قطرة مطرٍ أدخلتني في رؤيا / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, مايو 16, 2013, 01:18:11 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

قطرة مطرٍ أدخلتني في رؤيا








برطلي . نت / بريد الموقع


لم اخرجْ من البيت ولم أحاذِ النهر ، ولكني عبر نافذتي الواسعة ومن داخل مخدعي كنت اتابع هطول المطر في موسم ربيعنا الحالي . أنا ، كلما شهدتُ تساقط المطر في الربيع ، اعود الى السنوات الاولى من صباي فاتذكر ما كانت تفعله زخاتُ المطر بالاشجار وباوراقها حديثة الولادة . اتذكر المنظر باحساس خاص جدا ، واشعر بسعادة لا توصف لان المشهد يضعني ، ولو للحظات، في اجواء اكتشافاتي الاولى لمظاهر الحياة، وللاكتشافات الاولى للصبي وقع خاص في نفسه لانها تبقى محفورة لا تقوى السنوات على محوها .

هذا كان شأني دوما مع فصل الربيع .كنت احبّ التطلع الى الاشجار وهي تنفض نفسها بعد هطول الامطار واتابع هذه العملية منتظرا آخر القطرات التي تفيق متأخرة من سباتها العميق ،ومعتقدة بانها تأخرت كثيرا عن الركب ،تمسك بورقتها بقوة وتبقى معلقة ، فتكبر وتنتفخ الى أن تسقط .

من نافذتي الواسعة رافقتُ تساقط المطر وكيف تناثرت قطراته واحدة تلو الاخرى الى ان عثرت في النهاية على القطرة النائمة على حافة احدى الاوراق ، فاطلت النظر اليها وكأني في جلسة تأمل ، وعوضا عن أكون أنا المؤثر على النقطة الشفافة الصافية ، احسست بتأثيرها عليّ ، فغلبني نعاس مغناطيسي ورأيت نفسي فعلا قد انتقلت من خلال القطرة هذه الى عالم آخر .

وجدت نفسي وسط عالم قد افترش الورد في كل جوانبه . كانت السماء زرقاء صافية غير ان كل ما على الارض قد ارتدى اللون الوردي بما فيه الحيوانات التي كانت تتحرك بهدوء وكأنها قد عقدت هدنة او توصلت الى اتفاقية سلام نهائية فيما بينها . رأيت الاسد والنمر والحمار والغزال والثعلب والخروف والذئب والكلب وغيرها من الحيونات . خِلتُ نفسي لبرهة وكأني بحضرة الجمهور الذي كان قد حاول نوح إنقاذه في سفينته اثناء الطوفان الذي كاد يودي بالبشرية . إلتفتُّ حولي بحثا عن حيوان ينطق مثلي ، ولكنه اتّضح لي بأن الحيّز كان مخصصا للكائنات غير الناطقة . كانت تسير الحيوانات المفترسة جنبا الى جنب مع من كان يفترض ان تكون فريساتها ، كانت تسير دون مزاحمة او مطاردة أو خوف . كان الاسد يرافق الغزال والنمر يتأبط ذراع الارنب والثعلب يجامل الدجاجة بعيدا عن الايام التي احتال عليها وقام بالتهام اعداد كبيرة منها . وكان الذئب والحمل يناديان بعضهما بالاخ والاستاذ بالرغم من الذكريات المؤلمة التي يحملها هذا الاخير ، يوم كان الذئب ، وهو في الجهة العليا من الساقية ، يبحث عن حجة للبطش بالحمل متهما اياه في احدى المرات بتعكير الماء عليه بالرغم من تواجد الحمل في أسفل المجرى . والحديث يطول مع الفهد والثور والدب والحيوانات الصغيرة الاخرى .

كم تمنيت في هذه اللحظة لو كنا ، نحن الحيوانات الناطقة ، نتّصف بهذه الاخلاق لفترة معينة . ان نوقّع اتفاقيات نلتزم فيها بكل جدّ بالوداعة والحب والعفو والتسامح .

ابتعدت عن الحيوانات الخاضعة لمعاهدة السلام ، واتجهت نحو الجناح الخاص بالطيور . توقفت هنا لاستمتع بحفلة كانت تقيمها البلابل ، حفلة موسيقية اشبه بسمفونية . كانت قد انبرت نخبة من البلابل في الانشاد بشكل رائع . كان يطلق رئيس البلابل نغمة ابتدائية جميلة فيعقبه معاونه القريب بلحن مماثل ولكن بطبقة اخرى ، ويقابلهما بعد ذلك بلبل صغير فيصدر صفيرا من ابدع ما يكون ، فيتدخل بهدوء بلبل بعيد في نبرة عالية مستهلا لحنا آخر . كانت الاصوات تتوالى بتغريد يختلف في نغماته وقسماته ومقاطعه غير ان اللحن كان يسري بتناسق كبير بفضل بلبل مستتر يقوم بتوصيل النغمات ، كان يقوم مقام همزة الوصل مسهّلا بذلك العبور من تغريد الى تغريد ومن لحن الى لحن بصورة طبيعية ودون نشاز .

كانت الطيور الاخرى قد أطبقت مناقيرها إجلالا لشخصية البلبل واعجابا بصوته الشجي ، مع يقيني بان بعضا من هذه الطيور مثل بعض البشر ، تشعر برغبة شديدة للتدخل في الغناء ، حتى اذا كانت اصواتها من انكر الاصوات !!

قبيل انتهاء حفلة الطيور غادرت باتجاه قادني الى بوابة انفتحت على عالم آخر اشبه بعالمنا الارضي . رأيت نفسي عند مدخل مدينة كبيرة تعجّ بالعمارات والشوارع والعربات والناس . لم اكن قد انهيت من تمشيط اطراف المدينة عندما توقفتِ الحركة ورأيت الناس يهرعون نحو البوابة هربا من كارثة محققة او تنفيذا لاوامر صارمة ، لان العمارات بدأت تتهدّم والحارات تحترق والانهر تفيض والشوارع تتفطر . بدأت اسأل بعض الهاربين عمّا يجري ولكني وجدت الجميع في حالة هلع كبير.

في غمرة دهشتي الكبيرة ، دنا مني احد الهاربين وقال : أراك لستَ من عالمنا ولست مشمولا بالكارثة التي حلّت بنا ، أنا كنت من اكبر الاثرياء هنا ولقد اضطررت الان لترك كل شئ ولا اعرف ماذا سيكون مصيري ، هل لي ان اطلب منك إقراضي مبلغ عشرين درهما. وقبل ان امدّ يدي الى جيبي لاخراج الدراهم ،عقبه شخص آخر وقال لي: يا سيدي لقد انتهى كل شئ بالنسبة لنا لاننا خارجون دون عودة. قلت لنفسي لماذا تذهب أملاكي سدى ، فهذه سندات املاكي ، انت مخول بالتصرف بها كما تشاء . والثالث تيمّنا بمن سبقوه إتجه نحوي وقال : يا سيدي لقد زرعتُ مساحات كبيرة من الاراضي بمختلف المحاصيل ، إذا حالفك الحظ ووجدتها سالمة ، ِذهب واجنِ محصولها وتصرف به . وآخر الهاربين قال لي : يا صاحبي اطلب منك ان تنتظرني قليلا ، لقد وضعت مبالغ كبيرة من المال في اكياس غير بعيدة من هنا ، مبالغ تربو على المائة وثلاثة وخمسين الف دولار ، أنفق منها على هواك ووزّع الباقي .

لم يحالفني الحظ بالحصول على المبلغ ، لاني شعرت في تلك اللحظة وكأن النور قد انقطع وزال كل شئ من امامي . التفتّ حوالي فرايت بانني لازلت جالسا على الكرسي غير ان قطرة المطر كانت قد سقطت على الارض .

انتهت الرؤيا بسقوط قطرة المطر ، وعُدتُ من هناك خالي الوفاض ، لاني لم اجد أي سند بين يديّ ولم احصل حتى على المبالغ الموعودة. نظرت الى الوقت فوجدت بان رؤياي لم تستغرق اكثر من ثلاثين ثانية . ثلاثون ثانية اتاحت لي زيارة عالم جميل وهادئ تتعايش فيه الحيوانات بسلام ووئام ، وأيضا مشاهدة مدينة تنهار وكأنها صورة لنهاية العالم .

اذا كان لي ان استخلص درسا من رؤياي هذه اقول : اذا كان الحيوان الذي خلق مفترسا قد توصل الى العيش ، على الاقل في العالم الذي زرته ، بوئام مع من كان لا ينظر اليها إلا كمكونات لطعامه اليومي ، لماذا لا يقتدي به الانسان في هذا المجال ، هو الذي خلق غير مفترس ، بل زرعت فيه بذرة الخير مع قابلية التمييز والاختيار . كم من أخ غدر باخيه وحاول التحايل عليه وحرمانه من حصصه في الميراث ، وكم شخصا أضرّ باحد اقربائه من اجل قطعة ارض او مصلحة مادية اخرى ؟

هل ازيد الناس علما اذا ذكرت هنا كلمتين تترددان يوميا منذ أكثر من الفي سنة وهي أن الدنيا زائلة . ألم يقطع لي الهاربون عهودا ووعدوني باموال واراضي ومحاصيل ، كان كله حلما كما هي الحياة . بالرغم من وجودها الحقيقي ، حياتنا ليست سوى نقطة مطر معلقة لثواني بورقة الشجر .



kossa_simon@hotmail.com





Matty AL Mache

ماهر سعيد متي

مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة