العراق بعد عشر سنوات – معنى الأرقام والأسئلة

بدء بواسطة صائب خليل, أبريل 17, 2013, 02:50:50 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

كما كان متوقعاً أثارت هذه المناسبة الكثير من الكلام والجدل، وكالعادة سارعت صحافة الكبار لكي تلغم النقاش بإعطاء الكلمات الأساسية مفاهيم فاسدة تفرغها من معناها وتضع الأسئلة المغشوشة وتثير الضوضاء حولها، فضمنت اعوجاج الكلام وفساده وخلوه من أي معنى مقلق بالنسبة لها. لقد كان ذلك ضروريا، فلا بد من إدامة الصور المزيفة من أجل الضربة القادمة، فالمعركة مازالت ساخنة و "التاريخ" بعيد عن النهاية. 

التشويش الأقصى المتطرف نراه في كتابات كتاب من أمثال عبد الخالق حسين ممن يلقون بأنفسهم بلا حذر ولا تحسب، ويذهبون بالمغالطات إلى اقصى أبعادها وإلى درجة تجعلها مفضوحة ومستفزة، ولذلك فهؤلاء لا يمثلون في الحقيقة المغالطة الأكثر خطراً، لكن لا بأس بالمرور على خطابهم.

في مقدمة مقالته "العراق بعد عشر سنوات .. حقائق وأرقام" (1) يقر الدكتور عبد الخالق حسين في البداية بأن حزب البعث جاء "كأداة منفذة لأقذر مؤامرة دبرتها المخابرات الغربية وعلى رأسها الـ (CIA)" وتم من خلال تلك الأداة "ذبح هذه الثورة الوطنية وقيادتها المخلصة في إنقلاب 8 شباط الأسود عام 1963، وأدخل البلاد والعباد في نفق مظلم ولحد الآن. ثم اغتصب البعث الحكم ثانية عن طريق مؤامرة دبرتها الشركات النفطية الأمريكية والبريطانية بتدبير وكالة الـ (CIA) أيضاً عام 1968"
ثم يبين لنا الكوارث البشرية والإقتصادية نتيجة لذلك، لكنه يعود ليقول: "كل ما ألحق بالعراق من خراب ودمار وأضرار وجرائم، منذ 8 شباط 1963 وإلى الآن، يتحمل مسؤوليته البعث الفاشي"!

الذي يعرف الدكتور عبد الخالق يعلم أنه يقصد من ذلك إنقاذ الولايات المتحدة من اللوم، رغم اعترافه بما لا يمكن نكرانه من دور السي آي أي، التي دبرت المؤامرة "الأقذر"، وإقراره أن البعث لم يكن سوى "أداة منفذة" حسب تعبيره! ولأن العراق "الحديث" يعتبر "إنجازاً أمريكياً" من وجهة نظر الدكتور عبد الخالق فإنه يدافع عنه بشكل يثير الحيرة حيث يصل في المغالطة إلى حد إعطاء قرائه الإحساس بالإهانة للإستخفاف بعقولهم، بتعابير شمولية إعلانية لا تجرؤ حتى الحكومة نفسها على ادعائها، ولا حتى الأمريكان، فيقول مثلاً:
"منذ إصدار هذا الدستور ولحد الآن تم الالتزام به نصاً"
و"أجريت ثلاثة انتخابات برلمانية ومثلها انتخابات مجالس محلية، نزيهة وعادلة بشهادة آلاف المراقبين الدوليين"
وأنه "تم بناء جميع مؤسسات الدولة، الخدمية (المستشفيات، والمدارس والمعاهد والجامعات)، وإعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية وغيرها، وفق المبادئ الديمقراطية".
و"إرسال آلاف البعثات الدراسية إلى أرقى الجامعات الغربية بدون تحيز للانتماء الحزبي أو عشيرة الحاكم".
وهذا المديح غير المحدود يثير المواطن العراقي الذي يتألم من حقيقة الوضع في بلاده، ولا يقره لا المعارضة ولا حتى الحكومة، واللذان طالما أشتكيا من تفشي التزوير في الإنتخابات وعدم الإلتزام بالدستور والفساد والواسطة في كل شيء، ولقد أزلت الأدلة المفصلة هنا اختصاراً لهذه المقالة.

ثم يعود حسين ليمتدح "العمل" لإيصال إنتاج النفط "الى 12 مليون برميل يوميا"، التي يؤكد بلا تردد بأن "هذه الواردات هي للشعب ولإعادة إعمار العراق ورفع المستوى المعيشي للشعب" ويتحدث عن "تنمية" تجاوزت الصين، فيعطي انطباعاً مشوها خادعاً عن وضع العراق ويوحي بأن في العراق "تنمية" حقيقية مثلما يفهمها الناس من زيادة في التعليم أو التصنيع أو الكفاءة في العمل، وليس في التسابق في ضخ النفط وانتظار الحظ فيما يتعلق بأسعاره.
ثم يمتدح "تبنى العهد الجديد نظام اقتصاد السوق والإنفتاح الإقتصادي" كأحد الإنجازات وكذلك توقيع معاهدة التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، علماً أن هذه الإتفاقية و"الإنجازات" فرضت على العراق فرضاً، وحفر الإلتزام باقتصاد السوق في دستوره لكي لا يستطيع منه فكاكاً حتى لو أكتشف لاحقاً أنه لا يناسبه.

ويتحدث حسين عن مشاريع لرعاية مئات الألوف من الأرامل واليتامي، ويؤكد إعادة تأهيل معظم المصانع وبناء المستشفيات الحديثة وأفضل الأجهزة الطبية والأدوية، بل وإرسال من يصعب علاجه إلى الخارج، وهي جميعا النقاط الساخنة التي تلام الحكومة يومياً على التقصير فيها في حقيقة الأمر، فكأن الدكتور حسين أخذ كل النقد الموجه للحكومة وكتبه معكوساً، مناقضاً للحقائق. فمقابل هذه الصورة الوردية عن العراق وإنجازات مابعد "التحرير" نقرأ تقريراً دولياً حديثاُ بخصوص الدول الفاشلة في العالم والذي تصدره مجلة "فورن بوليسي" يضع العراق كتاسع أفشل دولة في العالم، "ليس في السياسة فقط وإنما في الإقتصاد أيضاً"، مشيراً إلى دولة تصل ميزانيتها 117 مليار دولار تعاني عجزاً شديداً في البنية التحتية والصحة والتعليم والبطالة وغياب التخطيط الإقتصادي! (2)

ولا يتحدث الدكتور حسين عن آلاف الكفاءات التي تم اغتيالها من قبل الموساد كما يخمن العراقيون (وينكر حسين ذلك في مقالة سابقة مبرئاً الموساد بالذات من الجريمة) بل يركز على عودة "أكثر من 300 عالم وأكاديمي" خلال عام!
اليوم قرأت تقريراً عن صحيفة بريطانية تؤكد مقتل 5500 عالم عراقي، وتلقي اللوم في ذلك على الموساد بالذات، وتتحدث عن خطة متكاملة لإفراغ العراق من علمائه تقوم بها أميركا! (3)
وكان قد سبق لعبد الخالق أن كتب مدافعاً عن براءة الموساد من دم العلماء العراقيين فكتب "من وراء قتل العلماء والأكاديميين العراقيين؟"(6)  و التي سنعود للإشارة إليها بعد قليل، يلقي اللوم فيها كله على البعث، ويبعده عن أية مسؤولية إسرائيلية أو أمريكية، كما فعل مع تاريخ العراق أعلاه.

يستمر الدكتور حسين في قلبه للحقائق المرة إلى وردية، فبدل الحديث عن البيئة المدمرة والمسممة باليورانيوم المنضب التي أثارت شفقة العالم على بلاده وغضبهم على محتليها، فأن حسين يحدثنا عن "حملة تقوم بها وزارة الزراعة لمكافحة التصحر" وأنها "نجحت في عدد من المناطق التي تمت مكافحتها."، هذا في الوقت الذي يؤكد فيه بان كي مون قبل أقل من شهر في تقرير للأمم المتحدة أن العراق أصبح مصدرا رئيسا للعواصف الترابية في العالم بسبب بيئته المتدهورة(4)
و"ان تدهور البيئة فيه بدأت تؤثر سلبا على القطاعين الاقتصادي والصحي فيه، مؤكدا ان العراق سيكون عرضة لما لايقل عن 300 عاصفة ترابية سنويا خلال السنوات العشر المقبلة.!!"

إن محاولات الدكتور عبد الخالق المستميتة لتبرئة الإحتلال، وبإصرار مثير للدهشة وبتجاوز متهور للوقائع يمثل الجانب المتطرف من سياسة "إلقاء اللوم على أنفسنا"، والتي رغم صحة منطلقها، فإنها تستخدم لتبرئة مجرمين "أمسكوا متلبسين" بجرائمهم، وبشكل لا يجرؤ على إنكاره إلا القليل النادر.

رغم أنها لا تقنع أحداً، فأن الخطابات "الوقحة" في تطرفها في الكذب، أثر نفسي في ما سأسميه "تزحيف الوسط" وإعطاء بعض المصداقية للكذبات الأقل صلافة حيث ستبدو تلك وكأنها معقولة بالنسبة للخطاب الأكثر تطرفاً.

لنأخذ هذا البرنامج الجدلي بين فريقين حول نفس الموضوع: عشرة سنوات بعد الإحتلال، هل كان الأمر يستحق التضحيات؟(5): الفريق الأول يقول أن النتائج إيجابية "تستحق التضحية"، بينما يؤكد الفريق الآخر أنها لا تستحقها وأن الخسائر كبيرة جداً. أعضاء الفريق الأول يتحدثون عن تحقيق بعض التقدم هنا وهناك ويعترفون بالكثير من الفشل، ويرددون أن "المستقبل سيكون في صالح الشعب" رغم الحاضر الصعب الذي لا ينكرونه، ويركزون على أن أميركا "أخطأت" كثيراً و "فشلت" كثيراً (يعني ذلك ضمناً أنها كانت تقصد الخير) لكن هناك نجاحات وأن علينا ان نتفاءل .. الخ.
الطرف الثاني يقف بالعكس ويؤكد أن الحرب كانت لها نتائج كارثية على العراق، ويتوقع أن الرأي العام سيكون في مكان ما في الوسط بين "الطرفين". لكن لو أضفنا إلى مثل هذا النقاش، جهة تمثل خطاباً مثل خطاب عبد الخالق حسين، فسوف تبدو الجماعة التي تقول بأن "أميركا أخطأت ولكنها طيبة" وأن الإحتلال "حقق بعض المكاسب" الخ،  بأنها تمثل "الوسط" ويزداد الإقتناع بها! أي أن دور "المتطرف" غير المعقول هو "تزحيف الوسط" وجعله يقترب من ما يريد بثه من رأي. 

إضافة إلى ذلك، يلعب مثل هذا الخطاب غير المعقول دوراً في إبقاء النقاش حيث هو، وتأخير انتقاله إلى المرحلة التالية، أي مناقشة كيفية التخلص من قيود الإحتلال مثل بنك جي بي موركان والسفارة العملاقة وغيرها.


النقطة الثانية التي أود لفت الإنتباه إليها هنا هي معاني الكلمات المستعملة وسلامة المنطق ومعقولية الأسئلة في النقاش الجاري.

خذ مثلاً الحديث عن "فشل" الولايات المتحدة و "اخطاءها" في العراق. فلكي يكون تقدير الفشل (أو النجاح) تقديراً منطقياً، فإننا يجب أن نعرف أولاً "هدف" من يقوم به، وعلينا أن نبرهن أنه كان يهدف إلى شيء آخر غير الذي تحقق، فهل نحن متأكدون من ذلك لنحكم بـ "فشل" أميركا في العراق؟ هل نتصور أن الإدارة الأمريكية في عهدي كل من بوش وأوباما، والمغرقة بالأجندة الإسرائيلية للمنطقة، كانت تريد بناء بلد ديمقراطي حديث وقوي في دولة مثل العراق العربي؟ هل يناسبها أن تنشر الديمقراطية فيسيطر على مقدرات البلد شعب يهتف هادراً " أنعل أبو اسرائيل لابو أمريكا" بالملايين، وتؤكد الإحصاءات الأمريكية كرهه الشديد المتزايد لأميركا؟ إنه وهم غير معقول، لكنه مناسب لكل من الإحتلال والحكومة العراقية التي عليها أن تتظاهر بأن العلاقة مع أميركا علاقة "صداقة" لا تنتقص السيادة، وهي أبعد ما تكون عن ذلك.
إذن فكلمة "فشل" أو "أخطاء" تعتمد في تقديرها تماماً على معرفتك بهدف "الفاشل" او "المخطئ"، ولأنه لن يخبرنا حقيقة هذا الهدف عندما يكون سيئاً، فعلينا أن نحزره بأنفسنا. وعندنا ما يكفي من الأدلة والمؤشرات من تاريخ أميركا ومن نوعية الرجال الذين استقدمتهم لترتيب الأمور في العراق ومن الحقائق التي افتضحت، ان الهدف كان إبقاء السيطرة على البلاد بأي شكل، وأن الطريق إلى تحقيقه كان الإرهاب والتدمير للمجتمع. وفي هذا الأمر لا نجد بداً من ان نتفق مع ما صرح به أحد كبار رجال الموساد الإسرائيليين السابقين بأن إسرائيل قد حققت فوق ما كانت تحلم به في العراق، أي النجاح الباهر!
إن عبارة "فشل" الأمريكان في العراق لا تستند إذن إلى أي واقع وهي تغطي كلمة "جرائمهم" وأهدافهم التخريبية، وأن استعمال تلك الكلمة (الفشل) من قبل الكتاب بلا حذر، وقبولها من القراء بلا تمحيص وتساؤل، يسهم في تلك التغطية وتشويش الحقيقة امام الشعب.

خذ أيضاً كلمة "تستحق" في عبارة "هل تستحق التضحية": هل هي كلمة في مكانها؟ إننا عندما نريد أن نعرف إن كانت مكاسب ما، تستحق الثمن الذي دفع من أجلها، فيجب أن يكون من دفع الثمن والمستفيد منه، نفس الجهة، وإلا فلا معنى للسؤال!

فقبل سنوات عندما سؤلت سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة حينها، مادلين أولبرايت في برنامج 60 دقيقة، فيما إذا كانت تعتقد أن أهداف سياسة أميركا تجاه العراق "تستحق" التضحية بنصف مليون طفل، فأن هذا لم يكن سؤالاً منطقياً. فمن يحقق المكاسب (السياسية وغيرها) ليس نفسه من يدفع الثمن. لذلك لم يكن غريباً أن تجيب بـ "نعم"! فالولايات المتحدة لم تكن هي من يقدم الثمن، بل العراق. فما كانت اولبرايت تقوله حقاَ هو "نعم أن التضحية بنصف مليون طفل عراقي ثمن يستحق ما حصلنا عليه" وكانت صادقة في التعبير عن مشاعرها (اللاإنسانية)، فنصف مليون طفل عراقي ليست "تضحية" بالنسبة للإدارة الأمريكية، فقيمتها صفر! ولو كان هذا الثمن نصف مليون طفل أمريكي، لكان من المستحيل على أولبرايت أن تتجرأ حتى على التفكير بقول "نعم"!

لقد فضح جواب اولبرايت فساد السؤال، وها نحن نعيد نفس السؤال الفاسد عن السنوات العشر والإحتلال، ونتساءل: هل ما حققه الإحتلال يستحق التضحيات؟ ولأن من يستفيد من الحروب ليس في العادة من يقدم "التضحيات" فيها، فليس هناك جواب عام عن هذا السؤال. فالعراقي الذي اثرى أو خرج من السجن بفضل الإحتلال سوف يرى الأمر يستحق، ولكن إن سألنا أم فقدت طفلاً في عملية إرهابية فالأمر لا يستحق بالتأكيد. ولو سألنا ديك تشيني (صاحب الحصة الدسمة في هاليبرتون) أو بريمر أو سلسلة السفراء الذين اثروا من نفط كردستان أو نهب مليارات العراق التي "إختفت"، فأنها "تستحق"، لكنها ليست كذلك بالنسبة للجندي الأمريكي الذي فقد يده أو رأسه.

السؤال العام هنا سؤال فاسد، لكن السؤال الفاسد له فائدة كبيرة لمن يريد تضييع النقاش عن الأسئلة الصحيحة، وهي: هل كانت الحرب شرعية؟ هل ارتكبت فيها جرائم؟ كم؟ أيها؟ من يدفع ثمنها؟

المقارنة بين الوضع الحالي والوضع أثناء حكم صدام حسين مقارنة فاسدة ايضاً ولا تعني شيئاً في حقيقة الأمر، رغم إصرار كل من المدافعين عن أميركا وعن البعث، كل في جانب، على أهميتها في جدلهم وتأكيدهم أن سوء الآخر يبرهن إيجابيتهم. هذا المنطق يعني أنه إن كان الحكم السابق فاسداً جداً فيمكنك أن ترتكب الكثير من الجرائم والسرقات دون مشكلة ما دمت لا تصل حدود ما فعله، لأنك ستبقى "جيداً" مقارنة به! وبالعكس، فكلما كان الإحتلال دموياً، سيكون صدام جيداً وفق هذا المنطق لأنه ارتكب جرائم أقل، وفق مؤيديه!

في مثل هذا السعي كتب الدكتور عبد الخالق حسين  مقالتين للبرهنة بأن الموساد لم تكن وراء اغتيال العلماء العراقيين وإنما البعث! فيكتب في "من وراء قتل العلماء والأكاديميين العراقيين؟"(6) : "نحن نعرف قدرات البعثيين الهائلة في التضليل" بينما يرى أنه "قد تم تضخيم إمكانيات هذه المؤسسة (الموساد)" وأن "الإنسان العراقي بحكم حرصه على مصلحة شعبه، وعدائه للموساد والصهيونية، معرض لتصديق مثل هذه الإشاعات (عن الموساد)" و "البعثيون خبراء في ارتكاب الإرهاب وإلقاء التهمة على خصومهم" وأنهم "قرروا شل العقل العراقي وذلك بقتل علمائه وأطبائه ومثقفيه، وإلقاء التهمة على إسرائيل وأمريكا." وأن " الغرض الرئيسي من إلقاء تهمة قتل العلماء على الموساد وأمريكا هو لتبرئة القتلة الحقيقيين، البعثيون وحلفائهم من أتباع القاعدة من قتل العراقيين." الخ
إنه يقول إنه لا يجد سبباً معقولاً لإستهداف إسرائيل للعلماء العراقيين (!) لكنه يجد باعجوبة سبباً لكي تستهدف بقايا البعث الذي قال عنه أنه "أداة تنفيذ للسي آي أي"، لتخاطر بحياتها من أجل هدف عام شامل لا يعنيها بأي شكل، مثل قتل العلماء الذين كان أغلبهم قد عمل ضمن نظام حكم البعث بدون إشكال!
ويستمر الدكتور عبد الخالق في هذه المراوغات في مقالته الثانية في تبرئة الموساد(7)  وقد أزلت النصوص التي كتبتها حول ذلك إختصاراً لهذه المقالة.

الدكتور حسين سعيد بالقاء كل شيء على البعث، لأن هذا يخفف من وقع جرائم الخندق الأمريكي الإسرائيلي ويجعله (وفق منطق حسين) أكثر قبولاً. وبنفس الطريقة تنفرج أسارير المناقشين من بقايا مجرمي صدام، كلما أرتكب الإحتلال جريمة إضافية، ويصرخون هاتفين: أنظروا! ألم نقل لكم أننا "أفضل"؟ هكذا نصل إلى حالة عجيبة تكون جريمة اي طرف، تبرئة للطرف الآخر، وتبدأ محاسبته لا على ما ارتكبه من جريمة، بل على مستوى فضاعة تلك الجريمة مقارنة بجريمة الآخر!

الخطأ المنطقي والأخلاقي في هذه المقارنة أنها تفترض أن ما يستحقه هذا الشعب محصور بين حالتين إجراميتين، هما الإحتلال الأمريكي والدكتاتورية الصدامية، وعليه أن "يفرح" إن حصل على الأقل سوءاً من بينهما وأن يشكر الله على نعمته، وهذا إحساس شديد بالدونية من قبل من يتحدث هكذا، تجاه نفسه وتجاه شعبه. هذا المنطق يجعل "نقطة القياس" واطئة للغاية، تقف عند الإحتلال وصدام حسين، وكأنها ما يستحق هذا الشعب، ويجعلنا ننسى حقه بحياة كريمة كاملة الإنسانية. أن ننسى أن قسوة الحكم السابق عليه، لا تبرر قسوة الإحتلال أو تخفف لا اخلاقيتها، بل تزيدها جرماً. لو اخذنا نقطة القياس الإنسانية الصحيحة هذه فسوف يظهر جلياً أن كل من صدام حسين والإحتلال من أسوأ المجرمين بحق هذا الشعب، ويظهر لدينا واضحاً أن المقارنة بين جريمتيهما مقارنة ليس لها اي معنى وأنه لا يمكن أن يستنتج أي شيء عن أحدهما من خلال جرائم الآخر. إن القاضي يحكم على المجرمين كل بجريمته ولا يقارن بين فضاعة جريمتين ليطلق سراح الأقل إجراماً منهما. 

لكن هذا المنطق الأعوج هو ما يناسب الإحتلال (وبقايا الدكتاتورية)، وهو يسيطر على الساحة الإعلامية في البلد والعالم! ولذا نجد هذا المنطق سائداً في المناقشات رغم خطله الواضح ولا أخلاقيته! فيكفي أن يقارن الإحتلال بجرائم دكتاتور وحشي، لتكون إدانة شديدة مخزية للاحتلال، ويكفي أن يقارن حكم حاكم لبلده بفضاعات الإحتلال لتكون إدانة شديدة الخزي للحاكم.

حقيقة أخيرة وخطيرة الأهمية وجديرة بالتذكر دائماً وهي أن كلا طرفي المقارنة الإجرامية، يقفان منذ البداية وحتى اليوم، في خندق واحد، خندق معادي للشعب العراقي ولكل الشعوب. الأول يخلق الثاني وأمثاله في كل مكان، والثاني يعتاش على دعم ومساندة الأول ويخدمه من الداخل ويتبع أساليبه ومشورته. إن اختلاف السيد مع العبد، الرأس مع أداة التنفيذ، ليس سوى اختلاف صوري مؤقت ومراجعة التاريخ القريب في المنطقة تبين ذلك. كان أوضح مثل على ذلك حرب الكويت، التي مهدت لها أميركا بمسرحية أبريل كلاسبي، ثم انقلبت في الفصل الثاني من المسرحية وتظاهرت بالغضب الشديد على "أداتها المنفذة"! لكن عندما أوشك صدام على السقوط عام 91 سارع "الرأس" إلى إنقاذه رغم الفضيحة! وكتبت نيويورك تايمز أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بدون وجود صدام يرهب العرب ستغرق في رمال الصحراء. وعندما قرر الرأس التخلي عن أداته نهائياً، والسيطرة على البلاد مباشرة بعد ذلك بأعوام، فأنه لم يكن يريد تبديل نظام دكتاتوري بديمقراطي، إلا بقدر الضرورة الشكلية. لذلك نراه يختار من جماعته "خبراء الإرهاب" وليس البناء والديمقراطية لإدارة البلد المحتل، ويختار لحكمه أقرب البدائل إلى صدام حسين. يختار صاحب صدام وشريكه في منظمات البعث الأمنية وقصر النهاية، الدكتور أياد علاوي لرئاسة أول حكومة عراقية!  ولقد منحه هذا الفرصة الكاملة لترتيب الساحة العراقية بالدماء والتآمر والإرهاب لتبقى تحت سيطرته بعد مغادرته. وحين حصل الجعفري على الأغلبية في أول انتخابات ديمقراطية سارعت الخارجية الأمريكية إلى إزاحته، فلم يكن "الأداة المناسبة". وعشية الإنتخابات السابقة بذلت سفارة الولايات المتحدة جهوداً مفضوحة وفاضحة للدفاع عن بقايا البعث و "حقهم" في السلطة والترشيح والإنتخاب حتى قامت الحكومة بالتهديد بطرد السفير! وحين شكل المالكي حكومته، قبلت أميركا به بدون حماس رغم كل ما قدمه هذا من تساهل للإحتلال، فقد كان علاوي "سافلهم" كما يسمونه، هو الصدام البديل الذي يريدونه أن يحكم، ولم يختلف أوباما في ذلك عن بوش كما كشف كتاب صدر مؤخراً وكتبنا عنه في مقالة سابقة. وحين لم يكن بد من المالكي أشترطوا أن يحصل علاويهم على منصب "عند القمة", ولما لم يحدث ذلك، عاد الإرهاب إلى البلاد.

هذه الحقيقة المرة من التعاون الكاثوليكي – الزواج بين الحثالات في اي شعب، والإحتلال، لها جانب واحد إيجابي، وهو أنها تعفينا كما يفترض من المقارنة بينهما. إنهما ليسا "خياران" للشعب، بل جانب واحد متعاون له جناحان يتبادلان الأدوار ويشتركان في اضطهاد الشعب وتدمير البلاد. إنهما يعيان وحدتهما جيداً ويفترض أن تعي الضحية، الشعب العراقي، هذه الحقيقة ايضاً بشكل واضح وأن ينتهي من هذا الجدل العقيم. فتخيير العراق بين أميركا والبعث، ليس سوى السؤال كيف تفضل أن نستعبدك؟ بعملائنا أم بنا مباشرة؟




هل نحتفل إذن بزوال الدكتاتورية أم نحزن لسقوطنا تحت الإحتلال؟ لقد تحقق تقدم كبير بهزيمة الدكتاتورية وزوال الرعب منها، لكن علينا أن لا نبخس حجم التراجعات والخسائر. فهاهي الطائفية تصل حدوداً لم نكن نتخيلها أو تحلم إسرائيل بها، والإرهاب قوي واختراق الأمن غير معروف الحدود ومؤسساتنا المالية والإقتصادية مكبلة تماماً للكارتل المالي الأمريكي والفساد في أعلى صوره وقوته ويزداد انتعاشاُ وكردستان تتشكل كدولة عدوانية بقيادة معادية للعراق، وموالية بشكل غير معروف الحدود للشركات ولإسرائيل ولا تتورع عن اي ابتزاز أو تحطيم لبنية العراق. ولدينا "يسار" تائه تائب مشتت وعاجز، وفساد ديني ومذهبي وتخلف تعليمي وصحي وبيئي بدرجات مرعبة وانهيار أخلاقي عام في المجتمع وحكومة ومعارضة، لا يكاد الشعب يجد فيها شريفاً يأمل به!

إنها بالتأكيد ليست صورة تدعو للإحتفال، بل ربما هي أقرب إلى اليأس. ورغم ذلك، الآن بعد مضي عشرة سنوات على هذا الحال، علينا أن ننطلق من هذا الواقع المتردي الذي لا نملك غيره، لكي نبني أحلامنا مهما بدا ذلك غير واقعي. علينا أن نبدأ بأن لا نسمح للصورة أن تستمر مشوشة أمامنا، نرى فيها الواحد إثنان، كما يفعل المصاب بالدوار لنختار بينهما. يجب رفض تأخير الجدل الحقيقي حول خياراتنا الحقيقية وما يجب أن يكون وكيف نعمل من أجله. علينا أن نتذكر ونذكر أنفسنا ونحمي الحقيقة من التشويش أو النسيان: اهداف الإحتلال تدميرية، والحديث عن "فشله" تشويش للحقيقة، وأن الإحتلال والبعث حليفان أزليان، وأن المقارنة بينهما احتيال وأن الخيار بينهما لا أخلاقي وإننا لا يجب أن نقبل أن يفرض علينا أن نختار بين الذئب والأسد ليفترسنا، (وقد عقدا اتفاقاً على تقاسمنا في كل الأحوال) بل علينا أن نرى أن خيارنا هو بين الحلف الأمريكي الإسرائيلي البعثي، وبين جهة يجب أن نخلقها إن لم توجد، تعمل على بناء وطن كريم لهذا الشعب.

(1) http://almothaqaf.com/index.php/10-years/73437.html
(2) http://www.burathanews.com/news_article_169852.html
(3) http://www.al-offok.com/main/articles.aspx?selected_article_no=13614
(4)http://www.almadapress.com/ar/NewsDetails.aspx?NewsID=8527
(5) Ten Years on from Iraq: Was It Worth It? | Full length Huffington Post UK Debate
(6) http://www.abdulkhaliqhussein.nl/index.php?news=533
(7) http://www.abdulkhaliqhussein.nl/?news=535