اليساري نجاد وداعاً – 1- صديق شعبه

بدء بواسطة صائب خليل, يونيو 18, 2013, 03:08:21 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

 


فاز قبل أيام "الإصلاحي" الدكتور حسن روحاني برئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وخرج منها "المتشدد" أحمدي نجاد بعد ولايتين، وينظر الجميع باهتمام إلى ما سوف يستجد من أمور وأثر ذلك على إيران والمنطقة والعالم. خرجت إلى الشوارع فتيات سعيدات أملاً بحرية أكبر في الملابس، وذاك من حقهن بلا شك، وهتف متظاهرون "قلنا: "لا للعسكري"، "لا لرئيس البلدية"، نعم للشجاع روحاني"،
رحب قادة دول مجلس التعاون الخليجي بانتخاب حسن روحاني، فتطلع خليفة بن زايد آل نهيان إلى العمل مع إيران "لما فيه خير المنطقة" ووجه حكام البحرين والكويت وقطر برقيات تهنئة إلى روحاني، ويختتم الخبر الذي انقل منه هذه العبارات بالجملة: "يرى المراقبون أن فوز روحاني بالرئاسة يسمح بعودة المعتدلين والإصلاحيين إلى الساحة السياسية بعد أن خضعوا منذ سنين عدة لضغوط غير مسبوقة".(1)
   
أنا لست متفائلاً. فعنما يريد البعض التخلص من حاكم بسبب الإرهاق من الضغوط، وليس بسبب موقف مبدئي محدد مثل الدكتاتورية أو الفساد أو النظام الإقتصادي السيء، وهي أمور لا يجروء الكثير من الناس إدعاءها عن نجاد، فأن هناك كارثة في الأفق. مؤيدوا روحاني لم يجدوا ما يهتفون به بالضد من نجاد سوى أنه "رئيس البلدية"، وكأنها تهمة، وتقف على النقيض من "الشجاعة" الخاصة بروحاني. والشجاعة، لم تكن يوما أكبر لدى من يتحدث عن استعداداته لتخفيف الضغوط الأجنبية عن بلاده، مما هي عند من يتحدث عن الإستعداد لتحملها من أجل حقوقها (النووية)، والتي لا يجرؤ "الشجاع" روحاني أن ينكرها علناً.

السبب الآخر لعدم تفاؤلي هو أن كلمة "إصلاح" تعني غالباً "تخريب" في السياسة والإقتصاد. فـ "الإصلاح الإقتصادي" مثلاً يعني تدمير الإقتصاد بفرض قيم حرية السوق عليه وخصخصة ثروات البلاد ومصانعها، اي بيعها (بسعر زهيد عادة) إلى أثرياء البلاد ليزدادوا بها ثروة وسطوة، ويزداد فقراء البلاد فقراً وتهميشاً.. وهذا يسمى "إصلاح" إقتصادي! إنه بالفعل "إصلاح"، ولكن من وجهة نظر أصحاب المال في البلاد، ومن يدعمهم دولياً. وهذا الجزء من قلقي يؤكده موقف لصوص البازار مثل هاشمي رفسنجاني يدعمون هذا الدكتور "الإصلاحي"! وقد كان لتوحيد جهود "الإصلاحيين" والبازار وتركيزهم على مرشحهم روحاني، السبب الأول في فوزه. إنهم يسمون أيضاً "المعتدلين"، والعرب يجب أن يكونوا أول الشعوب التي تعرف المعنى الحقيقي لهذه الكلمة، من أمثلة مثل محمود عباس "المعتدل" لأنه حول منظمة التحرير الفلسطينية إلى فرقة إغتيالات لباقي الفلسطينيين (غير "المعتدلين") لحساب الجيش الإسرائيلي. لا أتوقع أن يذهب روحاني إلى مثل ذلك "الإعتدال"، لكن درجة الإعتدال في السياسة اليوم تعني فقط مدى قرب الجهة من أميركا وإسرائيل.

على كل حال، سنعرف الرئيس الجديد في السنوات القادمة، لكن هل عرفنا حقاً من كان الرئيس السابق، نجاد؟

رغم أن السليم هو أن نعرف الرجل وقت قدومه وليس رواحه، ليتسنى لنا اتخاذ موقف منه، لكن ليس هذا هو الشيء الوحيد المتأخر أو المقلوب في حياتنا، فلم نعد نستطيع متابعة كل شيء في وقته. ولكن على اية حال فلهذا التأخير فائدة في تخفيف الشبهات حول دوافع الكتابة، فمن يكتب شيئاً إيجابياً عن إيران باللغة العربية خاصة، فعلية ان يتوقع تكالب العالم عليه، حتى لو كان ما يكتب محقق بالمصادر. فالغالبية الساحقة تحب أن يكذب عليها بما يناسبها ويؤكد سلامة موقفها، والموقف العربي (والعالمي) من نجاد، قد تم تشويهه بشكل مخيف للأسف وهو ما سنتكلم عنه ببعض التفصيل في الحلقة الثانية. فإذا أحسست بالغضب عزيزي القارئ في نهاية المقالة، فربما تكون الحقائق فيها قد كسرت إيماناً كنت سعيد به.

من هو الدكتور نجاد؟

يطلق في إعلامنا المشبوه على نجاد صفة "شخصية مثيرة للجدل محليًا ودوليًا." والحقيقة أن الشخصيات "غير المثيرة للجدل" دولياً هي شخصيات مشبوهة تماماً! حسني مبارك لم يكن مثيراً للجدل، السنيورة أيضاً، وكذلك المراهق الحريري وحكام الخليج عموماً. من يثير "الجدل" ليس موضع ثقة وقياس، وقد تكون هذه الصفة علامة إيجابية على من يتصف بها، فعلينا أن نبحث الحقائق بحذر، خاصة وأن صاحبنا يبدو غير محبوب من الإعلام "الدولي".

تعرض الرجل بسبب ذلك إلى حملة إعلامية أمريكية رهيبة لتشويه سمعته كما سنفصل ذلك في الجزء الثاني من المقالة. وقد يفاجأ البعض من القراء عندما نقول "الدكتور أحمدي نجاد"، فالصحافة العالمية والعربية قلما تذكر أنه "دكتور"، وهو لم يكن يهتم بذلك. بينما نجد أن "الإصلاحي" حسن روحاني يقدم فوراً ودائماً على أنه "الدكتور" حسن روحاني، كما هو الحال مع العديد من الدكاترة في المعارضة في الإنتخابات السابقة الذين لم يشر إليهم أبداً إلا وسبق اللقب إسمهم، ولهذا الأمر في إيران بشكل خاص، اهمية مؤثرة. لكن "أحمدي نجاد" يقدم عادة عارياً من لقبه، رغم أنه دكتور في هندسة التخطيط اللوجستي، وبقي يحاضر في الجامعة حتى بعد حصوله على الرئاسة. ونجاد من مواليد 56، من أسرة فقيرة يعيلها أب كان يعمل في الحدادة. وكان نجاد من الذين دعموا الثورة الخمينية في إيران عندما كان طالباً، ثم شغل مناصب متعددة. ويشرح هذا الفلم بعض تاريخ الرجل، أتركه لمن يريد معرفة المزيد. (2)

تميز الرئيس نجاد بالتواضع والبساطة الشديدة في حياته إلى درجة لم يعرفها مسؤول في الشرق الأوسط، متفوقاً حتى على عبد الكريم قاسم الذي اشتهر ببساطته أيضاً. وقد وضع الرئيس نجاد على الطاولة جرداً بممتلكاته عند استلامه الرئاسة وكانت عبارة عن بيت صغير في أحد أحياء طهران الفقيرة (3) وسيارة بيجو موديل 1977(4) والتي باعها فيما بعد وتبرع بمبلغها لأعمال خيرية.
نتوقف هنا لحظة لنلاحظ أن هذا يعني أن الرجل لم يكن أميناً أو يدعي الأمانة في رئاسته فقط. فقد تسنم مناصب عديدة في الدولة قبل ألوصول إلى الرئاسة، وكان آخرها منصب رئيس بلدية طهران، والذي لو أستلمه لص من التجار "الإصلاحيين"، لجعل منه تجارته الكبرى، لكن هذا الرجل، لا يمتلك سوى المنزل الذي ورثه عن أبيه، وسيارة قديمة!

بقي نجاد بعد استلامه الرئاسة يعيش في منزله الصغير، كما قام بالتبرع بالسجاد الثمين لمكتب الرئيس إلى أحد الجوامع. والغريب أن نجاد المتواضع عاش في مجتمع طهران ذو الثقافة التي ورثها عن الشاه واستمرت في عهد الحكم الديني، والتي تتميز بكونها ذات طبقية شديدة وتاريخ إجتماعي بتزازي، بل استنزافي مفرط للفقراء!
إشترط نجاد على كل وزير يتعين لديه أن يقدم كشفاً بممتلكاته، وأن لا يخرج من الوزارة أغنى مما دخلها!

في حملته عام 2005، حصل نجاد على 62% من الأصوات الانتخابية التي وعد فيها بأن أموال النفط ستكون للفقراء، ودعم بقوة مشاريع إيران النووية ورفض التنازل عن حقوق إيران وإيقاف التخصيب وخاض بسبب ذلك صراعاً مريراً مع الغرب وإسرائيل التي لم تتوقف عند الضغوط الإقتصادية والسياسية والإرهاب بالتهديد الصريح بالحرب فقط، بل ارسلت المخربين من عملائها من منظمة مجاهدي خلق لقتل علماء الذرة الإيرانيين في الجامعات وغيرها، وقد نجحت في ذلك أكثر من مرة.

وكان نجاد عند وعده رغم كل المعوقات التي وضعها تجار إيران وملاليها أمامه، فقد قدم الدكتور نجاد خلال فترتي رئاسته منجزات عظيمة للطبقات الأفقر في البلاد، وهم الذين لم يروا في حياتهم السابقة من يهتم بهم، خاصة في مشروعه الخاص بمعالجة دعم المواد الأساسية للوقود والكهرباء والنقل والخبز، كما سنأتي على ذلك ببعض التفصيل ادناه. ويفسر الصحفي البريطاني "فسك" فوز نجاد بالولاية الثانية وبفارق كبير عن منافسيه حتى في المناطق الأثنية المحسوبة لهم، بالقول: أن نجاد قام بزيارة جميع القرى الإيرانية خلال رئاسته بلا استثناء. وأنه قدم سلسلة قوانين لدعم الفقراء والعمال شملت مخصصات تقاعد حتى للنساء اللواتي كن يحكن السجاد في بيوتهم في القرى النائية!

ربما صدم البعض، خاصة اليساريون، من تسميتي لنجاد بـ "اليساري" في عنوان مقالتي، ولا عجب في ذلك في بلدان "اليسار التائب" الذي يرى نفسه رديفاً لـ "الليبرالية"!
طرح أحد الأصدقاء مرة سؤالاً على مجموعة لنا فقال: "من هو اليساري؟ وكيف نحدده؟" فكان جوابي: إن كان يتحدث عن تحديد الحد الأدنى للأجور ورفعه، وعن التقاعد والتعليم المجاني والرعاية الصحية المجانية، فهو يساري، وإن كان يكثر الحديث عن الإستثمار والخصخصة و "الإصلاح" الإقتصادي، فهو يميني، مهما كان موقفه من الأمور الأخرى. وعلى هذا فإنني ، رغم أن نجاد نفسه قد لا يدرك ذلك وربما لا يريد هذا اللقب، ورغم أني لا أؤمن بالكثير مما يؤمن به، أنصب أحمدي نجاد بكل اعتزاز كقائد يساري بامتياز! وفيما يلي مواقفه الإقتصادية التي تبرر اعتزازي:

****

مواقف نجاد الإقصادية: صراع من أجل الطبقات الفقيرة

ورث نجاد من سلفته "الإصلاحيين" رفسنجاني وخاتمي، نظاماً إقصادياً شديد الفساد، فرض عليه صراعاً مريراً. فنسمعه يقول: "لقد بذلنا جهدنا من اجل نظام للضريبة يعمل بالحاسبات من اجل تسجيل الدخل لكل مواطن ونحسب الضرائب على أساس ذلك, لكن كلما حاولنا أن نطبق النظام، ترتفع الأيادي معترضة عليه." وتساءل عن السر في أختلاف في الضريبة يصل إلى مئة ضعف، على مصنعين متناظرين في كل شيء.
على إثر تلك التصريحات انتفض رجال الدين وتجارهم فقال أية الله محمد رضا مهدوي كاني موجهاً خطابه إلى رجال الدين أن "لا يخافون من رجل واحد" وحذر أحمدي نجاد أن سكوتهم لا يعني رضاهم عنه، وأن عليه أن لا ينتظر المديح من جانبهم.
كذلك صارع نجاد المصارف وبضمنها الحكومية واتهمها بأنها تقدم قروضاً مشكوك بصحتها إلى بعض الشخصيات المحددة، بينما يعاني المواطنون الإيرانيون العاديون، وأشار إلى أن الحكومة سعت إلى وضع القواعد لمنع التلاعبات المصرفية والفساد، لكن كان هناك اعتراضات وتم إلغاء القواعد.(5)

ومن أهم معارك نجاد الإقتصادية ما دار حول الدعم للمواد الأساسية من وقود وماء وغذاء وكهرباء وغيرها، والذي قدمته الثورة الإيرانية في سنينها الأولى للشعب. وكان الغاء الدعم وإعادة تشكيل الإقتصاد الإيراني وفق مبادئ حرية السوق، هدفاً مركزياً للطبقات الثرية الإيرانية داخل وخارج المؤسسة الدينية السياسية فيها. وكان نجاد في البداية معارضاً لإلغاء الدعم، ثم تحول إلى تفضيل إلغائه بشروط. وبين أن نظام الدعم الحالي الذي يشمل الجميع ليس عادلاً بالنسبة للفقراء الذين يستفيدون منه اقل من الأثرياء، فأراد الغاء الدعم العام عن المواد في السنة المالية 2010 – 2011  بشرط تحويل نصف مردوداته البالغة 40 مليار دولار، إلى المواطنين الذين يحصلون على اقل من متوسط الدخل القومي. وقاومت المعارضة المشروع بجبهتين تتضامن الأولى مع القائد الأعلى آية الله خامنئي والثانية تراصفت مع "الحركة الخضراء" التي أسسها مرشحي الرئاسة السابقين مير حسين موسوي و مهدي كروبي والرئيس السابق محمد خاتمي، واشتهرت في الإضطرابات إثر الإنتخابات الثانية التي فاز فيها نجاد.
قاد المعارضة البرلمانية لميزانية أحمدي نجاد الناطق باسم "المجلس" علي لاريجاني، والذي يتمتع بعلاقات عائلية وسياسية بقيادات المؤسسة الدينية الإيرانية. وكان لاريجاني قد دعم احمدي نجاد والخامنئي في أزمة الإنتخابات السابقة، لكنه وقف بالضد من مواقف نجاد الإقتصادية "البالغة الكرم" في صرفها على الجوانب الإجتماعية، حسب رأيه.
قال لاريجاني في التلفزيون الحكومي في وسط الصراع على الميزانية: "العدالة لا تتطلب توزيع الأموال. الطرق الإشتراكية لا يمكن ابداً أن كمناظرة للعدالة. توزيع الأموال يضر بالعدالة.."
وانتصر لاريجاني وأتباعه واضطر نجاد إلى التراجع في صراع الميزانية، وهو ما استغله لاريجاني وتوكلي لتقليل أو إلغاء الأموال التي كان يفترض أن يعاد توزيعها إلى الفقراء.
وفي النهاية وجه لاريجاني دعمه التام إلى الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، والذي اشتهر بأنه أثرى رجل في إيران، ويقف على رأس مؤسستين حكوميتين هامتين. وكان رفسنجاني قد تكفل بمصاريف حملة انتخاب موسوي واستمر بدعم المعارضة ضد نجاد.
ولم يتقصر صراع نجاد على السياسيين، فقد وجه إليه التكنوقراط الإقتصادي الرأسمالي هجوماً قاسياً ايضاً. الدكتور حسين تبريزي من جامعة طهران، والذي يساند إلغاء الدعم عن المواد الأولية، ولكن دون شرط إعادة توزيع (جزء من) الأموال على الفقراء الذي يتضمنه مشروع نجاد، قال غاضباً: "أية حكومة تريد حذف الدعم، يجب ان تؤمن بالإقتصاد التنافسي ومبادئ حرية السوق. الحكومة الحالية (حكومة نجاد) تتجرأ على القول بأنها لا تؤمن بتلك المبادئ! يجب أن نتحرك في جميع المجالات نحو لبرلة الإقتصاد، لكن وزير التجارة يتحدث عن السيطرة على الأسعار!" (6)

آمن نجاد أنه لا معنى لمقاومة التدخل الغربي عندما يسمح للمستثمرين الأجانب باختراق الإقتصاد الإيراني. لكن الأمور لم تجر حسب هواه، فكان أحد وزراءه يفخر في عام 2008 بزيادة الإستثمار الأجنبي في إيران بنسبة 138% خلال عام. وكان هذا الإختراق الأجنبي نتيجة إقرار قانون قبل استلام نجاد للسلطة بعام، (2004) يقضي بقبول شروط  صندوق النقد الدولي، بالإمتناع عن فرض أية محددات لإنتقال رأس المال من وإلى إيران. ورغم أن حكومة نجاد نفذت الكثير من مشاريع الخصخصة، فأن هندسة ذلك الأمر يعود إلى خندق الإصلاحيين، وبمخالفة المادة 44 من دستور جمهورية إيران الإسلامية، والتي تؤكد أن القطاعات الأساسية للإقتصاد يجب أن تبقى في يد القطاع العام. فقد اصدر خاتمي، بمخالفة للدستور، دعوة إلى "تغيير دور الحكومة من امتلاك وإدارة المؤسسات إلى تحديد السياسة العامة والقيادة والإشراف". وقد هلل صندوق النقد الدولي لتلك الخطوة ووصف ذلك بـ "إدارة التحول نحو إقتصاد السوق". وكان صندوق النقد الدولي قد تواجد في إيران منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واستمر حتى بعد الثورة الإسلامية، ومارس اساليبه المعروفة من الديون والدعم الفني، في الضغط على الحكومة من أجل الإتجاه نحو اقتصاد السوق.  وكان خامنئي ومن يحيط به من الداعمين لهذا الإتجاه بشكل عام. (7)

يكتب البروفسور نادر حبييبي:
قبل ولايته، آمن نجاد أن توزيع الثروات والفرص في بلاده لم يكن عادلاً، وكان مهتماً بشكل خاص بالمناطق الأقل تطوراً في إيران. وكان هذا هو الدافع الرئيسي لقيامه بزيارات متكررة إلى تلك المناطق النائية، وكان يقوم بزيارة لكل محافظة بمعدل مرة كل ثلاثة وعشرين يوماً، يقوم خلالها بمتابعة وتوزيع القروض لدعم المشاريع التطويرية في المدن الصغيرة والقرى. وكان نجاد يشخص الفساد باعتباره السبب الأول للظلم الإقتصادي في بلاده، وكذلك سياسة "الإصلاح الإقتصادي" التي انتهجها الرؤساء الذين اتو قبله، خاتمي ورفسنجاني، وأنهما قاما من خلال سياسة الخصخصة وتحرير الأسعار لمنفعة فئة صغيرة من التجار الأقوياء والسياسيين. واتهم نجاد أيضاً المؤسسات العامة الكبرى والشركات الخاصة بإساءة استعمال سلطاتهم الإحتكارية.
وحين تولى نجاد السلطة، طلب من خامنئي السماح له بتغيير قانون الخصخصة الذي توارثته إيران من حكومة رفسنجاني، من اجل جعله أكثر عدالة ومنع الفساد في بيع الممتلكات العام. وقبل القائد الأعلى طلب نجاد بعد صراع طويل. القانون الجديد يضع 40% من أسهم الشركات المخصخصة بأسعار مخفضة لذوي الدخل المحدود، وسميت تلك الأسهم بـ "أسهم العدالة".

قام نجاد بحملتين كبيرتين للتحقيق في تعاملات النظام المصرفي الإيراني وأمر المصارف بتقديم قروض أكبر للمناطق المتضررة من إيران. ووجهت إلى نجاد إنتقادات شديدة من بعض الإقتصاديين وخبراء المال، لكنه بقي مصراً على مواقفه. وتمكن نجاد من تقليل الهوة بين تطور المناطق وكذلك اللاعدالة في الثروة، لكنه واجه ظروفاً إقتصادية وسياسية من زيادة قسوة المقاطعة الإقتصادية الدولية، إضافة إلى تدخل مراكز القوى المتنافسة وخصومه في البرلمان وغيره، تسببت في زيادة التضخم والبطالة، مما جعل مكاسب نجاد للفقراء هامشية في نهاية الأمر. (8)

*****

لاعجب إذن أن كان نجاد محط إعجاب الناس في المنطقة، خاصة من الشعوب التي يبذخ رؤساؤها وملوكها من أموال الشعب المسروقة، فوضع السعوديون على اليوتيوب مقارنة بينه وبين ملكهم، ووضع الباكستانيون مقارنة له مع مشرّف. ومن الطبيعي أن يأمل أي شعب بأن يحصل على رئيس كمثله، لكن ذلك يحتاج إلى "حظ كبير"، أما في البلدان التي مدت أميركا أو إسرائيل فيها أذرعاً، فحتى إن جاء هذا الحظ فسوف يقطع من دابره!

ويبدو أن شهرة بساطة وتعفف نجاد أثارة حنق اللصوص الكبار على هذا النموذج المقلق في المقارنة معهم. ففي إيران أصطدم بتجار البازار بقيادة هاشمي رفسنجاني، الذي اتهم نجاد ولديه بالفساد. وقد شكا هؤلاء نجاد إلى خامنئي وتسببوا بشرخ في العلاقة بينهما، لأن نجاد أصر احياناً على خططه وقوانينه، وتراجع أحياناً تحت ضغط البازار وخامنئي.
ووصلت هذه الغيرة والحرج من المقارنة أيضاً إلى القطط السمان في المنطقة فأشاروا إلى أذيالهم الإعلامية بنجدتهم ، فانبرى عبد الرحمن الراشد، يشكك في "حقيقة بساطة حياة نجاد" مستدلاً ببدلة قال أنها "فاخرة" كان يرتديها في زيارته الأخيرة لنيويورك! (9)
عبد الرحمن الراشد، الذي تربى على موائد ملوك الخليج ويخوتهم وأبراجهم وجزرهم، تثير اهتمامه "بدلة فاخرة" فيكتب عنها! هل هناك تعريف للوقاحة أكثر تعبيراً من هذا؟ لكني أتساءل: هل كان الراشد في نيويورك وقت زيارة نجاد لها، وكان قريباً منه إلى درجة استطاع تلمس قماش بدلته وعرف أنها "فاخرة"؟ ليس هناك أوضح من هذه الأمور كبرهان على نزاهة الرجل حيث توضح مدى اليأس من إيجاد أي حقيقة تساعد على تشويه سمعته. وليس غريباً أن الراشد وأمثاله لا يستطيعون تخيل رئيس جمهورية إيران كلها، يكتفي براتب 250 دولار في الشهر يتقاضاه من عمله في الجامعة، وهو مبلغ يكسبه الراشد من تلفيقاته السخيفة، في نصف ساعة، فكيف بما يتقاضاه أسياد الراشد؟

على أية حال، فمثلما خسر نجاد "محبة" الفاسدين في بلاده وخارجها، فقد كسب حب شعبه، بصدقه ونزاهته وتعففه واهتمامه الإنساني بالفقراء، وعلاقته المتواضعة بالناس، وطيبة قلبه. لم يكن يمنع دموعه من السيلان في المواقف الإنسانية، فلم يكن يخجل من إظهار عواطفه. وها نحن نراه هنا وهو يدفن والده، يدخل القبر قبل إنزال جثة والده، ويضع رأسه على أرض القبر، ليرى إن كانت ستكون مريحة لرأس والده أم لا! (10)

ونرى دمعه هنا وهو يتلقى متأثراً، خطاباً من إمرأة كبيرة السن قالت له أنها تحبه أكثر من نفسها، وأنها كانت معه (في قلبها) في كل محافظة قام بزيارتها، "لأنك إبني"،  وقالت له أنها تدعي له بالموفقية في كل صلاة لها لأنه كان ينفذ وعوده للفقراء،" ... "في أول كل شهر عربي، أقدم صدقة من أجلك في مركز ا لأيتام والمعوقين في شارع باسدار"... " أتذكر عندما عدت من رحلتك إلى ماليزيا، قلت في خطبة لك أعينوني لنبني هذا البلد....كان الجميع معك.. إفتتحت حتى المدارس بدون تأخير".. "كل ما أفعله من أجلك لأني أحبك.. هل تستمع لما أقول يا ولدي؟"... "في خطبة لك في السنة الماضية قلت أنك تشعر أنك وحيد...أقسم بـ "علي" إنني لم أنم تلك الليلة!: قلت يا إلهي هل متُّ أنا ليشعر أنه وحيد؟ ".. "أنا موجودة، وسأقتل نفسي لأجمع الناس حولك، وبقدرة الله سوف أراك تنجح" (11)

هذه المشاعر الجياشة الصادقة تبين مدى طيبة الشعب واشتياقه إلى حاكم شريف طال انتظاره، واستعداده لتقديم الحب بلا حدود لحاكمه متى برهن إخلاصه لشعبه، فكم رئيس في الشرق، بل في العالم، يمكنه أن يدعي أنه يحصل على كل هذا الحب وهذه الثقة الصادقة من شعبه؟

****

إننا نواجه اليوم في العراق، خاصة في الإقتصاد المحطم والضغط المشين من اجل قواعد حرية السوق، ما واجهته إيران وكل بلد سعى لإستقلال قراره السياسي والإقتصادي في صراعه مع قوى المال العالمية، من مشاكل مشابهة لتلك التي واجهها اليساري الشهم نجاد، وكان حرياً بنا ان نستغل فرصة وجوده لتقوية علاقاتنا مع جارتنا إيران، وأن نستشيره في تجربته وخبرته الثمينة في هذا الصراع من أجل تحرير الإقتصاد من قبضة الرأسمال الأمريكي والإسرائيلي، لا ان نستشير المنظمات المشبوهة مثل صندوق النقد الدولي وبنك جي بي موركان، واللصوص الذين يعملون فيهما، كما نفعل الآن.

لقد واجه نجاد بسبب موقفه الإقتصادي والإقليمي والخارجي حرباً شعواء من أميركا وإسرائيل ومؤسساتهما في كل مكان، والحلقة التالية والأخيرة ستكون مخصصة لسياسة نجاد الخارجية وحملة الأكاذيب الإعلامية التي أحيطت به.

(1) الإيرانيون يحتفلون بانتخاب "روحاني".. ورحيل "نجاد"
http://www.alwatan.com.sa/Politics/News_Detail.aspx?ArticleID=149820&CategoryID=1
(2) من هو الدكتور أحمدي نجاد؟
http://www.youtube.com/watch?v=XM-7PthdXYs
‫(3) بيت احمدي نجاد
http://www.youtube.com/watch?v=CCxWNxg4yCk
(4) سيارة أحمدي نجاد البيجو 504 موديل 77
http://www.youtube.com/watch?v=LpSCQsduyRo
(5) Ahmadinejad versus the Technocrats - Foreign and Defense Policy - AEI
http://www.aei.org/article/foreign-and-defense-policy/regional/middle-east-and-north-africa/ahmadinejad-versus-the-technocrats/
(6) Ahmadinejad retreats in clash over Iran's budget - World Socialist Web Site
http://www.wsws.org/en/articles/2010/04/iran-a02.html
(7) Selling Iran: Ahmadinejad, Privatization and a Bus Driver Who Said No
http://socialistwebzine.blogspot.be/2009/07/selling-iran-ahmadinejad-privatization.html
(8) The Economic Legacy of Mahmoud Ahmadinejad -Prof. Nader Habibi
http://www.scribd.com/fullscreen/145835624
(9) عبد الرحمن الراشد يشكك ببساطة نجاد
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=592450&issueno=11654
(10) نجاد يدفن والده
http://www.youtube.com/watch?v=aY6faARr4ZE
(11) المرأة التي أبكت نجاد
http://www.youtube.com/watch?feature=player_detailpage&v=XM-7PthdXYs#t=493s