل المحبّة منطلقاً له لبناء نصّ مفتوح على القدس وبابل وكربلاء والنَّجف وسائر الأماكن المقدّسة لدى مختلف الأديان والحضارات القديمة. وتحمل رؤيته نوعاً من التَّآخي بين الأديان وبين البشر أيضاً، وهذا ما تميَّز به الأب يوسف سعيد وجماعة كركوك، حيث كان يجمعهم روح التَّعاون والوئام والمحبّة على اختلاف قومياتهم وأديانهم وإثنياتهم، وبرأيي نجحوا في هذا التَّوجُّه البديع أكثر من سياسات وسياسيي العالم العربي والشَّرقي، ولو قادت جماعة كركوك ومن يشبههم في هذا الإخاء والتَّفاعل والتَّعاون البنَّاء فيما بين الأديان والقوميات، لقادوا الأوطان إلى بوّابات الأمان والسَّلام، أفضل بكثير ممَّا نراه الآن، وأفضل ممَّا قدّموه السّاسة خلال أكثر من نصف قرن، وفي مطلع القصيدة يقولُ:

"في كفن الأسطورة الورديّة،

جفّفتُ كلمات إنجيل المحبّة،

وقلتُ لقافلة القدّيسين،

هل اللَّحظة في بؤبؤي عيني النّجف العذراء قلادة،

سبحة من شيخ؟" ..

نرى كيف يركِّزُ الشَّاعر على قدوم صاحب الزَّمان، ومَنْ هو صاحب الزَّمان الّذي ينوّه الشَّاعر إلى قدومه على مدار القصيدة كلّها؟ هل هو المنقذ؟ ومَنْ هو هذا المنقذ؟ حيث يقول:

"وقلتُ للفتى الغرّير: يا صاحب الزَّمان، توّجْتَ هامتكَ بإكليلِ الشَّهادة، وجذبْتَ كتلة بيضاء من نور، تسربل نبض النُّبوءة .." ..

مَنْ هو هذا الفتى الغرّير الّذي يشير إليه الشَّاعر؟ وينوّه الشَّاعر إلى أنَّ صاحب الزَّمان:

"سيأتي في ساعة بلا ظنون، سيأتي في ليلة ليس للقمر ظلال، وجفون النَّجوم في إغفاءة مقتطعة من سجف الدُّهور .." ..

سيأتي في ساعة بلا ظنون، أي في وقتٍ غير معلوم؟ ما هذا الضّباب الّذي يغلّف صاحب الزَّمان الّذي يتحدّث عنه الشّاعر، حيث نراه يسترسل في غموضٍ مسهب بطريقةِ قدومه:

"سيأتي صاحب الزّمان في اللَّحظة البكر، في هبوب النّسيم على رعشة الجفون. سيأتي بعد أن يستنزف من أصابعه الخمسة رعشة الأشواق. سيقول لهذه الجَّحافل المنتظرة، عمّموا هاماتكم بألوان من قوس قزح، وادخلوا في سجف السّنين ثانيةً، لينام الوقت محنَّطاً في أوداجكم الورديّة ويبقى البحر ثانيةً، وقد كُبِّلَت أمواجه الدَّهريّة لأيّام وسنين، وعندما يتحوَّل الإنسان في كلِّ مكان إلى رُقَيمٍ مطلسم، يأتي صاحب الزَّمان على حافّة الحفر البابليّة. عادةً في الصَّباح الوليد يقرأ قصائده وفي المساء يوقِّع على قيثارته ذات الأوتار العشرة مزاميره الرَّقيقة. ويأتي ثانيةً صاحب الزَّمان وتبقى الحياة مجفّفة داخل محارة الأسرار." ..