أزمة البنك المركزي – إلى اين يقودنا الجمود العقائدي الليبرالي؟

بدء بواسطة صائب خليل, نوفمبر 10, 2012, 09:55:09 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

ارتبطت عبارة "الجمود العقائدي" في أذهان الناس بالإشتراكيين والشيوعيين، مقابل الليبراليين الذين يكال لهم في العادة الكثير من المديح على "التفتح" و "البراغماتية" و "الحداثة"، فهل هذا المديح في مكانه؟ يبدو أن هذا السؤال لم يطرح للمناقشة!
يتميز القائمون على الحكم في العراق وكذلك الغالبية في برلمانه، باعتناقهم بحماس فوق المعتاد، للرأسمالية والليبرالية الجديدة القائمة على حرية السوق، مبدأً أيديولوجياً. ولا يخفي قادة الحكومة وأحزابها التزامهم بحرية السوق كعقيدة دينية إقتصادية غير قابلة للمناقشة، رغم ادعائهم بالإيمان بـ "اقتصادنا" الذي ينتقد الإشتراكية والرأسمالية معاً، (1)
أما (حكومة وبرلمان) كردستان فتبدو كمعبد لتقديس حرية السوق، لا يكاد يسمع فيه أي صوت "ملحد"، رغم مشاركة الحزب "الشيوعي"(؟) الكردستاني في الحكم. ورغم أن رئيس العراق الكردي، عضو في "الإشتراكية الدولية"، فهو لم يستعمل عضويته فيها إلا لكيل المديح لجورج بوش ومصافحة القادة الإسرائيليين، ولا يقيس التقدم الإقتصادي في مدينة ما، إلا بعدد المليونيرية فيها، كما ينبه صديقنا الصحفي أمين يونس (2)

عندما تسمع الساسة العراقيون يتحدثون عن الإقتصاد، فكأنك تستمع إلى أعضاء الحزب الجمهوري الأمريكي، حيث تعد كلمة "إشتراكي" أو "إجتماعي" مسبة، و "حرية السوق" هدفاً سامياً، سياسياً وأخلاقياً، قبل أن يكون إقتصادي. كمثال على ذلك هذا عضو اللجنة الاقتصادية النائب سلمان الموسوي، منزعج من "القوانين الاقتصادية " العراقية لأنها "لا تخدم الاقتصاد الجديد، اقتصاد السوق". والموسوي هنا يرفع "إقتصاد السوق" إلى مرتبة الهدف الذي يجب "خدمته"، وليس الوسيلة إلى رفاه المجتمع، وهو يشكو أنه ما يزال هناك جهات تتمسك بالنظام "الاشتراكي الشمولي القديم" ولا تريد "التقدم" والعمل بنظام السوق. (3) ووصف أحد الكتاب في صحيفة "المؤتمر" الإتهامات الأخيرة التي وجهت إلى البنك المركزي، بأنها تستند إلى "فكر اشتراكي بالي" يضع الحدود والتعليمات على بيع الدولار، "بينما اساس عمل السوق الحر في العملة هو ان يبيع البنك المركزي الدولار بسعر السوق". (4)

أقدم هؤلاء كنماذج لإتجاه عام لشخوص لم يكلفوا أنفسهم عناء دراسة إقتصادية، لا الرأسمالية التي يقدسونها، ولا الإشتراكية التي يأنفون منها، ولا يعرفون عنها سوى أنها كانت من شعارات البعث، وأن ستالين كان يمثلها. هذا الكسل الذهني، او التبعية السلبية المستسلمة، دفعت هؤلاء إلى إعتناق الإنفتاح المنفلت بلا حدود، دون النظر إلى ما قد ينتج عنه من مخاطر وصفها خالد الخفاجي في مقالة "مكافحة الفقر ومعالجات التباين الطبقي"  (5) فكتب "الاقتصاد الحر يقوم على مبدأ عدم تدخل الدولة في الأسواق, وان هذا المبدأ يترك أعدادا هائلة من أفراد المجتمع تقع تحت طائلة نظام اقتصادي مفترس, يزداد فيه الغني غنى والفقير فقرا".

وقد كان من الضروري حتى لمن يؤمن بالإنفتاح وحرية السوق، أن يقوم أولاً بدراسة الأساليب المختلفة التي اتبعتها دول مختلفة لتطبيقه، بدلاً من الإنفتاح المنفلت، الذي تروج له الولايات المتحدة، وبالرغم من أننا ما نزال نعيش تداعيات الأزمة الكبيرة التي سببها هذا النظام على إقتصادات العالم، وبالرغم من ان أحداً لم يعد يتحدث عن هذا النظام إلا وأكد على الحاجة إلى تعديله بشكل اساسي. بل أن الدول التي تجهد في فرضه على الآخرين، تتهرب منه كلما وجدت لها فرصة لذلك، فتدعم الولايات المتحدة وأوروبا محاصيلها الزراعية وتدعم القطاع التكنولوجي وغيرها بطرق مختلفة، ومنعت أميركا دبي من شراء خدمات الموانئ الكبيرة، و منعت الصين من شراء شركات الاتصالات، لأنها "تضر بالأمن القومي" حسب تقديرها.
لقد كان هناك بدائل أنجح لهذا الإنفتاح، مثل الصيغة الصينية التي حققت نجاحات عظيمة تحت توجيه وقيادة الحكومة الصينية. وكذلك تجارب الرأسماليين المعتدلين في دول أوروبا الغربية، والتجارب الحديثة في أميركا الوسطى والجنوبية وما تحققه من نجاحات. ولقد أشار الأستاذ فؤاد الأمير في مقدمة كتابه "الموازنة المائية في العراق وأزمة المياه في العالم" إلى فشل التجربة النيولبرالية بالأخص دول العالم الثالث التي حاولت تطبيقها بدءا بشيلي, ثم النمور الاسيوية ودول اميركا اللاتينية مثل المكسيك والارجنتين والبرازيل و فنزويلا، و لم ينقذ هذه الدول الا مجيء حكومات اليسار، حاملة المفاهيم الاشتراكية.

يلجأ دعاة حرية السوق إلى المقارنة بين التقدم الذي أنجزته الدول الغربية التي التزمت بدرجة ما، بحرية السوق، والفشل وانهيار النظام الذي منيت به الدول التي اتجهت إلى الإقتصاد المخطط (الإشتراكي)، وتقديمها كبرهان على صحة مبدأ حرية السوق، وأن من يريد "التقدم" كما يقول الموسوي، فعليه أن يعتنق حرية السوق.
ويبين جومسكي خطأ ذلك الزعم في مناسبات عديدة، كما يشرح الإقتصادي فردريك ليست نفس الأمر، فيقول أن الدول المتقدمة تلجأ من خلال فرضها لـ "حرية السوق" إلى ما يلجأ إليه من يصعد إلى القمة ويحاول منع المتأخرين من منافسته بـ "ركل السلّم" الذي أوصله إلى تلك القمة، لكي يمنع الآخرين من الوصول إليها. ويقدم البروفسور ها جون جانك من جامعة كامبرج في كتابه "ركل السلّم"، الذي استوحى إسمه من مقولة ليست، تاريخ تطور البلدان المتقدمة، ليبين أن كل منها قد اعتمد على الحمائية العالية حين كان يحتاج إلى بناء صناعته واقتصاده، وسوف نعود مستقبلاً إلى هذا الكتاب القيم لترجمة بعض ما جاء فيه.

والحقيقة البسيطة هي أن "حرية السوق"، حتى إن نفذت بأمانة وبلا سرقات (على استحالة ذلك)، تترك البلد كله بشكل عام أكثر فقراً، ما لم يكن من أقوى البلدان في ساحة الصراع "الحر" المفتوحة.
فـ "حرية السوق" تعني أساساً إزالة للعوائق الكمركية والقانونية التي وضعتها الدول يوماً، أمام استيراد السلع الأجنبية، لتقديم بعض الحماية لسلعها الوطنية. وبالتالي فأن "حرية السوق" تخدم من الناحية الإقتصادية من يصدر سلعاً. فالدول المتقاربة القوة والشكل الإقتصادي، قد تتفق على أن يزيل كل طرف عوائقه أمام سلع الطرف الآخر، فتدخل سلع الأول سوق الثاني بسهولة لتنافس السلع الوطنية، مقابل أن تدخل سلع الثاني سوق الأول. ولاشك أن السلع الوطنية تخسر بعض سوقها في بلادها في كل من البلدين، لكن مقابل ذلك، تكسب سوقاً أخرى في البلد الآخر يعوضها عن خسارتها في سوقها وقد يزيد. ولكن ماذا لو لم يكن البلدان متقاربان في قوتهما وطبيعتهما الإقتصادية؟ سيستفيد أحدهما من تلك الإتفاقيات بأكثر مما يستفيد الآخر، ويخسر الآخر أكثر مما يخسر الأول من سوق. وبالتالي يخرج الأضعف بميزان تجاري مختل بالضرورة. ولذلك من الطبيعي أن يقاوم الثاني، حكومةً وصناعيين وتجاراً، في القطاعين العام والخاص، إجراءات "حرية السوق" لأنها ليست في صالحهم. ومن الطبيعي أيضاً أن يلجأ الطرف الأقوى إلى الضغوط بكل أنواعها، لإجبار الآخر على فتح أسواقه بالرغم من أن ذلك في غير صالحه. الطرف الأضعف في المعادلة يرفض "حرية السوق" ليس كمبدأ بالضرورة، بل ببساطة لأنها ليست في صالحه. ولو تبدل ميزان القوى، لوجدت الثاني يعتنق حرية السوق ويحاول فرضها على الأول الذي سيحاول مقاومتها قدر استطاعته. فـ "حرية السوق" تعتبر "تقدماً" عندما يكون اقتصادك وإنتاجك متفوقاً لأنك تستفيد منها. وتعتبر تراجعاً وخسارة في حالة العكس، بكل بساطة!

وقد لا يتردد الأقوى في استعمال حتى التهديدات العسكرية لفرض أفضليته. وكلما كان الفارق أكبر بين قوتي الإقتصادين ونوعهما، كانت خسائر سياسة "حرية السوق" اكبر للطرف الأضعف، أو الطرف الذي لا يعتمد تصدير البضائع اساساً لإقتصاده، وكان الإبتزاز الضروري لإجباره على إتباع تلك السياسة، أكبر وأشد عنفاً وسرية. فذهبت بريطانيا في القرن التاسع عشر إلى إجتياح عسكري للصين وتغيير حكومتها حين رفضت تلك فتح اسواقها للأفيون الذي يتاجر به الإنكليز، والذي كان يسبب لها كارثة إجتماعية وخيمة. أسقطت الحكومة ووضعت بريطانيا مكانها أخرى تقبل بذلك الإبتزاز!
ولو لاحظنا ما يجري في العالم اليوم لما رأينا الصورة مختلفة كثيراً عن هذا إلا ربما بالدرجة أو ببعض الرتوش. فلدينا في الخليج العربي حكومات تجهد في ضخ ثروتها النفطية بأكثر مما تحتاج بكثير، أما لحرب إقتصادية لصالح أميركا، أو لتحويلها إلى أسلحة لا مبرر لها إلا استخدامها للعدوان على من تسول له نفسه الخروج عن طاعة أميركا في المنطقة.
إن وضع حكومات عميلة تلتزم بمصلحة البلد الذي فرضها، بدلاً من مصلحة بلدها وشعبها، هي الطريقة الأكثر شيوعاً وفعالية لفتح الأسواق للدول الكبرى، ولذا تجد أن تلك الدول تبحث عن "الحثالات" في البلد الأضعف، (بينوشيت في شيلي، الشاه في إيران، نورييغا في بنما، سوهارتو في اندونيسيا، سوموزا في نيكاراغوا، صدام ثم علاوي في العراق، وغيرهم كثير)، لتضعهم على رأس الحكم، أو إبدال الحكومة بهم إن أمكن. أما الحكومات التي تصمد وتصر على العمل على مصلحة شعبها باستقلال عن إرادة القوي، فتتعرض إلى الإبتزازات والمقاطعة والتخريب، لكي تصبح كلفة استقلالها أكبر من كلفة فتح اسواقها، وعندها قد تقبل رغماً عنها بالإجراءات التي تؤذيها إقتصادياً.

إذن، لا يفترض بأية دولة نامية على وجه الخصوص أن تقبل بميكانيكية "حرية السوق" لأنها تقف بالضد من مصالحها بشكل تام ومباشر، وهي مصممة من قبل الدول المتقدمة لـ "ركل السلّم" الذي صعدت به هذه الدول، لمنع الآخرين من الصعود ومنافستها. ولا يفسر هذا الحماس لليبرالية الجديدة في الدول النامية إلا "الجمود العقائدي" المتصلب الذي يمنع أصحابه من رؤية الحقائق الواضحة التي تبين أن اليبرالية و "حرية السوق" لا تصلح لأية دولة نامية تهدف إلى بناء اقتصادها لأن ثرواتها سوف تسيل بطبيعة ميكانيكة السوق إلى خارجها، ولن يتاح لصناعتها وزراعتها أية فرصة للمنافسة والنمو بعد أن تفقد أسواقها الداخلية دون أن تكون قادرة على الوصول إلى الأسواق الخارجية، ولهذا السبب بالذات تسعى الدول الكبرى لفرض هذا النمط بالقوة والإبتزاز على الآخرين، كما فعلت حين اشترطته على العراق مقابل السماح بتخفيف ديونه التي كانت قد قدمتها لعميلها الدكتاتور السابق لضرب الشعب وتدمير البلاد.
ولا يبرر اعتناق بعض الساسة والإقتصاديين لهذا النمط علناً، رغم خطورته القصوى الواضحة على مستقبل البلاد إلا جهل شديد أو جمود عقائدي صلب يمنعهم من رؤية تلك الحقائق، إن افترضنا حسن النية. لكن أحداً في الإعلام لا يتحدث إلا عن الجمود العقائدي للشيوعيين واليساريين، ويربط الليبراليون وحرية السوق بـ "التفتح" و "الحداثة" اعتباطاً وبدون دليل. فنحن نغرق في إعلام هو جزء من المؤامرة على بلداننا، إعلام مهمته أن يدفع بالناس ليس فقط بالقبول بلا تفكير بأنظمة إقتصادية قد لا تصلح لبلادهم بلا تعديل، بل وبأنظمة إقتصادية تتناقض تماماً في طبيعتها مع عوامل اقتصادهم، حتى ضمن قوانين الإقتصاد الرأسمالي، وتصيبها بالخسارة الإقتصادية، إضافة إلى أضرارها الإجتماعية العامة الأخرى من تعظيم الفوارق الطبقية ونشر الفساد كبير الحجم والتبعية الإقتصادية وتسهيل امتصاص المحتوى النقدي وعدم الإستقرار والتعرض الشديد للأزمات المالية القادمة، ونتائجها الكارثية، وصولاً إلى إبقاء البلاد في حالة التخلف الشديد رغم الوفرة العظيمة لثرواتها، ولحين نضوب تلك الثروات وفوات الفرصة.

(1) كلمة رئيس الوزراء في ذكرى استشهاد الصدر الاول 9-4-2012
(2) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=67513
(3) http://www.ipairaq.com/index.php?name=inner&t=economy&id=62268
(4) http://www.almutmar.com/index.php?id=201215992
(5) http://www.alestiqama.com/news.php?cat=ara&id=817