ذكريات من الماضي العراقي القريب (13)

بدء بواسطة عبدالله النوفلي, سبتمبر 20, 2012, 06:39:14 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

عبدالله النوفلي

ذكريات من الماضي العراقي القريب (13)

تكلمنا في الحلقة الماضية نتفا عما حصلت عليه جامعة بغداد من تقدم ولو انه ليس بمستوى الطموح أن تحتل أعرق جامعة في العراق المرتبة 601 على مستوى العالم، ومن المخجل أيضا أن لا يكون هناك بين خريجيها من حصل على جائزة علمية معروفة كجائزة نوبل طوال سنين عمرها المديد، لأنني سبق وأن زرت جامعة كيوتو في اليابان وكانت تلك الجامعة تفتخر بخريجيها الذين حصلوا على جوائز نوبل عدة، وتضع صورهم وسيرهم الشخصية في أماكن بارزة، عكس ما يحدث في العراق حيث العلماء عندنا يُضطهدون ويخطفون او يتم ابتزازهم هذا إذا لا يتم تصفيتهم وعلى أضعف الإيمان كي يضطروا الهجرة بعيدا. وغالبا ما ترحب الدول القابلة للهجرة بهؤلاء كونهم يأتون إليها جاهزين ولا تصرف تلك الدول شيئا عليهم.
لكن الغريب بأن سنة 2012 قد خلت من العلماء العراقيين الذين لجأوا لتلك الدول فما هو السبب؟ هل لم يعد هناك علماء كي يهاجروا؟ أم تحسنت الظروف واقتنع علمائنا بواقعهم وقرروا البقاء كي يستفاد وطنهم من خبرتهم، أم أن منعا مبطنا قد تم وضعه لسفر هؤلاء؟ الأمر الأخير أستبعده لأن لا قيود موضوعة على سفر أي أحد في العراق اليوم إلا لو كان مطلوبا للقضاء والقضاء يقرر عدم سفره لحين حسم قضيته، على عكس ما كان في السابق، حيث كان يُكتب في جواز سفر الموظف أنه موظف حكومي، لذلك فعندما يرغب ذلك الموظف السفر كان يستوجب عليه أبراز أمر موافقة دائرته أو أمرا بالايفاد كي يتم السماح له في السفر، أما إذا كان من أفراد القوات المسلحة فقد كان الأمر مختلفا فعليه حصول موافقة مراجعه العسكرية، ومن كان برتبة عقيد فما فوق كان ممنوع من السفر كليا إلا بعد أحالته على التقاعد ومضي فترة طويلة على ذلك بغية التأكد أنه لم يعد يتذكر شيئا من أسرار خدمته العسكرية وتنظيماتها!!! هذا كان حال العراقي في تلك الأيام.
لكن بالأمس القريب احتفلت الصحافة العراقية لمضي أكثر من 140 سنة لتأسيسها والدستور العراقي فيه مادة واضحة تكفل حرية الصحافة والاعلام (المادة 36 ثانيا)، لكن التقارير تفيد بوضع القيود دائما أمام الصحفيين كي لا يتمكنوا من نقل الحقائق، والأخبار تنقل لنا باستمرار نتفا من هذه الأخبار.
ومؤخرا نقلت إلينا التقارير بأن استخبارات الحلة اعترضت سبيل مراسلة صحفية وتم اقتيادها لمبنى دائرتهم والتحقيق معها واحتجازها لساعات دون مبرر قانوني والصحفية التي تحمل اسم (التفات حسن) وهي مراسلة لوكالة أنباء بغداد الدولية!! ورغم أن تلك الوكالة يقع موقعها في بغداد لكن ذلك لم يشفع للمراسلة، وبقيت ثلاث ساعات محتجزة لحين التعرف على هويتها!!! تصوروا ثلاث ساعات استغرقت عملية التعرف على هوية الصحفية، وفي الدول المتقدمة لا يستغرق ذلك سوى ثوانٍ معدودات.
والسيد رئيس الوزراء كان صريحا في احتفالية نقابة الصحفيين لذكرى تأسيسها بأن للصحافة الحرية المطلقة ولا يقبل بسجن أو معاقبة صحفي بناءا على عمله الصحفي، لكن مع كل ذلك كان للعمل الصحفي في العراق شهداء اعتلى بهم العراق القمة في عدد الضحايا في هذه المهنة بين دول العالم والأمثلة كثيرة ورغم أن الأرقام المنشورة لم تصل للحقيقة بذلك  كون المأساة أكبر مما تم نشره، فقد أعدت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان على موقعها في الشبكة الدولية للمعلومات وعبر الرابط التالي:
http://anhri.net/iraq/makal/2006/pr0501.shtml
بأن عدد الذين تم قتلهم على أيدي مسلحين مجهولين او ميليشيات في العراق من الصحفيين كان 69 صحفيا و21 صحفيا لقوا حتفهم اثناء تواجدهم في اماكن حدثت فيها انفجارات نفذها مجهولون
و17صحفيا قتلوا بنيران القوات الأمريكية  وصحفيان قتلا بنيران القوات العراقية وخلصت هذه الشبكة القول بأن الصحفي العراقي مستهدف من كل الأطراف المتنازعة دون استثناء ونشرت تلك الوكالة أسماء وأماكن حدوث هذه الحوادث يمكن التعرف عليها من خلال الرابط أعلاه، لكن نقيب الصحفيين العراقيين الاستاذ مؤيد اللامي في حديثه لموقع http://arabic.rt.com/prg/telecast/49768/ قال أن أكثر من 250 صحفيا عراقيا تم قتلهم لحد الآن ولازال رغم ذلك البرلمان يماطل بسن قانون حماية الصحفيين وهو بذلك يتحمل مسؤولية أراقة دماء الصحفيين. فواقع واحد لما يسمونه بالسلطة الرابعة هو أيضا واقع مزرٍ كذلك شأنه شأن قطاعات كثيرة في العراق الجريح والمستمر جرحه بالنزف إلى ما لا يمكن تحديد أمده بعد.
والأمثلة على هذا الجرح ونزفه كثيرة فالشاب حيدر بعمر 17 عاما فقد ذراعه وهو جالس بشقته نتيجة مناوشات عسكرية قريبه من شقته أضافة لفقدانه الرؤيا بعينه اليمنى وصرف الكثير من المبالغ دون جدوى تذكر، ومعاذ عمره 26 عاما يتحدث بأن روحه وعقله وتفكيره قد ماتا ويذكر بأنه كان سيتزوج لكنه أصبح عاجزا وبعدت المسافة بينه وبين عذراء الفتاة التي كان سيتزوج بها لأنه أصبح عاجزا عن المشي وبذلك ليس أهلا للزواج. ورزاق ذو ال 54 عاما فقد ساقه بانفجار وبقيت ذكرى ذلك الحادث حاضرة أمامه وكأنها تحدث الآن كما يقول لأنه يتذكر وجود الكثير من الجرحى في الحادث الذي فقد فيه رجله، وفلاح ذو ال31 عاما ذهب ضحية للمجرمين وهو يهم بفتح محله وكانت ساقه أيضا عرضة لعدد من الاصابات، وسيف 18 عاما كان هدفا للأمريكان وهو في طريقه للمستشفى كي يتعالج من الحمى لكنه اليوم يكره أخوته الذين لديهم رجلين وهو بواحدة، وهذه ليست سوى أمثلة قليلة من آلاف مثلها بل أكثر قسوة منها جعلت من الجرح دائم النزف، وحتى أصبح للعراق منتخبات للمعوقين كثيرة ومنها ما يحصل على بطولات عالمية؛ فمن أين أصبح لدينا هذا الجيش من المعوقين؟ أليست كلها نتاج هذه الأحداث المؤلمة ونتائج عن الحروب الكثيرة التي خاضها العراق بناءا على رغبة قادته!!!؟
جميع هذه الحالات أصبحت عالة اولا على نفسها وثانيا على غيرها هذا عدا مَن فقد حياته وترك عائلة يتيمة وأطفلا بلا أب يرعاهم وهم يشعرون بفقدان حنان أبيهم لهم، هذا الحنان الذي لا يمكن تعويضه أبدا الأمر الذي سيترك آثارا خطيرة على بناء شخصيتهم في المستقبل، والعراق رغم كل هذا يعوم على بحيرة من النفط، ومعظمنا يتذكر كيف كان لتر البنزين يُباع ب (20) فلسا ويومها كنأ نملأ خزان البنزين في سياراتنا بأقل من دينار واحد.
وأتذكر أيضا كيف كان الين الياباني قيمته أقل من فلس واحد واليوم نقرأ في النشرة الاقتصادية العراقية قيمته أكثر من 13 دينار عراقي!!! (الدينار يساوي 1000فلس)، ويوما وهذا كان في بداية الثمانينات من القرن الماضي أرسل لي أخي الذي كان يدرس في المملكة المتحدة مبالغ مالية كي يساعدني بها وكانت بعملة كويتية، فقمت بأبدالها دينارا كويتيا بدينار عراقي لكن نشرات الاخبار بالأمس ذكرت بأن الدينار الكويتي يعادل أكثر من 4000 دينار عراقي!!! وإن عرجنا إلى الدولار الأمريكي الذي كان الدينار قبل عقود يعادل أكثر من ثلاثة دولارات أمريكية، نجده اليوم الدولار الأمريكي يعادل 1250 دينار عراقي، فإلى متى يبقى الاقتصاد العراقي وعملته بهذا المستوى؟ وأين جهابذة الاقتصاد في العراق ولماذا يُستنزف العراقي عندما يسافر خارجا وهو يرى بأن ما يحمله من مبالغ لا تنفع شيئا ولا يمكنه المطاولة في السياحة كثيرا لأن سرعان ما تنفذ المبالغ التي يحملها خصوصا وان بطاقات الائتمان الآلية التي يحملها أفراد شعوب الكثير من الدول ليتمكنوا من سحب المبالغ الموجودة في  أرصدتهم وهم بعيدين عن بلدانهم الأمر الذي لم يطبق بهذه الآلية بعد في العراق!!!
لقد كان العراق أرخص دول المنطقة وربما العالم وكان السوق العراقي يشهد بيع الخضروات بأسعار زهيدة جدا وكان ربما أرخصها ما نسميه وحش الطاوة (الباذنجان) الذي كان يباع الكيلو الواحد بخمسة فلوس وسمي بهذا الاسم لكونه يغزو وجبات الطعام العراقية بسبب رخص ثمنه وخصوصا في أيام الصيف المرتفع بدرجات الحرارة وكان حينها يعتبر قوت الفقراء لأن ربما لو ذهبت للسوق قبل الغلق لكنت تشتريه بأرخص من ذلك بكثير، لكن واقع اليوم يشير للأسعار بآلاف الدنانير وكأن الباذنجان يتم استيراده بالعملة الصعبة وهكذا غيره من الخضروات والفواكه رغم وجود الكثير من المستورد لدى الباعة لكن يبقى المنتج العراقي له طعمه الخاص التي يفتقدها غالبية العراقيين العائشين بدول المهجر وهم يذهبون بعيدا كثيرا عندما يقولون بأن مذاق اللحم العراقي لا يمكن إيجاده في أي بلد آخر!!!
لقد كنا في السابق وخصوصا أيام الحصار الدولي على العراق وما قبله نتحسر على كل شيء وكان كل شيء يتم الحصول عليه بعد وقوف طويل في الطابور وإذا كانت فرصتنا جيدة ووصل لنا الدور فحتى بيض المائدة كنا نحصل عليه بشق الأنفس ناهيك عن الأمور الضرورية الأخرى لقد علمتنا ظروف العراق كي نعمل كل شيء في البيت حتى معجون الطماطة وخصوصا في موسم انتاجها المزدهر صيفا وهبوط أسعارها أضطرتنا الظروف كي نزور علاوي البيع بالجملة ونختار مجموعة من صناديقها بأسعار الجملة ونعود ونحن فرحين لبيوتنا وكأننا حصلنا على غنيمة قيّمة لأننا سوف نعمل المعجون للسنة كلها خصوصا وكانت الشمس كفيلة بتكثيفه ومن كان له الخبرة في خزنه كان ذلك يعتبر من المونة للسنة كلها، وليس هذا فقط بل تم عمل كل شيء منزليا حتى الصابون والجكليت والجبن بأنواعه المختلفة أضافة لتربية الدجاج وحفر آبار المياه في حديقة المنزل وغيرها من التصرفات التي أضطر العراقي للقيام بها لأننا كنا نجهل ما سيحدث في الغد خاصة وأن بلدنا كان كثير الحروب ودائم الحذر لأن التهديدات كانت كثيرة.
ويوما وفي ظل انعدام البنزين في محطات الوقود أضطر أهلنا لاستخدام ما يتوفر منه في قناني الغاز حيث كانوا يفرغونها قبل تبديلها وأعادة ما كانوا يحصلون عليه لتعبئته في خزان السيارة كي يتمكنوا التنقل بها الأمر الذي سبب الكثير من الحوادث التي ذهب ضحيتها الكثير من أهلنا، كما ان ضروف العراق وما كان يحدث في الشمال جعل من الحكومة المركزية أيام ذاك بفرض حالة من الحصار الاقتصادي على تلك المنطقة وكأن أهلها ليسوا بعراقيين ولهم من الحقوق وعليهم من الواجبات ما تفرضه القوانين والمواطنة، وهذا الأمر خلق حالة مزدهرة من التهريب وخصوصا لمشتقات البترول والغاز التي كان يُمارس نشاطها ليلا بين المناطق الحدودية لكردستان خاصة وكان الدفع حينها بالدينار الذي كان يُسمى (السويسري) العملة الأصلية للعراق قبل أعادة طبعها محليا وكان يقال حينها أن العملة المطبوعة محليا لم تكن تمتلك غطاءا لها بالعملة الصعبة كما كان حال العملة الأصلية أي المسماة بالسويسرية، ولا أعلم إن كان أمرا مضحكا أم مبكيا حيث أشيع حينها أن مسؤولا كبيرا سأل المسؤول عن تشييد جسر الطابقين في بغداد كم كانت كلفة الانشاء حيث كان جوابه لذلك المسؤول: سيدي صرفنا طنين من الورق وطن من الأصباغ!!! وكان يقصد الورق والأحبار التي صرفت لطبع العملة المحلية !!! وهو طبعا لم يكن ربما يعلم بالمساويء الاقتصادية لضخ تلك العملة على الاقتصاد العراقي الذي جعل عملته في الحضيض وسبب ذلك رُفعت عملة العراق من سوق الأوراق المالية والعملات التي تتعامل بها البنوك المهمة وأصبح العراقي معزولا لا حول له ولا قوة لأنه لا يستطيع الخروج من العراق لأن جيبه نظيف وفارغ وعندما يقرر الهرب عليه أن يتحسب لأنه سيكون لاجئا يعيش على ما تدر عليه المنظمات الانسانية، زد على ذلك الرسوم التي كانت الدولة تفرضها على العراقي عندما كان يرغب بالحصول على تأشيرة سفر وكانت حينها 400 ألف دينار عراقي ولم يكن أمر توفيرها سهلا للجميع وأيضا كان موظف الجواز ينظر لمن يريد الحصول على تأشيرة السفر نظرة من الصعب وصفها وكأنه عميل أو يريد الهرب أو أي شيء آخر فكانت المعاملة مزرية رغم دفع الكثير من الرشاوي في سبيل انجازها بسرعة.

وهذا وغيره ما سنستمر بالكتابة عنه في الحلقات القادمة
.
.. وللذكريات بقية


عبدالله النوفلي
2012
Abdullah_naufali@yahoo.com

ماهر سعيد متي

مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة