حياة شارع: شارع السعدون عِقدٌ من السحر يزيّن جِيد بغداد

بدء بواسطة baretly.net, أكتوبر 25, 2011, 10:44:14 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

baretly.net

25-10-2011 | (صوت العراق)
المدى العراقية


(1-2)
بغداد/ يوسف المحمداوي
تصوير/ أدهم يوسف
للمدن علاقة بشوارعها وكأنها شواردها التي تبوح بأسرار كينونتها منذ شهقتها الأولى لأوكسجين الصيرورة. وبغدادنا التي تلتحف السواد مرغمة لطالما خطت لنا شوارعها مواجعها التي لا تنتهي.

ما أن تتذكر بغداد حتى يستعيد الذهن صوراً عن رشيدها وسعدونها وأبي نؤاسها تلك الشوارع التي كتب على حيطان أبنيتها تأريخ طويل من الفرح والحزن اللذين امتزجا ليكونا لوحة الحياة.

بستان الخس الذي تحول إلى ساحة
السعدون الذي تحول من بساتين ومزارع الى شوارع وأحياء بدأ الحياة في ثلاثينيات القرن الماضي، وكانت بداياته متعثرة كأي مارد في عالم الشوارع، حيث كان بستان الخس الذي يقول عنه السيد هادي ابو حسن انه ساحة النصر الحالية، وكذلك بستان (مامو) فضلا عن مزارع صغيرة اخرى تعد الرابط ما بين البتاوين باتجاه أبو نؤاس، ثم يصبح كسور اخضر يحيط بالقصر الأبيض الذي هو محل إقامة الملك آنذاك، وفي بداية تكوين الشارع وتطوره مع ثلاثينيات القرن وحتى اربعينياته كانت وسيلة النقل الوحيدة هي العربة التي يجرها الحصان وما تعرف بـ"الربل" كما يقول صاحب محل لبيع المواد الغذائية.
واستمر العمل بها حتى بعد دخول مصلحة نقل الركاب الانكليزية الحمراء ذات الطابق الأول او الطابقين، لكنها غادرتنا وللأسف في ثمانينيات القرن الماضي شانها شأن الفرح الذي رحل بقوافله منا للأبد، ويضيف ابو حسن إن طول شارع السعدون يبلغ 3.5 كم حيث بدايته من ساحة التحرير وحتى نهايته بساحة الفتح في الكرادة الشرقية، وكانت الأحياء التي يخترقها الشارع من أرقى مناطق بغداد ولا يسكنها إلا الأثرياء وميسرو الحال فتجد المسلم واليهودي والمسيحي والعربي والكردي، بل أن هناك مقاهي سميت بأسماء الطبقات الميسورة مثلا عمارة النصر كان فيها مقهى التجار اما عمارة النجوم ففيها كازينو حجي زناد التي ترتادها الشخصيات السياسية والمتنفذة، وكذلك كازينو اليهود في عمارة نور التي هي لصيقة عمارة النصر.. وهذه بأغلبها كانت موجودة حتى منتصف ستينيات القرن الماضي.

جاذبية المكان وذهول المتلقي
للسعدون نكهة خاصة قد لا نجدها في الشوارع الاخرى، وما يميز هذه النكهة، صعوبة الحكم لتمييز الشارع في حالة ما عن أخرى، فإذا ما قلت انه شارع الأطباء والصيادلة، ستبدي المطاعم اعتراضها مستعرضة عافية وطيبة مأكولاتها، وإذا ما مدحت فنادقه إجابتك شركات السفر معترضة على ذلك. وإذا ما ذكرت مسارحها بخير احتجت عليك صالات السينما فيه.
ولو فضلت الجلوس والتلذذ بشاي مقاهيه، قالت لك مكتباته "وخير جليس في الزمان كتاب"، جوامعه وباراته، حلوياته كل شيء فيه منفرد بمملكة خاصة من التنوع وكأن هناك تسابقا في الشارع لجعله ملكاً لفئة معينة ولكن السعدون بقي ملك الجميع.
بالطبع حديثي يروي السعدون قديماً وليس الآن.
الآن جرح معاناته يعادل طول الشارع بآلاف المرات.

دودنرمة وحلويات للعشاق
حين تدخل الشارع من الجهة اليمنى من نفق التحرير الذي كان سبباً في هجرة تمثال عبد المحسن السعدون من هناك، صوب ساحة النصر بعد أن تم العمل فيه عام 1972.. ستجد مكتباته الأصغر سناً من أكبرهن مكتبة (المثنى) التي تلتف من عمارة مرجان باتجاه السعدون وهي امتداد للمكتبة نفسها في شارع المتنبي والتي أسسها قاسم محمد الرجب عام 1936.
فنجد مكتبة التحرير والنهضة والشروق ومكتبة المدى التي كانت ولادتها مع موت الطاغية.
يقول احد موظفي مكتبة المدى السيد داود محمد أمين إن العمارة هذه تسمى عمارة فاطمة، وقال ان مكان المكتبة و المحل المجاور لها عبارة عن اكسبريس فلسطين ثم تحول إلى (كيت كات).. وهو مجمع للشباب، فتيانا وصبيات ناضجين ويافعين محبين ومحبات بكل ما وهب الله لمجتمعاتهم من الحرية يتناولون منه الحلويات في فصل الشتاء، أما في الصيف فتقدم فيه الدوندرمة المطروقة أو ما تسمى (الثعلبية)، وقد خصص صاحب المحل الطابق الأعلى للعوائل، اما الطابق الأرضي فهو للشباب.

تاجران وكباب أربيل
ويقول داود وهو يتحسر على طعم الجوز في الدوندرمة الجوزية وعلى الفستق الابيض في الدوندرمة البيضاء، إن أقدم مقاهي الشارع هي (هوبي) و (زناد) ومن المطاعم تاجران وكباب أربيل وكذلك مطعم نزار للأكلات البغدادية، وهمبركر ابو يونان، اما المطاعم الموجودة حاليا كما يقول داود فأنها تأسست في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. لكنها أتت بزي مترف على الرغم من أن مأكولاتها لا توازي القديم وأصالته وطيبة الأنفس التي صنعته قدور مطابخها كابن سمينة والمذاق وغيرها.
ويشير داود إلى جامع الاورفلي شيد من قبل الحاجة نجية الاورفلي وهي زوجة السياسي المعروف احمد عزة الاعظمي عام 1952. وقد بني الجامع من طابوق (الجغفين) وهي صناعة بغدادية خالصة للطابوق وفق مواصفات خاصة يفرضها البناؤون، وقد تعرض باب الجامع الذي يعد تحفة فنية رائعة الى اضرار كبيرة سببها انفجار عبوة ناسفة في الشارع عام 2006 مما ادى الى استبداله بباب حديدي لا يرقى بشيء إزاء بابه الخشبي الذي اشتهر به، والناظر إلى الجامع يلاحظ حجم الكارثة التي يعيشها الجامع خاصة وانه يجاور بيت متروك لأحد المسيحيين أصبح مكبا للقاذورات يستخدمه سكان العمارات المحيطة بالدار، ونتيجة لتراكم القاذورات من قناني فارغة وغيرها من المواد القابلة للاشتعال حدث أكثر من حريق خاصة في الصيف عند ارتفاع درجات الحرارة، مما شوه صورة مدخل السعدون من جانبه الايسر، ومعالجات أمانة العاصمة هي قيامها بتسييج واجهة البيت بواسطة صفائح الألمنيوم (الجينكو) بصورة شوهت مدخل هذا الشارع الذي يتباهى به العراقيون. وفي الزقاق المجاور للجامع كانت هناك مكتبات الاورفلي العلمية.

خراب البتاوين
وأنت تلتفت يمينا ويسارا في الشارع يرعبك الخراب الذي تعيشه أزقة مدينة البتاوين. هذا الحي الذي كان من ارقى احياء العاصمة وجذب اليه تجار ومترفي العراق، لكن مع دخول العرب من المصريين والسودانيين إليه والذي تزامن مع بداية حروب الطاغية أصبحت البتاوين مأوى للشاذين ومافيات التسول وغيرها من الأمور الأخرى.
نعم.. ما يعيشه الشارع وازقة البتاوين تحتاج إلى اكثر من وقفة من المسؤولين عن دمار -عفوا- إعمار البلد.
وأنا انظر إلى مشرب بيناثا في بداية السعدون بعد ان تحول الى محال للإعلانات وغيرها لم تحضرني غير أبيات شعر الكبير كاظم الحجاج من قصيدة (انظر بعين من نهرين) حيث يقول:
أنا لا أصلي!
انا أتوضأ، دون صلاة، وهذي شمالي
اعفّ واطهر ممن يصلي نهاراً ويسرق في الليل خبز عيالي.
نعم ويسرق خبز عيالنا جميعا أيها الشاعر الشاعر.

مقهى المعقدين
وكان محل حلويات جواد الشكرجي يأخذ مكانه بين المكتبات وكأنه يقول لك في اللهجة العراقية الدارجة (حلي واقرأ). وأنت تدخل الزقاق الأول من جهة اليمين باتجاه شارع ابي نؤاس لا يمكنك أن تتجاهل مقهى (إبراهيم) والتي اشتهرت بمقهى (المعقدين). والمعقدين كلمة أطلقها احدهم على المثقفين الذين يملأون المقهى وفيه يطرحون قصائدهم وحواراتهم الثقافية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وللأسف حين دخلناه اليوم لم نجد فيه اثرا لكاتب او بقايا قصيدة لحسين مروان او مشهد صعلوكي للراحل عبد الأمير الحصيري. بل وجدنا بدلاً من ذلك أوراق بوكر تتقافز بين الأيدي وأدوات الدومينو ودخان الناركيلات الذي يملأ المقهى، وحين حاولنا التصوير رفض احد الزبائن ذلك مدعياً بأن عضو مجلس بلدي في المنطقة ولم يسمح بتصوير الزبائن لضرورات أمنية، في حين وافق ابن صاحب المقهى الذي يدعى محمد جعفر مهيلة على تصويره وهو يمارس عمله في المقهى علما ان اصحاب المقهى إبراهيم وخليل تركوا المقهى لصاحبه الجديد الذي حول اسمه إلى مقهى عبد الكريم قاسم، تركناه وتوجهنا إلى احد المطاعم الشهيرة وهو مطعم ابن سمينه. لهذا المطعم شهرة خاصة لما يقدمه من أكلات عراقية معروفة اشهرها القوزي على التمن، وشهرته تأتي من نكهة الدهن الحر الذي يواظب أولاد الحاج المرحوم حسن ابن سمينه على استخدامه في الطبخ والآن يتواجد فيه أولاد الحاج حسن ابن سمينه، أكملنا غداءنا وخرجنا من المطعم باتجاه شارع كان لا يعرف النوم أبداً بمسارحه وملاهيه ودور السينما لن تعرف النعاس، واليوم تجده عند دخولك إليه بعد الساعة العاشرة مساءً تراه وكأنه منطقة محرمة او حقل الغام او كمدينة ضربت بالاسلحة الكيمياوية تواً، فحظر التجوال الذي لا يزال يزعج بغداد عاصمة الفرح والسهر فضلا عن السيطرات العسكرية التي فرضتها خطة فرض القانون مع الحواجز الكونكريتية، كلها ادوات تشويه بات الناظر إليها يراها وكانها مقبرة تسدل الستار عن حياة شارع يخترق قلب العاصمة بماضيه وحاضره ومستقبله الذي نراه على الرغم مما حدث ويحدث كما يراه صاحبنا وشاعرنا في هذا التحقيق كاظم الحاج من قصيدته النشيد الوطني:
في البدء كان الرافدان
وكانت الدنيا دخان
لا بارق خلف المدى والأفق ضاق
حتى بدا... مثل الندى وجه العراق

سبب انتحار عبد المحسن
تحدثنا في حلقتنا هذه عن السعدون الشارع ولكننا لم نمر على السعدون السياسي العراقي. عبد المحسن بن الشيخ فهد السعدون ولد عام 1889 في لواء المنتفج وهو ضابط ضمن صفوف الجيش العثماني. تسلم رئاسة أول وزارة عراقية لكنه توفي بظروف غامضة عام 1929.
لكن الكاتب والإعلامي رفعة عبد الرزاق يسرد القصة الحقيقة لوفاة أول رئيس وزراء للعراق حيث يقول ان المجلس النيابي آنذاك قام باستضافته، وداخل المجلس قام احد الاعضاء باتهام السعدون بمجاملة الانكليز، وبعد نهاية المجلس خرج باتجاه نادي بغداد الكائن في السعدون آنذاك وجلس قليلاً ثم اتجه الى بيته في شارع ابي نؤاس. وصعد إلى غرفته في الطابق الثاني وكتب وصيته الى ولده علي وبعدها أطلق النار على نفسه وفسر اسباب ذلك بوصيته المشهورة التي تدل على روحه الوطنية التي لم تتحمل تلك التهمة. هنا تركت الكاتب رفعة وذهبت إلى الرجل ولكني عدت مسرعا الى الشارع بعد أن وجدت سؤالي وبحثي موضع سخرية الجميع لكوني ابحث عن مألوف في موضع اللامألوف، فالكثير من ساستنا الجدد يتهمون بأبشع التهم ولكنهم كمموا آذانهم حتى لا يسمعون اتهاماتنا او مطالبنا مشغولين ومصالحهم الشخصية، فالمفسد بريء وكاشف الفساد هو المتهم شيئاً ام أبينا، المهم لا يهم ما دام الإصغاء أبكم، ويشير عبد الرزاق الى ان الحكومة بعد الحادث قامت بتخصيص (50.000) ألف روبية لشراء بيت لعائلته وكذلك صرف مرتب تقاعدي لعائلته قدره (1200) روبية لكون بيته الذي انتحر فيه مستأجراً.

الفنان الايطالي بيتروكانونيكا
بعد وفاته بأربع سنوات قامت العديد من الجهات والمؤسسات الخيرية والعديد من الأشخاص بحملة تبرعات من اجل إقامة نصب تذكاري لعبد المحسن السعدون وبالفعل تم انجاز العمل من قبل النحات الايطالي بيتروكانونيكا وهو الفنان نفسه الذي صنع تمثال الملك فيصل القائم في الصالحية، وتم نصبه عام 1933.
هنا اترك السعدون شارعا وسياسيا. لأفتش في أدراج اسرار الموغلين جدا في مؤسسة الفساد العراقية، الذي خدمتهم لم تتجاوز الشهر نعم، الـ(30) يوما(خدمة أعضاء مجلس الحكم المؤقت) وبعدها تسلموا التقاعد المغري وقطع الأراضي في المناطق الراقية كرقي ضمائرهم!؟، بل بعضهم يمتلكون الآن عمارات وفللا في عواصم الدولة العربية، بل هناك شارع في لندن يسمى شارع العراقيون، وفيه تسكن بعض عوائل المسؤولين الذين يحكمون البلد. في حين أن السعدون رحل وهو لا يملك دارا أو راتبا، وحتى تمثاله الذي بني من النحاس لم يسلم من السرقة، فقد قام بعض اللصوص بسرقة النصب في شهر تموز من عام 2003، والتمثال الموجود حاليا قام بجلبه ابن عمه حميد السعدون ولكنه لا يرقى إلى التمثال الذي شيده بيترو.
عدت إلى الشارع الشارع الذي لا تخلو فيه أية بناية عن تاريخ طويل للمسلمين والمسيحيين واليهود لأرى في ساحة النصر بقايا من الباص الاحمر فقلت مع نفسي، الباص عاد فهل يعود الفرح؟
متسول في الشارع دعاني الى ان ابوح بوجع شاعرنا كاظم الحجاج وهو يقول:
أنا لا أصوم
انا صائم منذ ستين عامْ!
أجوع وآكل
لكنني لا أبسمل عن لقمةٍ بالحرامْ
انا لا ازكي!
فمن أين لي؟
وحتى لحافي..
قصير على أرجلي؟!