نبأ وفاة الشعور الانساني / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, يونيو 07, 2013, 08:40:48 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

نبأ وفاة الشعور الانساني








برطلي . نت / بريد الموقع


قبل الخروج في نزهتي اليومية ، قمت باستشارة بريدي الالكتروني مستعرضا بصورة مائلة وسريعة عشرات الرسائل التي تنهال على صندوقي ، فوقعت انظاري حالا على رسالة في وسط الصفحة تحمل عنوان (نبأ عاجل وهامّ) . اعتقدت للوهلة الاولى بان هذه ايضا نموذج آخر للرسائل المعبّأة بعوامل هدامة لا هدف لها سوى القضاء على خزين معطيات الناس المعلوماتية . غير اني ، عندما تأكدت بان مرسلها احد اصدقائي المقربين ، فتحتها بسرعة وقرأت فيها وبالخط الاحمر ما يلي :
(ننقل لكم وبأسف شديد نبأ وفاة الشعور الطبيعي للانسان ، يرجى ابلاغ كافة الاصدقاء بهذه الفاجعة البشرية) . رأيت النبأ غريبا جدا ، فقمت بالرد على صديقي وقلت له : وهل تعرف يا صديقي خطورة هذا النبأ ، وهل انت في كامل وعيك ؟ الا ترى ان هذا الموت يعني محو قابلية الانسان في تمييز ما هو بديهي في الحياة اليومية ، هل انك تعلن هنا عن موت الاحساس المولود معنا والذي يمنعنا من ارتكاب الاخطاء ، أتعني حقا انعدام الغريزة التي تنور صاحبها في الزوايا التي لا تصلها اليها الاضواء الاخرى ؟
أتاني جوابه سريعا وقال : يا صديقي ان الشعور الفطري للانسان كان يعاني كثيرا في هذه الازمنة الاخيرة ، كان يهزل جسمه يوما بعد يوم ، وفي كل زيارة كنت ألقاه أخفَّ وزنا مما سبق الى ان تمكّن منه المرض تماما . كنت أعوده من وقت لاخر ، ولكني عندما زرته بعد غياب شهرين ، رأيته قد فارق الحياة . كان يبدو دوما بكامل هندامه وكأنه لا يشكو من أي شئ ، ولكنه كان يتعرض لنوبات تشتدّ وتتواتر يوما بعد يوم . انا اعرف بانك سوف لن تصدق الامر ،  لذا سأقوم بسرد قصته عليك ،  ومن ثمّ اورد البيانات التي مكّنتني من الحصول على شهادة وفاته .
إنك تعرف بان هذا الصديق تواجد بيننا منذ اقدم الازمان ، ولا احد يعرف عمره بالتحديد لان السجل الذي يحمل تاريخ ولادته كان قد تهرّأ وتفتت اوراقه واندمجت بذرات الهواء المتطايرة . غير اننا بقينا نتذكره للدروس البليغة التي لم يكن يتوقف عن اعطائها ايانا في الحياة ، فمن بين آلاف الشعارات التي كنا نسمعها منه يوميا كانت مثلا :
ان العالم هو مُلك من ينهضون باكرا من النوم ، أو
لا يجب ان ننتظر كل شئ من الاخرين ، أو
لا يبارك الله الانسان الا اذا قام وتحرك ، أو ايضا
ما يحدث لنا ليس بالضرورة بسبب الاخرين ،
ومفاهيم بديهية اخرى ، لانه لم يكن يتحرك الا وفق قواعد بسيطة جدا ، فكان يرشد الانسان في تبنّي الشعور المناسب لكل حالة ، فكان يقول مثلا :
لا يجب ان ننفق اكثر مما نملك
اللهو بالنار يحرق الايادي
ان الابوين هما المدرسة الاولى للطفل

ولكن وآسفاه ، لقد بدأ يختل الشعور الطبيعي هذا ، عندما بدأ وليُّ أمر احد الطلاب بمهاجمة معلم المدرسة لانه هذا الاخير كان قد أنّب ابنه على تصرفه الشائن في الصف واخرجه من الحصة . اشتكى الولد لابيه ، فاسرع الاب الى المدرسة وهاجم الاستاذ مردّدا مع كل ضربة : كيف تتجرأ بتأنيب ولدي ومعاقبته ؟   عندما شقّ الخبرُ طريقه نحو الادارة ، حمل في طريقه المتعرج ترسباتٍ جعلته  يبان وكأنّ المعلمَ هو الذي اعتدى على طالب مجتهد ومؤدب ، فتمت معاقبة المعلم وأبعِد عن تلك المدرسة .
فقدَ الشعور رغبته في الحياة أيضا عندما بلغه بان الاوغاد والمجرمين في الحياة يتلقون معاملة افضل من ضحاياهم . وتلقّى ضربة معنوية وجسدية عندما رأى بان العدالة تلاحق من يدافعون عن نفسهم في حالات السرقة ، لانه كان قد تقرر اعتبارصاحب الدار معتديا اذا مسّ السارقَ بأي شكل من الاشكال ، وافسح القرارُ المجالَ للسارق بمقاضاة صاحب البيت . وبلغ إحباطه درجته القصوى عندما سمع بهذا الخصوص لصّا كسب دعواه ضد صاحب دار كان قد وضع بعض الزجاج على حيطانه منعا للسرقات ، فانجرحت يد السارق ،  وطولب صاحب الدار بتعويضات كبيرة .
كان قد ضعف قلبه كثيرا ، وفي معاناته هذه كان له جار يسكن فوق شقته ولا يتوقف عن ازعاجه بالضجيج الذي كان يحدثه هو واولاده . لقد ترجّى الشعورُ مستأجرَ الشقة العليا بحمل اولاده على الهدوء قليلا وتحويل مباريات ركضهم السريع الى فترة النهار لان ضجيجهم كان يؤثر على قلبه المريض ، غير ان الاطفال كانوا يطيلون فترة استعراضهم . اصيب الشعور بالنكسة عندما اتى والدهم بعد هذا الرجاء يبرر صنيع اولاده قائلا : ان صاحب العمارة خوّلهم بذلك .
كان الشعور مستقرا في وجدان كل إنسان ولم يكن بمقدوره تجنب الصدمات أو تجاهلها. وما عجّل في موته ايضا نبأ سمعه عن امرأة تركت قنينة دوائها في متناول طفلها الصغير، عندما رأى الطفلُ الزجاجة مفتوحة شربها كاملة فمات على الفور ، لان الموصوف للمريضة كان الحرص الشديد على عدم تناول اكثر من قطرة واحدة كل يوم. كان هذا يكفي لكي يعذّب الشعور ، غير انه علم بعد ذاك بان والدة الطفل تقدمت بشكوى ضد الطبيب الذي كان قد وصف لها الدواء ، وافلحت في الحصول على تعويضات مهمة ،  وتمّ فصل الطبيب من مهنته .
ويقال ايضا بانه شاهد موكب عزاء يمرّ في الشارع ، وقابله في نفس الوقت موكب عرس يطبل ويزمر ويهلل ويرقص . اعتبر الشعور بانه من البديهي ان يتوقف موكب العرس صامتا ولو لحين ، احتراماً  للمرحوم ولذويه ، غير أن من كانوا يقودون الهرج والمرج لم يخففوا من صخبهم وغنائهم ، والمأتم هو الذي توقف . كان الشعور يشاهد هذا بدمعة ساخنة نابت عن مئات الجروج التي بقيت مخفية .

وقبل ان يموت بقليل ، نُقل اليه موضوع آخر عن صديقين يتباريان في اطلاق الاسهم النارية . مرّ احد الاشخاص بالقرب منهما واسترعى انتباههما لخطورة لعبهما لا سيما وانهما ليسا بعيدين عن ارض مزروعة قد نضج محصولها . فأجاباه بان  هذه مجرد أسهم نارية ولا يمكنها ان تشكل خطرا . استمر لعبهما الى ساعة متأخرة من الليل  لان المبارزة كانت قوية في تحقيق أعلى النتائج من حيث المسافة التي تقطعها الاسهم . غداة اليوم انتشر خبر عن حريقٍ شبّ في تلك الارض المزروعة وأباد المحصول كاملا .
وألاف الاحداث الاخرى التي كانت تجعله يفكر ويهز رأسه ويقول باسف ومرارة : ما اعظم الشعور عند الانسان . وكانت الاحداث كلها نتيجة صفتين ذميمتين هما التعجرف والغباء .
يا صديقي ، لقد مات الشعور ، وكما تعلم كان قد سبقه الى الحياة الابدية كافة افراد عائلته  ،  من والديه وزوجته وابنائه وبناته الذين كانوا يحملون اسماء الحقيقة ، والثقة ، والكتمان ، والمسؤولية ، والعقل .  وباختفاء الشعور وعائلته ، خلا الجو الى من يقولون وبكل بساطة مثلا :
كلّ ما يهمني هي حقوقي ، وليذهب الاخرون للجحيم
ان الذنب ليس ذنبي وهو حتما ذنب الاخرين 
أنا فعلا ضحية المجتمع .
طبعا لم يكن هناك جمع كبير في تشييع جنازته ، لانه كان قد قلّ عدد من يعرفونه حقا ، ولهذا لم ينتبهوا لاختفائه لانهم كانوا قد فقدوه منذ زمن بعيد ، ولم يشعروا بغيابه لانهم لم يكونوا يحتاجونه أصلا بالرغم من اهميته القصوى . الم تلاحظ انت شخصيا غيابه الطويل عن الساحة ، الم تلاحظ الفراغ في تصرفات الناس ، الم تسأل نفسك اين ذهب الشعور ؟
لقد كان هو الحسّ والعقل والنور ، كان يولد مع ولادة كل انسان ،  وكان فعلا يملأ الفراغ الذي يتركه العلم . كان حاسة سادسة تضاف الى الحواس الخمس ، حاسة ترشد حالا الى ما هو صواب ، في امور لايجب ان يتردد فيها الانسان لانها بديهية .
فاذا كنتَ لا زلت تتذكره وتريد إحياء ذكراه ، بلّغ اصدقاءك واسرد لهم القصة، واذا كان اصدقاؤك قد سجلوا اسماءهم في قائمة من لا يرغبون السماع باسمه ، فاخلد  حينذاك للصمت ،  وفكر ، لانك ستتصور حتما ، برهبة وأسف عميق ، ما ستؤول اليه حالة البشرية في غياب الشعور ، بشرية بدون احساس .

ملاحظة : فكرة هذا المقال استوحيتها جزئيا من رسالة تلقيتها باللغة الفرنسية .


kossa_simon@hotmail.com






Matty AL Mache

ماهر سعيد متي

ننقل لكم وبأسف شديد نبأ وفاة الشعور الطبيعي للانسان ، يرجى ابلاغ كافة الاصدقاء بهذه الفاجعة البشرية... هي احدى علامات ونتائج العولمة .. ثم ان التاريخ الانساني حافل بالانتكاسات ..شكرا على المقال .. تحياتي
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة