بيئتنا بين حرية الكاوبوي ومسؤولية رجل الفضاء

بدء بواسطة صائب خليل, يونيو 05, 2012, 09:54:32 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

بيئتنا بين حرية الكاوبوي ومسؤولية رجل الفضاء



جاءني هذا الصباح مقال الصحفي الرائع أمين يونس، بعنوان "يوم البيئة : من أجلِ حفنةٍ من الدولارات"، ليذكرني بهذا "العيد" المنسي. و"أمين" لا ينسى محبوبته، رغم كل الغليان السياسي في البلاد.
إستعارة "أمين" الذكية لعنوان فلم الكاوبوي المشهور، تشير إلى التدمير الحاصل للبيئة في كردستان وعموم العراق "من أجل حفنة من الدولارات"، تستحصلها الحكومة فتستورد السيارات بلا حدود بنتائجها الملوثة. عنوان المقالة الذي يرن في ذاكرتنا يدفعنا لمراجعة أبعد من ذلك. نتساءل: ما هو الأثر الذي يلعبه النظام الإقتصادي الذي يتبعه بلد ما، على البيئة فيه؟ وما هو أثر النظام الإقتصادي العالمي على البيئة في العالم؟ النظام الإقتصادي الأكثر انتشاراً في العالم اليوم، هو النظام الليبرالي، نظام حرية السوق، حتى أنه يحق لنا أن نطلق عليه "النظام الإقتصادي العالمي"، فما هو أثره وأثر مبادئ حرية السوق على البيئة؟

لن ندخل في تفاصيل إقتصادية وأيديولوجية ، بل سنشير فقط إلى أن المبدأ الأساسي فيه هو إتاحة الفرصة  للشركات للربح الأقصى، ومن نتائج ذلك بالنسبة للشركات إتباع مبدأ "الإستحواذ على المردود، وإلقاء التكاليف على الآخرين" قدر الإمكان، وهو مبدأ رأسمالي معروف تتخصص الشركات في التفنن في تطبيقه "كما يتخصص سمك القرش في القتل، على حد تعبير أحد الكتاب الإقتصاديين الرأسماليين. ومن ضمن أهم هؤلاء "الآخرين" من حمالي التكاليف : البيئة !
فكلفة إنتاج سلعة ما، تتضمن كلفة إزالة ما تسببه من تلوث للبيئة، لكن الشركات كثرما تنجح في التملص من دفع تلك الكلفة لتحسب ضمن أرباحها، وتترك ملوثاتها تتجمع في البيئة.
هذه هي العلاقة المحورية بين البيئة والنظام الإقتصادي الليبرالي، ومن خلالها يمكننا أن نتوقع نتائج ذلك النظام على البيئة، ويمكننا أن نلاحظ أن مدى إساءة البلد إلى البيئة العالمية تعتمد بشكل عام على مدى تطور ليبرالية الإقتصاد فيه، ولكن مدى تطور الوعي في البلد ومكانة القانون فيه، لها أثر أيضاً بالطبع.

لقد نجح الناس في معظم البلدان بوضع القوانين اللازمة للحد من التلوث وإلزام الشركات بتنظيف ما تلوثه من البيئة. وتحارب الشركات هذا الإتجاه بشكل علني وخلف الكواليس، وتنجح في الضغط على الحكومات لإزالة تلك القوانين أو تجاهلها. وعلى قدر تطور الوعي البيئي في البلاد، وعلى قدر قوة "اليسار" فيها تواجه هذه الشركات صعوبات في التملص من تلك القوانين. ولأن وضع قوانين الصناعة الخاصة بالبيئة يسمى "regulation"، فقد سميت عملية "إلغاء قوانين البيئة" بـ "Deregulation" أو "تحرير الإقتصاد من الضوابط"، وهي عملية علنية تمارس في وضح النهار وليس خلف الكواليس كما يتوقع لمثل هذه المساعي التي تكون نتيجتها الحتمية، تدمير البيئة. بل أصبحت هذه العبارة جزءاً أساسياً من مبادئ "حرية السوق"، وعلامة من علامات قياس رضا البنك الدولي عن مسيرة إقتصاد البلد نحو الخصخصة وبناء "بيئة الإستثمار".

وتستعمل الشركات في حربها ضد قوانين حماية البيئة في أي بلد، سلاحين أساسيين: أولاً الضغط المباشر على الحكومات، من خلال اللوبي أو الرشاوي وغيرها، وثانياً التهديد بنقل أعمال الشركات إلى دولة أخرى "متحررة" من قوانين حماية البيئة. فالفساد هنا جزء من بيئة الإستثمار، فكلما كان الفساد مسيطراً سهلت الرشاوي وسهل التخلص من القوانين.

الدول المتخلفة عموماً، متخلفة في الوعي ونظام القوانين وأيضاً في حماية البيئة، ولذلك فهي لا تمتلك أساساً الكثير من تلك القوانين "المزعجة" للشركات. وتعتبر هذه النقطة من أهم نقاط تشجيع الإستثمار في البلاد. فكلما سمحت للإستثمار بأن يلوث بحرية أكبر، كان أكثر سعادة في بلادك. فـ "بيئة الإستثمار" المناسبة تتعارض في هذه النقطة بأشد الصور مع "بيئة الإنسان"، بل مع "بيئة الحياة" كلها، وعلى كل بلد أن يختار أن يجعل من بيئته "بيئة للإنسان" أم "بيئة للإستثمار"، وإلى أي مدى، وأين يضع نقطة "التوازن" بينهما. ويقرر ذلك إلى حد بعيد، مقدار الـ "Deregulation" الذي يسمح به البلد، من أجل تشجيع الإستثمار فيه. أن البلد الذي لا يفرض على شركات صناعة السيارات استعمال فلتر إضافي لتنقية العادم مثلاً، أو دفع تكاليف التخلص من النفايات، سيوفر الكلفة عن الشركات ويشجعها على القدوم إليه...ولكن ليس بلا ثمن على البيئة!

عنوان مقالة الأستاذ أمين لها تداعيات أخرى عندي. فهو يذكرني بكتاب "عندما تحكم الشركات العالم" لـ ديفيد كورتن، وهو إقتصادي رأسمالي متحمس للرأسمالية، لكنه يرى مسارها الخطر المبتعد عن مبادئ رأسمالية آدم سميث، وخصوصاً في مبدأ "دفع ثمن التلوث". فالكاتب يشير إلى مثال "الكاوبوي ورائد الفضاء". فالكاوبوي يعيش منفرداً في مساحة شاسعة من الأرض، ولذا يمكنه ان يتصرف بكل حرية فيصيد ما يصيد ويحرق الأغصان للتدفئة في البراري، ويشرب ويبصق ويترك بقايا طعامه دون أن يسبب أي تلوث محسوس لبيئته "المفتوحة".
في الجهة المعاكسة، هناك رجل الفضاء المحصور في كبسولة صغيرة، وموارد محدودة جداً، وعليه أن يحسب حساباً لنتيجة كل عمل يقوم به على "بيئته" الصغيرة تلك، وإلا كانت نهايته قريبة.
ما يحدث هو أن عالمنا، وبفضل التكنولوجيا، تقلص من العالم الفسيح "المفتوح" لرجل الكاوبوي ، واتجه نحو عالم الكبسولة "المغلق"، لكننا ما نزال نتعامل معه وكأنه مازال مفتوحاً وشاسعاً. ولذلك فعلينا أنتظار كارثة رجل الكاوبوي حين يوضع في كبسولة فضائية، فيستمر في ما اعتاد عليه من حرية في التصرف.

لنأخذ مثالاً واقعياً. نيجيريا كانت من أجمل بلدان أفريقيا، لكنها كانت متخلفة في كل شيء، ومن ضمن ذلك طبعاً الوعي البيئي للناس. وحين اكتشف النفط، وجدت شركاته الكبرى في نيجيريا "جنة إستثمارية"، فلا قوانين عمال ولا قوانين بيئة، وبعد سنوات تحولت البلاد إلى مزبلة قذرة لمخلفات النفط السامة في أرضها وسمائها وأنهارها. وتحتاج نيجيريا اليوم إلى ثلاثين عاماً من العمل ومليارات الدولارات، من أجل تنظيف بيئتها. وأغلب الظن أن هذه الثلاثين عاماً ستدوم إلى الأبد، وأن أحداً لن يدفع تلك المليارات. وهكذا لم يحصل الشعب النيجيري من نفطه، سوى على التلوث! (1)




احتلت بغداد للأسف المرتبة الرابعة لأشد المدن تلوثاً في العالم في العام الماضي(2) متفوقة في تلوثها عن "لاغوس" في نيجيريا. ونذكر هنا بشكل عابر التلوثات "الخاصة" التي "أنعمت" بها فترة الحصار على العراق، ويتحملها النظام السابق و"المجتمع الدولي"، والذي اختتمها بنعمته الجديدة، اليورانيوم المنضب، الذي لا نعرف مدى ما سيكون أذاه على أجيال هذا البلد.(3)

وبعيداً عن العراق، فأن التلوث يغلف الأرض تدريجياً. ولقد سمعنا بالتسربات النفطية الضخمة في المساحات المائية في أميركا وفي كل مكان. وتنتشر في المحيط الأطلسي مساحة هائلة من الأزبال الطافية (فيديو) (4) من البلاستك وغيره، تقدر بحجم مساحة ولاية تكساس وهي مستمرة في الإتساع.

هديتنا للبيئة

من حق المرء أن يتساءل: وما الذي يستطيعه هو لإنقاذ "البيئة" أو لمساعدتها على الصمود على الأقل لعل الإنسانية تكسب الوقت اللازم لتعي الخطر وتنقذ نفسها من الإختناق في كبسولتها قبل فوات الأوان؟
نحن بحاجة إلى الوعي بالخطر أولاً، للضغط على الحكومات لمراعاة "بيئة الحياة" قبل مراعاتهم لـ "بيئة الإستثمار" – "من أجل حفنة دولارات"! اليسار وأحزاب الخضر بشكل خاص، في أوروبا تنشر ذلك الوعي، لكن صديقي "أمين" لم يتمكن من تأسيس حزب للخضر في كردستان، بسبب قلة الوعي نفسه في البلاد، فهي قصة البيضة والدجاجة. لكن تنمية الوعي تدريجياً ستحطم هذه الدائرة المغلقة.

وهنا نجد مجموعة من الشباب تحاول محاولة جميلة تستحق الثناء، من خلال تكوين تجمع من أجل "خسارة السباق" (نحو جائزة الأوسخ) بالنسبة لبغداد.(5)

لكن دعوني أيضاً أقدم لكم مقترحاً عملياً يمكن لكل منا أن ينفذه شخصياً، لنفسه وعائلته وربما ينشره بين معارفه، وربما يعلم به الكثير منكم ويفيد بتوفير الغاز أو النفط المستعمل في الطهي.

عندما نضع الطعام على النار، ترتفع درجة حرارته تدريجياً، وتقوم الحرارة بعملية الطهو. وكلما كانت الحرارة أعلى إزدادت سرعة الطهو. لكن حرارة الماء لا تستمر بالإرتفاع بلا حدود، فهي كما نعلم تتوقف عند الغليان (عند درجة 100 مئوية). وهو المبدأ الذي تصنع قدور الضغط على أساسه، فهي تمنع الغليان بزيادة الضغط، فيستمر ارتفاع درجة الحرارة أكثر ويطبخ الطعام اسرع. لكن عندما لا نستعمل قدر الضغط، فأن الطاقة بعد الغليان تضيع في تبخير المياه فقط دون أن ترفع الحرارة أو تسهم بالطهي!

لذلك يتوجب خفض كمية الغاز إلى الحد الأدنى، فور بدء الغليان، وربما أن نحول القدر إلى فتحة الطباخ الأصغر أيضاً. فالكمية الصغيرة من الغاز، كافية لإدامة درجة الحرارة القصوى في الطعام المغطى، وبالتالي طهيه بنفس السرعة، أكرر – نفس السرعة -  وبكمية أقل كثيراً من الغاز، فنوفر ما يهدر منه لتبخير المياه، ونوفر المال ونقدم هدية متواضعة للبيئة في عيدها.

قبل ان أكتب هذه السطور استشرت من هم أعلم مني بالطبخ، إن كانوا يفعلون ذلك وبشكل ثابت، فحصلت على أجوبة غامضة بعض الشيء، وأفكار غير دقيقة، حتى من خريجي الكليات العلمية، فهم يعرفون ويعترفون علمياً بأن ارتفاع الحرارة يتوقف عند درجة الغليان، لكن يبدو أن هذه الحقيقة واستنتاجاتها غير واضحة بالنسبة للغالبية، فهم يتصورون أن الطبخ قد يكون أسرع في الغليان الأقوى، وهذه فكرة خاطئة تماماً!

لذا أتمنى أن نتذكر هذه الفكرة في المرة القادمة التي نطهو فيها الطعام، أو إبلاغها لمن يتولى الطهي في البيت، وتوصيلها لأكبر عدد ممكن من الأقارب والمعارف، شفوياً وبالإيميل، لفائدة جيوبنا وبيئتنا العزيزة. وللبيئة سر غريب، هو أن ثروتك لا تنقص حينما تقدم لها هدية، بل تزداد!

http://www.facebook.com/saiebkhalil


(1) http://www.afripol.org/afripol/item/428-shell-biggest-oil-spill-in-nigeria.html
(2) http://www.tiptoptens.com/2011/04/12/top-10-most-polluted-cities-in-the-world
(3)  http://iraq-nadhef.blogspot.be
(4) Great Pacific Garbage Patch
Real Great Pacific Garbage Patch
(5) http://www.facebook.com/volunteers11


ماهر سعيد متي

فكلفة إنتاج سلعة ما، تتضمن كلفة إزالة ما تسببه من تلوث للبيئة،
مقال رائع ومعلومات قيمة بحق .. لا تزال الثقافة البيئية هي في آخر المطاف لدى العراقيين .. شكرا لك.. تحياتي
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة