تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

عكازة العم أبو فرج / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, يناير 16, 2013, 10:38:41 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

عكازة العم أبو فرج








برطلي . نت / بريد الموقع





في أحد ايام الصيف ، كنت في زيارة قصيرة الى منطقتنا . أفقت من النوم مبكرا على غير عادتي ، اغمضت عينيّ محاولا اللحاق بالنوم واستعادة حصتي منه لذلك اليوم ، غير ان النوم كان قد ابتعد كثيرا لانه لم يكن قد وضعني في حسابه في توزيعات تلك الليلة . جلست في الفراش مفكرا بما عساي ان افعله ، وإذا بالناقوس الصباحي يقرع نقرات خفيفة ، تنفذ بهدوء داخل البيوت دون ان تزعج النائمين . قلت إنّ خير ما يمكنني القيام به الان هو التوجه الى بيت الله وحضور فروض صباحية اعتاد الناس على اقامتها  منذ الخيوط  الاولى من الفجر .

خرجت من البيت ، ومشيت وسط الشارع لاني كنت السائر الوحيد فيه ، خلفَ رجل عجوز يشقّ طريقه متكّئأً على عكازته . كان العجوز يمشي بسرعة على بعد عشرين مترا منّي ،  وفي كل خطوة يدقّ عكازته دقّا قويّا يجلب انتباه اثقل الاسماع . مشيت وانا اصغي لرتابة الدقّات ، فتمثلت نفسي سائرا خلف امرأة تنتعل القبقاب الخشبي أو تلبس حذاء يعلو كعبا عاليا ورفيعا. وبما ان كل ظاهرة تدعوني الى التخيل والتحليل ، تخيلتُ بان كل دقّة من العكازة كانت تعبيراً عن شئ يخالج صدر العجوز . تخيلته  في دقاته يروي بعض ما مضى من عمره من احداث تركت في نفسه أثرها . كانت العكازة تترجم كل ما يفكر به ، ففي اوقاته السعيدة ، كانت العكازة تنزل بقوة وبارتكاز على الشارع ، والاقل قوة منها كانت تقصّ بحزن وبصوت خافت مراحل مضطربة حمّلته الكثير من الحزن والعذاب .

في بداية السير كانت دقات العكازة مدوّية قوية ، فقلت : لا بد ان صاحبنا يستعرض ايام كان شابا ، رشيق القامة ، قويا ومفتول العضلات ، يتمتع بمظهر جذاب جعله محطّ انظار شريحة كبيرة من الناس . اشتدّت الدقات ، فقلت لابد  أنّ الذكريات الجميلة تتدفق وتتلاطم في فكره لغزارتها  . من بين ما كان يستعيده ، مواقفه الشجاعة في اسعاف الكثير من الضعفاء ، كانت هذه مدعاة فخره ، كم كانت يذكر بفرح الاوقاتِ التي كان يقف فيها وسط الجموع ويغني ، وكانت سعادته تبلغ ذروتها عند اختتام نهاراته بامسيات تجمعه باصدقائه ، حيث كان الفرح والبهجة العنوان الوحيد لهذه السهرات . كان يتذكر الامسيات التي كانت بنت الحان تتولى دعوة أحبّته الى الجلوس حول كأس تبعدهم عن هموم النهار . كان يحلو له التصاعد مع مقامات تطلقها الحناجر تلقائيا ، كما كان ينبسط لقصص اصقائه واحاديثهم الشيقة التي لم تخرج يوما عن حدودها المشروعة . كان يعجبه ان يردّد في هذه السهرات هذا القول :  وما الضير في احتساء كأس او كأسين مع الاصدقاء لقضاء بعض الوقت في احاديث مسلية ، بعيدا عن اللغو والنفاق أوالنميمة ؟ ورغبةً منه في إطالة لحظات سعادته هذه ، كان يوقف شريط افكاره على مشهد يحبه كثيرا ، فيرفع رأسه ويتنفس عميقا ويغلق عينيه ، ثم يعود ويكبس الزرّ لتكملة الشريط .

بعد هذه االمرحلة التي لم يكن يرغب في مفارقتها ، رأيتُ العكازة تخفّف من زخم دقاتها ، قلت في نفسي لا بد ان صديقي دخل مجالا غائما لم يستطع تجاوزه ، لقد دخل النفق المظلم ، وشرعتِ العكازة ، بدقاتها البطيئة ، تترجم حزنا عميقا . ابصرت العجوز لوهلة وكأنه آيل للسقوط ، فاسرعت اليه من موقعي البعيد ، ولكنه نهض قبل ان أصل اليه .  تعرضّ للكبوة عند وصوله الى الصفحة الخاصه بولده . شاب رشيق توقّف عمرُه لدى الثانية والعشرين .   تذكّر يومَ رافقه الى مركز النقليات ليودّعه وهو متّجه الى جبهة القتال . بعد خمسة أيام فقط من توديعه ، تلقّى العجوز نبأ وقوع ولده في حقل ألغام . كان النبأ نعيا وفي نفس الوقت إبلاغا باستحالة احضار جنازة ولده لان العدوّ كان قد احتل الموقع دون انتظار . كان يسير العجوز ببطئ ويَهِب نفسه المجال الكافي لاطفاء ما يشعر به من احتراق داخلي . كان قد قرّر ذات يوم ان يمنع ابنه من التوجه الى الجبهة ، ولكن الخوف من رؤيته بأذن مقطوعة او معلقا على خشبة المشنقة ، في حالةّ القبض عليه ، كان قد منعه من ذلك . كان يعلّل النفس بالقول بان الحرب مهما طالت ستنتهي ، وان الاحتمالات كبيرة في ان يعود الولد الى بيته سالماً. بالرغم من شدّة الالم الذي كان يسبب له المشهد ، كان يُلِحّ على التوقف عند أدقّ تفاصيل الحادث المريع والاسترسال في البكاء الى ان تهدأ نفسه.

وبما ان الحزن يناجي حزنا ، تذكّر أبو فرج يومَ فارقت زوجتُه الحياة . كانت مرحلة غيرت سير حياته تماما .  قاده هذا التاريخ الفاصل الى  الغاء كافة مشاريعه المستقبلية لانه لم يعد يرى جدوى من ذلك .

شكّلت وفاة زوجته حدّا فاصلا في حياته ، لانه بعدما كان يعيش معتمدا على رفيقة وانيسة لم تخيّب امله يوما ، صديقة كانت تشاركه الافراح والهموم ويستمد القوة منها عند احتياجه ، شريكة وقورة لا تبخل عليه بنصائحها لانها كانت امرأة تلجأ الى العقل قبل إطلاق عواطفها . لقد وجد نفسه بعد موتها في مهبّ الريح . لم يعد الان سيد نفسه وكأنه عاد قاصرا ، تحت وصاية الغير . اعتبر نفسه وكأنه فَقَدَ ، ليس نصفَه ، ولكن ثلاثة ارباع نفسه . لقد اصبحت شؤونه بيد كنّةٍ كانت تنتظر هذا اليوم بشوق لكي تُملي عليه اوامرها . كانت تكرهه كثيرا ، وفعلا بدأت تُعامِله معاملة كلب غير مشمول باي قانون رعاية !! لقد اضحى العم ابو فرج شحّاذاً ينتظر خلوّ مائدة الطعام على  أمل العثور على فُتات لم يجد لها بعض الشباعى مكانا في بطونهم . في هذا الجزء من شريط عمره كانت العكازة تمشي ببطئ الى ان توقف ايقاعها المدوّي .

كان الشريط لا يتوقف ويمر بلحظات جميلة تعقبها ساعات انقباض والعكازة كانت المترجم الفوري منتقلة بين القوة والخفة والصمت . كنتُ افرح لدقات العكازة الرّاكزة لانها كان لحظات سعادته ، وكنت ادعو الله ألاّ تخفّ الدقات لاني كنت احسّ  بما يمرّ به من  حالة التعيسة .

بعد دقات قوية قليلة ، عادت العكازة الى دقاتها الخفيفة عندما وصل به الشريط الى معاناته اليومية مع جارة ابتلى بها. لم يعرف ابداً هل كانت كنّته التي تشجعها على تصرفها ، أم انها كانت معجونة خطأً في اليوم المخصص لفصيلة المفترسين ؟ كانت تقوم يوميا بايجاد سبب لمقارعته . كانت امرأة قد فقدت حياءها تماما ، في كل اسبوع كانت تقوم ببناء سياجها الشوكي للتقدم قليلا داخل مُلك العجوز. وكلما كان يحتج العم ابو فرج ، يرى نفسه في مواجهة امرأة شريرة تقوم باهانته أمام الناس وتقذفه باقذر الكلمات . كان يلوذ بالصمت ويحاول معالجة الامر بالصبر لان التورط مع امرأة ناشفة الوجه هو السقوط في هوّة موحلة عميقة ، كان يبتعد عنها على قدر المستطاع  حرصا على مكانته وكرامته .

دخل ابو فرج الكنيسة بعكازة فقدت دويّها ، وكأنها لم تطئ الارض يوما ولم ترتكز . كان العمّ العجوز يقصد بيت الله بحثا عن الهدوء وسلام النفس . لم يكن يتلو الصلواتِ التقليدته ولا يتناول المسبحة لاحصاء ابتهالاته . حال دخوله الكنيسة كان يجلس ويغلق عينيه .كان يبدأ بصلاة عقلية يناجى فيها ربه بصمت من الاعماق البعيدة. يبقى مغمض العينين هكذا وكأنه يستخلص ما ترجمته العكازة الى ان يبلغ درجة الهدوء التام . كان في تأمله يسبر اعماق نفسه معرّجا على أبعد دهليز فيها ، الى أن يستسلم لربه بصورة كاملة .

كنتُ قد تابعته من البداية الى النهاية ، وعند خروجه توجهت اليه وسلمت عليه وطلبت منه اسمه فقال انا معروف باسم ابي فرج . كلّمته عن عكازته التي لفتت انتباهي وجعلتني اسير خلفه ، ومن خلال دقات عكازته ، اتخيل حقبات حياته واواكب خيط افكاره.  ترك الرجل العجوز عكازته في محاولة لاحتضاني ، فامسكت به كي لا يسقط ، فقبلني بحرارة وقال : انا سعيد للتعرف على شخص يهمّه أمري . اشكرك لاهتمامك بيّ لاني منذ زمن بعيد لم اصادف انسانا يسمعني ، وانت نجحتَ في معرفتي وسماع  كل  ما روته العكازة . بعد ما قصصت  له بعض ما سمعته من عكازته ، حضنني بقوة وقبلني  . عند هذا ودعته وغادرت .

انصرفتُ قبله ولكني كنت اسمع دقات عكازته ، فقلت في نفسي هل سيعيد ابو فرج الشريط من نهايته ، ولكن الدقات استمرّت بزخمها ، فاطمأننت لامره وقلت : لا بدّ ان العجوز قد نال عزاءه في صلاته العقلية . كان فعلا قد عثر على السلام الداخلي المنشود الذي يساعده على تحمّل اعباء يومه وشروره .






Matty AL Mache

ماهر سعيد متي

مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة