عيد بشارة العذراء مريم ـ بقلم قداسة سيدنا البطريرك المعظم مار إغناطيوس زكا الأول

بدء بواسطة برطلي دوت نت, مارس 25, 2012, 09:01:41 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

عيد بشارة العذراء مريم ـ بقلم قداسة سيدنا البطريرك المعظم مار إغناطيوس زكا الأول عيواص الكلي الطوبى



القراءات:
رسالة مار بولس الرسول إلى أهل غلاطية (3: 15ـ 22).
الإنجيل المقدس بحسب البشير لوقا (1: 26ـ 38).

«فدخل إليها الملاك وقال: السلام لك أيتها الممتلئة نعمة. الرب معك مباركة أنت في النساء... لا تخافي يا مريم لأنك وجدت نعمة عند اللّه وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء»(لو 1: 28 ـ 33).

ما أبهج الفجر وهو ينبلج نوراً وضياء بعد ليلة ليلى شديدة الظلمة. «ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام، المبشر بالخير، المخبر بالخلاص»(اش 52: 7). ما أروع منظر الملاك جبرائيل وهو داخل إلى البيت البسيط الذي كانت تقطنه العذراء مريم في مدينة الناصرة، ليبشرها بالحبل الإلهي.

أجل كانت السماء قد تلبّدت بغيوم الغضب الداكنة، وكانت الأرض مضطربة على أثر اللعنة التي أصابتها منذ سقوط الإنسان بالخطية، وتورطه بالتمرد على اللّه تعالى. وكان الإنسان يشقى في أرضه بعد أن طرد من فردوسه، ويتعزى بالوعود الإلهية بالعودة إلى وطنه السماوي.

ومرت الدهور اثر الدهور، والإنسان بعيد عن خالقه. لأن البر والاثم لا يجتمعان، والقداسة والخطية لا تنسجمان، وبهذا الصدد يقول النبي أشعيا لبني البشر: «آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع» (اش 59: 2). ويقول الرسول بولس: «إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله»(رو 3: 23) ومع كل ذلك لم يخل جيل من أجيال البشر من أناس عبدوا اللّه وسعوا لعمل الصلاح لإرضاء اللّه فاختارهم اللّه لتبليغ إرادته الإلهية ونواميسه السامية لبني البشر. لأن اللّه رحيم كما انه عادل، ورحمة اللّه كانت الوازع لا نزال الوحي والإلهام على المختارين من الآباء والأنبياء. فأوصلوا بدورهم الوعود الإلهية لإخوتهم البشر، فكان الرجاء بخلاص الإنسان سبب عزاء للأتقياء الذين عاشوا مع الله، وهم ينتظرون مجيء المخلص، مشتهى الأمم ورجاء الأجيال. وعاش أولئك الأولياء من الآباء وماتوا على رجاء الخلاص... ومهما كانت حياة بعضهم طويلة ومديدة لم يتمكنوا من الجمع بين زمن السقوط بالخطية وزمن مجيء المخلص لانقاذهم منها، وبهذا الصدد يقول عنهم الرسول بولس:« في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدّّقوها، وحيوها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض» (عب 11: 13).

بدت المواعيد الإلهية عبر الدهور كالنجوم الساطعة في سماء الإنسان المملوءة بالسحب الداكنة، وأخذها الخلف عن السلف، وهو يرددها بروح الرجاء والإيمان، وينتظر المخلص. ففي البدء،وعلى أثر تمرغ الإنسان بخطية الكبرياء والتمرد على الله، قال تعالى للحية إبليس «ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية على بطنك تسعين وتراباً تأكلين كل أيام حياتك. وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها هو يسحق رأسك وأنتِِ تسحقين عقبه»(تك 3: 14 و15). ويوضح النبي أشعيا الذي استشهد سنة 696قبل الميلاد، أن تلك المرأة هي عذراء، إذ قال «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(اش 7: 14).

واشترك الملائكة بإعلان هذه المواعيد، وعين اللّه تعالى جبرائيل أحد رؤساء الملائكة ومعنى اسمه «جبار اللّه» وهو الواقف قدام اللّه (لو 1: 19) قد عينه اللّه ليكون ملاك سر التجسد الإلهي. أي ملاك العهد الجديد، عهد الخلاص، والنعمة، والرحمة. فقد أرسله اللّه قبل الميلاد بخمسة قرون إلى رجل اللّه البار، النبي دانيال، في أرض بابل حيث كان مسبياً مع شعب العهد القديم وهو يواصل الصلاة إلى اللّه لأجل عودة الشعب إلى دياره، ويدرس النبوات السابقة ويتوق إلى أن يرى إتمامها، فاستجاب الرب الإله صلاته، وأرسل إليه جبرائيل الملاك الذي أعلن له نبوة الأسابيع السبعين، محدداً بها زمن مجيء ماشيحا المسيح المنتظر «قدوس القديسين».

ولما أوشكت الأسابيع السبعون على الانتهاء أُرسل جبرائيل أيضاً من السماء إلى هيكل الرب فوقف عن يمين مذبح البخور مبشراً زكريا الكاهن العجوز بميلاد يوحنا الذي يقوم برسالة تمهيد السبيل لمجيء المسيح المنتظر وليبشر الناس بقدومه. وفي الشهر السادس من تاريخ الحدث العجيب بلغ ملء الزمان، فوقف جبرائيل قدام العذراء مريم، وهي تصلي في بيت بسيط كانت تقطنه في الناصرة، فحياها بإكرام لائق، قائلاً لها: «سلام لك أيتها الممتلئة نعمة الرب معك، مباركة أنت في النساء، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية، فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند اللّه وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع.هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية» (لو 1: 28 ـ 33).

أجل لم يرسل جبرائيل الملاك في هذه المرة إلى عاصمة عظيمة شهيرة من عواصم الإمبراطورية الرومانية، ولا حتى إلى المدينة المقدسة، بل أرسل إلى مدينة الناصرة الصغيرة التي قيل عنها بعدئذ: «أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح» (يو 1: 46) ولم يرسل الملاك جبرائيل في هذه المرة إلى هيكل الرب، بل إلى بيت بسيط متواضع، حولته العذراء مريم إلى قدس أقداس للرب إذ جعلته نظيفاً، أنيقاً، مرتباً، تفوح منه رائحة الفضيلة، وتعبق في جوانبه نسمات الصلاة النقية التي كانت العذراء مريم ترفعها إلى عرش اللّه بالسماء في أوقاتها الثلاثة يومياً مكملةً بذلك الفريضة المقدسة التي كان يقوم بها كل تقي وتقية من شعب العهد القديم. ويقول آباؤنا الميامين إن العذراء كانت حين بشرها الملاك بالحبل الإلهي، منفردة جاثية تصلي بحرارة ليقرب الرب موعد ارسال المخلص الذي بشر به الأنبياء عبر الدهور وتاقت إلى قدومه الشعوب والأجيال. فالعذراء مريم بالإضافة إلى قيامها بفريضتي الصوم والصلاة، كانت وهي ربيبة الهيكل تقرأ أسفار الشريعة والنبوات متأملة بذلك بتدقيق لتعمل بمشيئة الرب، وتطبق نواميسه الإلهية وأحكامه السامية. وهي ككل فتاة في شعب النظام القديم كانت تتوق من أعمق أعماق قلبها إلى أن يولد منها المسيح المخلص.

هذه الفتاة النقية الطاهرة والعفيفة القديسة مريم اختارها اللّه والدة لابنه الوحيد في سر تجسده الإلهي.

نعم لو خُيِّر الناس بانتقاء أمهاتهم لاختاروا بنات الملوك والعظماء والنبلاء والأغنياء، مهما كانت سيرتهن وسريرتهن، أما مقياس السمو لدى السماء فهو التمسك بشريعة اللّه والعمل بأحكامه بلا لوم، ولذلك اختار الرب هذه العذراء الطاهرة التي كانت تسير مع الرب، متمسكة بشرائعه، عاملة بوصاياه وأحكامه، فاختارها الله أماً لابنه الوحيد الحبيب. وعلى الرغم من فقرها المدقع، ومسكنتها، ويتمها، وجهل الناس بها وإياها، فقد كانت محاطة بالعناية الربانية، وكانت عين اللّه ترعاها، والله فاحص القلوب والكلى يعرفها حق المعرفة فهي في عينه تعالى صفوة الخليقة، وقد اختارها منذ البدء، وأوحى إلى أنبيائه فذكروها بنبواتهم، فهي من ذرية داود (لو 2: 4) وكذلك خطيبها يوسف البار(مت 1: 20) وهي المرأة التي نسلها (المسيح) يسحق رأس الحية، وهي العذراء التي تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره اللّه معنا(مت 1: 23) فهي والدة الإله.

والسؤال الذي يطرح ذاته في هذا الموقف هو هل أن العذراء مريم ابنة الثلاث عشرة سنة أدركت فحوى بشارة الملاك لها؟! والجواب هو أن اللّه الذي اختارها هو الذي قوّاها ووهبها حكمة ونعمة وإيماناً متيناً ثخيناً فقبلت الحقائق الإيمانية وسلمت بها تسليماً ولكي تعرف كيف تتصرف مع هذا الأمر العجيب سألت الملاك بإيمان قائلة: كيف يكون هذا وأنا لم أعرف رجلاً؟ فشرح لها الملاك سر التجسد الإلهي الذي إنما تم بصورة تفوق الطبيعة واعتبر أعجوبة الأعاجيب والذي وصفه الرسول بولس بعدئذ بقوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى اللّه ظهر في الجسد»(1تي 3: 16) وفي هذا الصدد أجاب الملاك العذراء مريم قائلاً: «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله»(لو 1: 34 ـ 36) فأجابت مريم الملاك قائلة «هوذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك»(لو 1: 38) وبهذا سلمت مريم إرادتها بيد الله، وهذا هو الإيمان بل هذه هي الحكمة الحقيقية السامية أن يسلم الإنسان إرادته بيد الله. ليقول للرب صادقاً «لتكن مشيئتك» وحالما فاهت العذراء بعبارة: «فليكن لي كقولك» حل عليها الروح القدس فطهرها، ونقاها وقدسها. كما حل نار اللاهوت في أحشائها، وجبل ابن اللّه له جسداً كاملاً من جسدها اتحد به اتحاداً أقنومياً طبيعياً، فولدته العذراء مريم وهي عذراء قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة، واستحقت أن تدعى والدة الإله لأنها ولدت الإله المتجسد وكانت ولادته عجيبة كما كان الحبل به عجيباً فريداً. فكما ظهرت العوسجة للنبي موسى وهي تلتهب بالنار، ولكنها لم تحترق، كذلك أنار نار اللاهوت العذراء مريم ولم يحرقها.

وهكذا بدأ سر التجسد الإلهي، إذ حبل بيسوع في العذراء من الروح القدس، فالمولود من مريم كما وصفه الملاك «عظيم، وقدوس، وإبن العلي». وسماه الملاك «يسوع» لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. فهو الفادي الذي أرسله الآب السماوي، فوفّق بسري التجسد بين عدل اللّه ورحمته. ومثل الإله والإنسان في آن واحد وفدى البشرية بدمه الكريم وأبرم بذلك الصلح بين السماء والأرض وبرر اللّه الإنسان وقدسه وأهله ليكون ابناً له تعالى بالنعمة.

لا غرو من أن للعذراء مريم في عمل الخلاص دوراً مهماً، فهي والدة المخلص ومربيته، وقد صارت لنا وللعالم أجمع مثالاً يحتذى بالطهر والنقاء والتمسك بشريعة اللّه وأحكامه وفرائضه من صوم وصلاة. ففي هذا اليوم وفي كل يوم نطوبها ونتشفع بها. ونقتدي بالملاك جبرائيل وباليصابات وبعض القديسين مقتبسين منهم العبارات المقدسة لنحييها بحسب طقسنا السرياني في ختام صلواتنا صباح مساء وفي كل صلاة قائلين: السلام عليك يا مريم العذراء الممتلئة نعمة، الرب معك مباركة أنت في النساء، ومبارك ثمرة بطنك يسوع: «يا مريم القديسة يا والدة اللّه صلي من أجلنا نحن الخطاة الآن وفي ساعة موتنا آمين».