النظرية – 3- الإعلام وبناء النظريات الوهمية

بدء بواسطة صائب خليل, سبتمبر 11, 2012, 10:34:35 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

وبما أن "النظريات" التي يتبناها المرء (و "الإيديولوجيا" إسم آخر لها)، تلعب دوراً أساسياً في فهمه للعالم وبالتالي في قراراته، فقد اهتم بها الإعلام الحديث إهتماماً كبيراً. ولو حللت الخطوط العامة لإعلام اية مؤسسة كبيرة، لوجدتها لا تهتم كثيراً بالأحداث المتفرقة، وكثيراً ما تتكلم عن تفاصيل تبدو ضد سياستها، لكن المتابع يستطيع أن يرى بلا صعوبة، أنها تبني بعناية صورة معينة للعالم، تخدم تلك السياسة. وبعد أن يتم إنشاء تلك "البناية"، التي تمثل "النظرية" التي يرى بها المرء ألعالم أو أي جزء منه، فأن تلك النظرية تقوم بعد ذلك بخدمة من بناها مجاناً، ولزمن طويل جداً، ولا يحتاج من جهد سوى صد بعض التحديات وترميم التصدعات، التي تسببها الأحداث، في تلك النظرية.
ومع الوقت، تتثبت النظرية ببناء جانب عاطفي نفسي لها إلى جانب الجانب المنطقي، كما ترسل النظرية جذوراً وارتباطات إلى نظريات أخرى لتكوين مجموعة متكاملة، ونظرية عامة. فعندما تعتقد أن حرية السوق مفيدة للإقتصاد، فيجب أن تعتقد أن الرأسمالية هي الحل، وبالتالي يجب أن تعتقد أن آدم سميث كان الأعظم، وتميل إلى أن الخير في إتباع أميركا، وأن رونالد ريكان وكلنتون وتاتشر، شخصيات محترمة، وبما أنها شخصيات تدعم الناتو، فلا بد أن الناتو منظمة جيدة ووجودها لخير البشرية، وهكذا.

وحين تتشكل لديك عواطف إيجابية عن كل هؤلاء، سيكون صعباً نفسياً أن تقبل وجهة نظر النظريات الأخرى التي تقول بأن كلنتون كان رجل الشركات الكبرى أو أن ريكان وحش أمريكي دمر أميركا الجنوبية أو أن الناتو عصابة كبرى يرتدي أصحابها الملابس الأنيقة أو أن البنك الدولي تسبب بتدمير اقتصاد العديد من الدول، وهي ما تؤمن به النظريات المنافية وستقاوم الأدلة التي يأتي بها أصحابها،  وستفرح من كل قلبك حين تكتشف مقالة ترد على براهينهم وتريحك من الخوف من احتمال تصدع نظريتك، وستعتبرها "رائعة" و "عظيمة" و "منطقية"! ونلاحظ أننا نادراً ما أطلقنا مثل هذه الصفاة على مقالة لا تتبنى نظريتنا، بل على الأغلب إننا لم نفعل ذلك ولا مرة واحدة! فما يحطم النظرية يؤلم دائماً، وقليل من الناس من يعتبر بصدق أن الحقيقة تستحق تحمل الألم.

نشرت في نيسان 2007 مقالة بعنوان "الرنين الإعلامي: كيف يجعلونا نقبل اخباراً غير معقولة؟"، وفكرتها أن تلك "البناية" (النظرية) عن العالم، تحدث لمتبنيها ما يسميه مهندسوا الدوائر الكهربائة والصوت "الرنين"، والذي يجعل بعض الأخبار تدخل إلى العقل بسهولة وتتضخم كما تتضخم نغمة معينة دون غيرها في ثنايا آلة موسيقية. فعندما ينفخ العازف في الناي، فأنه يثير مجموعة لا حصر لها من الذبذبات الصوتية المختلطة، أي ضوضاء، ولا يستطيع بأية طريقة ان يحدد من خلال نفخته النغمة التي سيعزفها الناي. لكن واحدة فقط من تلك الموجات ستجد "الفضاء" في حجرة الناي مناسباً لطولها فتنتعش على حساب الموجات الأخرى وتسيطر عليها لتكون نغمة دو أو مي أو غيرها. وبنفس المبدأ تعمل جميع الآلات الموسيقية وكذلك حناجرنا وكل ما يصدر صوتاً يتميز عن الضوضاء.
وهكذا أيضاً تعمل "النظرية"، فتجعل تفسيراً معيناً للخبر يسيطر على الإنسان دون غيره من التفسيرات الكثيرة الممكنة. صحيح أن الإنسان ليس عبداً لنظريته كما هي النغمة لحجرة صوت الناي، لكن تأثيرهما مشابه للأخيرة بشكل مدهش.

فلو كان هناك تفجير إنتحاري في بغداد مثلاً، فهناك أكثر من تفسير له، وأكثرها شيوعاً، الأول: "إنها الطائفية الإسلامية" والثاني :" إنهم الأمريكان والموساد". فمن يتبنى نظريات تقول إحداها أن الكراهية بين الطائفتين بلغت حدوداً مجنونة، وأخرى أن الأمريكان لا يرغبون في تدمير البلد وإنما مصلحتهم في استقراره، فسيتبنى التفسير الأول، ومن يرى العكس سيتبنى التفسير الثاني، أو على الأقل سيكون كل منهما أكثر استعداداً للإقتناع بمن سيكتب بالإتجاه الذي ينسجم مع نظريته. القليل من الناس سيتعب نفسه بالبحث وقد يتحدى نظريته، لكن "النظرية" ستكسب الأكثرية إلى جانبها.

إن قوة تأثير النظرية على الشخص تأتي بشكل كبير من حقيقة أنها تعمل بدون وعيه. فالجميع يرفض التحيز عندما يكتشفه، لكن النظرية التي تعمل بصمت، قلما تواجه ذلك الإعتراض، وإن وجدت فسوف يكفي أي "دعم" بسيط تقدمه أية حجج واهية للتغلب على اعتراض المنطق.

في إحدى المناقشات حول تفسير حادثة 11 سبتمبر، ومن يصدق التفسير الرسمي الأمريكي ومن لا يفعل، قال أحد المعلقين الهولنديين: "لو كانت الحادثة قد حدثت في الصين، وأرادت حكومتها إقناعنا بما يحاول الأمريكان إقناعنا به الآن، هل كنا سنقبل بتفسيرهم بلا أدلة، ونتجاوز كل الأدلة المعاكسة المطروحة؟".
ما قاله هذا المواطن كان يكشف تأثير النظرية السائدة عن أميركا في تلك اللحظة، (وقد تغيرت كثيراً) وبأنها (أميركا) مصدر خير وديمقراطية وحررت بلادهم من الألمان وقدمت مساعدات مارشال، الخ. وبالتالي لا يناسب ذلك البناء أن تكون في أميركا حكومة إرهابية لديها الإستعداد لمثل هذا العمل الدنيء في داخل بلادها نفسها. أما الصين، فلا تحميها مثل تلك النظرية، وسيسطر المنطق عند مناقشة تصديق قصتها، ولذا سنطالبها بالبراهين، كما يفترض.
لكننا، وتحت تأثير النظرية، لا نفعل. كتب محمد حسنين هيكل في الغارديان: "عندما أسمع بوش يتحدث عن القاعدة وكأنها المانيا النازية او الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي ، اضحك لاني اعرف ماذا هناك. بن لادن كان تحت المراقبة لسنوات: كل مكالمة تلفونية كانت تحت الرقابة، والقاعدة قد تم اختراقها من المخابرات الامريكية والباكستانية والسعودية والمصرية. فليس بوسع القاعدة الاحتفاظ بسر عملية كهذه التي تحتاج درجة عالية من التنظيم ومن التعقيد."

عندما يستحيل إقناع الضحايا بما يراد إقناعهم به، فإن بناء نظرية تساعد الضحايا على تصديق غير المعقول وقبول المرفوض من التهويل، هي أحدى أهم المهمات التي يسعى الإعلام لتحقيقها. ومن التهويلات الأكثر وضوحاً بالنسبة لي في المنطقة هو التهويل بخطر إيران وعدائيتها للعرب وكذلك عدائية الشيعة للسنة والسعي للقضاء عليهم من خلال تشييعهم، والعكس، بأن السنة، أو جماعة منهم، يبغون "القضاء على نسل رسول الله". ومثلما قال أحد السنة اللبنانيين في التلفزيون: "أعيش مع الشيعة منذ 30 عاماً ولم يطلب مني أحد أن اصير شيعياً"! وقال: "بدلاً من تشييعنا، يمكنهم أن يستولدوا نسلاً أكثر، فذلك أسهل"! كذلك فأن أحداً من الشيعة لم يجد في بيت أصحابه من السنة ما يشير إلى تلك الخطة للقضاء على نسل الرسول، ولكن الكثير من الطرفين يصدقون ما أريد لهم أن يصدقوا، وهو إنجاز إعلامي ليس سهلاً.

وفي القضية السورية كانت هناك أيضاً خرافات يجب تمريرها وبالتالي بناء النظريات الإعلامية التي تساندها. ونكتفي بالإشارة إلى المقولة بأن "بقاء الأسد في صالح إسرائيل". وفكرتها: مادام من المستحيل تبرئة أو التخفيف من جرائم إسرائيل، فخير طريقة هي إلصاق الخصوم بها. ومن الطبيعي أن الإعتراض الواضح هو: كيف يمكن أن يكون في صالح إسرائيل بقاء آخر نظام عربي، على الأقل محادد لإسرائيل، مازال يرفض التطبيع ويتجرأ على دعم حزب الله؟ ويسأل أحد الكتاب الأمريكان أيضاً: "إذا كان بقاء نظام الأسد في صالح إسرائيل، فلماذا يدعوا جميع مناصري إسرائيل في الولايات المتحدة وبحماس شديد، إلى التدخل في سوريا لضرب الأسد؟ لكن الإعلام المشغول ببناء نظريته لن يرد على مثل تلك الأسئلة.

ولم تكن شيطنة إيران وجعل الكثيرين يعتقدون بإنها الخطر الأكبر عليهم، مهمة سهلة هي الأخرى. وقد خصصت مقالة عن بناء الإعلام لنظرية "التدخل الإيراني" في العراق وتهويله وكشفت الكم الهائل من الكذب حول الموضوع، ولدي ما يكفي لعدة مقالات أخرى. وتنكشف الحقائق أحياناً في نظام إعلام حر نسبياً في الولايات المتحدة، فتكتب نيوزويك على غلاف عددها الصادر في 1 حزيران 2009 بحروف كبيرة: "كل ما تعرف عن إيران ليس صحيحاً!". لم تكن مهمة شيطنة إيران سهلة، لكنها إنجزت رغم التاريخ الذي يقول أنها لم تعتد عل أحد منذ 150 عاماً على الأقل، وتم الإعتداء عليها أكثر من مرة. وندرك أكثر قوة الإعلام المخيفة في حرف العقل عن منطقه عندما نقارن ذلك في الجانب المقابل فنجد أميركا التي يكتب عنها أحد أكبر مثقفيها أنها تاريخ من الغزو منذ 501 عام، (عدد السنين منذ اكتشاف أميركا وحتى تاريخ صدور كتابه)، وإسرائيل التي ما تزال تحتل وتستوطن وتعتدي وترتكب مجزرة كبرى كل بضعة سنين، وبدعم مستمر وصريح من أميركا، ونتذكر أيضاً أن الدولتان خلقتا من خلال عدوان تدميري على السكان الأصليين للأرض التي أقيمت الدولتان عليها. هذا كله إضافة إلى حقيقة أخرى هي أن عدوان هاتين الدولتين موجه بشكل كبير إلى الدول العربية نفسها، وهو ما ينتج في الحالة الطبيعية السليمة، شعوراً بالعدائية والتحيز المضاد، لكننا نجد أن الإعلام تمكن تحييد هذا التحيز بل ومن قلبه لدى قطاع واسع من الناس، ليبني محله تحيزاً إيجابياً مؤسس على مخاوف وهمية لا دليل عليها.

لقد كان "الخوف" دائماً سلاح خطير الأهمية في بناء الإعلام لـ "النظريات" الوهمية. ويطلب منا الإعلام الأمريكي اليوم أن نصدق بأن "النظام السوري" يشكل خطراً على المنطقة، وليس إسرائيل التي تحتل منه ومن غيره المزيد من الأرض، مثلما حاول شيطنة إيران ومثلما حاول جعل العالم يصدق أن فنزويلا "تشكل خطراً إقليمياً" عندما كان شافيز يؤسس لإتفاقيات تجارية لدول المنطقة بعيداً عن الهيمنة الأمريكية. ويصل الأمر حدوداً مثيرة للضحك أحياناً. فعندما أراد الرئيس الأمريكي جون كندي إقناع وزير خارجية المكسيك بالتعاون بوجه الخطر الكوبي، قال له الوزير: "أكون سعيداً لو استطعت تلبية طلبك، لكننا إن قلنا للمكسيكيين أن كوبا تشكل خطراً عليهم، لمات 50 مليون مكسيكي من الضحك".

يجب عدم الإكتفاء بالضحك مما يثير "الضحك" في السياسة عادةً، فهو ينبهنا لوجود "نظرية" إعلامية تتآمر على عقلنا وتحاول إقناعنا بشيء غير صحيح بالرغم من المنطق.

في الحلقة القادمة سنتطرق إلى الدفاع عن "النظرية" و الهجوم على النظريات الأخرى بأدوات مثل "نظرية المؤامرة"، وكذلك تاريخ بناء الإعلام الأمريكي لنظرية للشعب الأمريكي ونقاط أخرى.

الحلقتان السابقتان:
1-  النظرية 1- فكرة لا فائدة عملية لها؟
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=66944
2- النظرية 2- التطبيق وفكرة "الحيود الخاص"
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=67090