ذكريات من الماضي العراقي القريب (11)

بدء بواسطة عبدالله النوفلي, سبتمبر 07, 2012, 04:29:49 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

عبدالله النوفلي

ذكريات من الماضي العراقي القريب (11)

إن جموع العراق اليوم بحاجة كي تقوم بترتيب أوراقها مجددا وتستفيد مما توفر لها من مناخ تحلم به شعوب كثيرة، فيجب أن يتوقف العنف والقتل والارهاب، وعلى كل فرد عراقي أن يسأل نفسه سؤالا محددا: لماذا كل هذا؟ وما ذنب جاري وأخي وأهلي؟ أليس من المفيد أن نلتفت إلى أحوالنا ونبني بلدنا؟ ألم نستفد من دروس عشر من السنين العجاف التي عشناها بمرارة معا، فلابد اليوم أن تكون قد تبلورت لدينا رؤية لعراق أفضل مما ننحن عليه، فهل يعقل أن لا يتم الاتفاق على وزيري الدفاع والداخلية في الحكومة لحد اليوم رغم مضي سنوات على الانتخابات، بل من المفروض أن نكون اليوم في مرحلة ترتيب أوراقنا لانتخابات جديدة؟!!!، هل يُعقل أن يتم منع العراقي من دخول بعضا من أراضيه تحت أية ذريعة كما كان العمل عليه في السابق بعدم التمكن من الملكية في بغداد مثلا إلا لمن كان مسجلا في أحصاء 1957، وكان هذا مثار سخرية من الجميع فولدي مثلا كان قد ولد في بغداد ودرس وتخرج من جامعاتها وعمل في أحدى مستشفياتها، ولكون والده مسجل في ذلك الاحصاء في محافظة نينوى فليس له حق التملك في بغداد!!!
فقد كان بلدي يمر بحالة فريدة لا مثيل لها في العالم والجميع يشعر بحالات من اليأس وعدم قدرتهم لإحداث التغيير لأن سلطة قمعية كانت ترصد الجميع وتعرف تحركات الجميع بحيث كان الأخ يخاف الكلام والبوح بما في صدره لأخيه او زوجته أو حتى أبيه، وعرض تلفزيون العراق كيف أن أبا قتل ابنه حتى يرضي حاكمه!!!، فكانت الحياة لا طعم لها وحتى مواكب الأعراس لم تكن لتُدخل البهجة في نفوس من يراقبها بل على العكس كان الخوف هو المسيطر لأن الطلقات النارية التي كانت تصدر من المحتفلين كانت تسبب في أحيان كثيرة أصابات وقتل تقلب العرس إلى مأتم!!!.
وشهد بلدي ارتفاع بمعدلات الطلاقات بين المتزوجين الذين يفشلون بصون العش الزوجية ويقدمون الإخلاص والأمانة والعهود لشريكهم كي يستمر زواجهم ويبقى إلى الأبد وهنا أتذكر كم من الوقت تبذل عصافير السماء لبناء أعشاشها وتبقى الأم أمينة على فراخها حتى تعلمهم الطيران، لكن الآباء اليوم يتركون أطفالهم يلعبون في الشوارع ويلهون بالقاذورات وهم شبه حفاة وتحيط بهم أكوام من القمامة التي لا يفوح منها سوى رائحة المرض ونتوقع ممن يعبث بها الإصابة بمختلف الأمراض المعدية فقد شاهدت يوما شتائيا باردا طفل بمعر الورد في بلدة السدة يسحب عربة قد ثبتها على عنقه فقد كان صغيرا جدا ورجليه حافية!!! فأي بشر نحن الذين نسمح بطفل يسير بهذه الطرقات وفي ظل البرد القارس وحافٍ!!!؟. فالحيوانات تحتضن صغارها مدفوعة بالغريزة التي وضعها الخالق فيهم، الم يضع الله في البشر ذات الغريزة مضافا إليها الحب والحنان الذين نفتقدهم اليوم ونرى كيف تتفكك الأسر، ذات المرض الذي نقلناه معنا إلى دول المهجر وهنا بدعم من الأنظمة التي تدفع مالا أكثر للمفصولين عن الزواج مما تدفعه للزوجين الذين يعيشون معا!!! فقد دخلنا زمنا جديدا نفتقد به للأواصر الحقيقية التي تربط الزوجين وتصون بيتهما كي يكون عشا سعيدا يلهوا به الأطفال ويملؤونه سعادة ومحبة.
فعراقنا ومنذ زمن ليس بالقصير يعيش حالة حياة الغابة حيث القوي يأكل الضعيف، وكما كان السركال يُخضع الفلاح لخدمة الأقطاعي يوما، هكذا اليوم يوجد الكثيرين الذين وتحت مسميات غيرها يسخرون البشر لخدمة أهداف وأغراض أخرى ليبقى الإنسان العراقي يخدم ويخدم وحتى أنه لا يحلم بقوانين الغابة لأن الأسد هناك عندما يشبع فإنه يترك جميع الحيوانات تعيش بسلام، لكن الانسان الشرير اليوم في العراق يبحث عن ضحية جديدة باستمرار ليُرضي غروره ونزواته، وربما يشعر بالفرح والسعادة عندما يرى الجميع تتراكض خوفا وهلعا وتغلق على أنفسها أبواب بيوتها محاولة أبعاد الأذى عنها.
فقد وصلنا إلى صيف 2012 والعراق بلا كهرباء تذكر وحتى اليوم الوعود مستمرة وأعلان البشارة بتشغيل هذه الوحدة أو تلك المحطة وبأن طاقتها سوف تغطي تشغيل كذا ساعة لتلك المحافظة لكي نتفاجىء في اليوم التالي بأن المنظومة كلها قد توقفت والعذر جاهز...  والمليارات تذهب والمحصلة أن العراقي يصرف الآلاف من  الدنانير شهريا كي يستطيع الحصول على خمسة أمبيرات يشغل بها مروحة هوائية أو ثلاجة يشرب من خلالها الماء البارد في صيف العراق اللاهب.
وقديما كان الإنسان يستعمل أسطح المنازل كي يهرب إليها ليلا ويحصل على بعض من الهواء العليل بعد عناء يوم حار لكن اليوم حتى هذه السطوح محرمة على العراقيين لأن الأشرار قد يتسلقون الأسوار ويقبضون على من هم في السطوح ويقودونهم نحو الداخل مرغمين كي يعطونهم كل غالٍ ونفيس بالقوة!! لذلك نجد العراقيون اليوم أسيري الغرف ويحكمون أغلاق الأبواب ليس بالأقفال فقط وإنما مدعومة أيضا بالسلاسل الحديدية الضخمة. وهناك سببا آخر أيضا هو الموجات المتتابعة من الأتربة التي تضرب طول البلاد وعرضه وتحيل النهار ليلا ولساعات كثيرة تتعب فيها ربات البيوت التي ترى بين لحظة وأخرى أن البيوت قد امتلأت من الغبار والحدائق المنزلية والممرات قد غطتها طبقات من الرمال، وعليها أن تنظف كل هذا لأن بقائها سيعني أدخالها إلى داخل البيوت نتيجة التنقل والحركة، فالطبيعة قد أضافت جهدا ليس بسيطا على ربات البيوت العراقيات.
لقد عاش العراقيون وتعايش مع أرقاما مثل 3×3 أو 2×4 أو 1×6 أو 1×12 وهلم جرا وهذه أرقاما للبرمجة الكهربائية وكان أحسنها عندما يتساوى الرقمين لأن الرقم الصغير كان يشير دائما لفترة تجهيز الناس بالكهرباء مقابل الإنقطاع الذي كان يمثله دائما الرقم الأكبر هذا إذا لا تنقطع الكهرباء عن البيوت لأيام متتالية عند حدوث خلل أو تخريب في الشبكة، التي أصبحت هذه معينا للمسؤولين بأعطاء الأعذار عن تلك الانقطاعات، ومما زاد الطيب بلة في هذا المجال تحكم حكومات المحافظات بالكهرباء المنتجة في محافظاتها ومحاولة السيطرة على الحصة الأكبر ضاربين بعرض الحائط ما يسمى بالسيطرة المركزية (السيطرة المركزية: وُجدت كي تسيطر على عموم الشبكة الكهربائية وتتابع المنتج مع الأحمال الحاصلة وتقوم بتوزيع الجهد على المحطات بحيث لا تحصل انقطاعات أو انطفاء تام للشبكة الوطنية) وتوزيعها العادل للكهرباء على الجميع ولو أن هذه العدالة غير موجودة فهناك الكثير من المسؤولين والمناطق والمرافق الخدمية التي تنعم بالكهرباء المستمرة ومعها طبعا ما يحيط بها من المنازل التي (تُجطل) بطريقة غير قانونية على الشبكة وتسحب من الكهرباء التي تغذي تلك المناطق!!! ونتيجة غياب أو تغييب السيطرة المركزية نشهد ما يسمى بالانطفاء العام للشبكة وعند حصوله تنقطع الطاقة الكهربائية كليا وهذه تحتاج إلى ساعات طوال كي يتم اعادة تشغيل المحطات وأدخالها ميدان العمل والتجهيز.
واليوم ليس مختلفا كثيرا عن البارحة فقد أبشرت وزارة الكهرباء منتصف حزيران 2012 المواطنين بعودة الأستقرار للمنظومة الكهربائية بعد الخلل الذي أصابها خلال الساعات الماضية حسب قول الناطق الرسمي لوزارة الكهرباء (مصعب المدرس) مبشرا الناس بأن الاستقرار سيحدث في عمل المنظومة الكهربائية في عموم المحافظات بعد تمكن ملاكات وزارته من تجاوز حالة الاطفاء التام!!! الأمر الذي حدث نهاية الاسبوع، لكن من يستطيع أن يثبت للعراقيين أن هذه الحالة طارئة ولا تحدث مجددا؟ ولم ينسى هذا الناطق بزرع الأمل في النفوس كونه أعلن عن تشغيل منظومات جديدة معلنا في الوقت نفسه أن مجمل الإنتاج بلغ 6950 ميغاواط وأنه سيصل بعد أيام إلى ثمانية آلاف ولم ينسى هذا الناطق أيضا أن يتحدث عن المستقبل لأنه وعد بأن يصل الانتاج من الطاقة إلى رقم تسعة آلاف لكن في تموز المقبل ولم يذكر تموز أية سنة لكون كل سنة بها شهر تموز رغم أنه كان يقصد تموز 2013.
إن العالم يتطور بسرعة جنونية لكن العراق إن لم يكن واقفا في محله فإنه يتراجع إلى الوراء، فنجد العالم حتى مسألة جمع القمامة مرتبة ويستفادون منها ويزودون المنازل بأنواع من براميلها مرتبة حسب الألوان كي تفصل البيوت مهملاتها حسب نوعية الحاوية لأن ذلك وبعد جمعه يكون مؤهلا بعضه لأعادة التدوير والتصنيع كي يستفاد منه المجتمع مجددا، لكن العراق لازال فيه حاويات جمع القمامة التي تكبس كل شيء وتنقله إلى ذات المكان الذي له رواده الدائميون والذين يبحثون فيه عما يستطيعون نقله لكي يتم أعادة تصنيعه مجددا كعلب المشروبات الغازية والنايلون والأخشاب وغيرها وهناك أحياء في بغداد مختصة بهذه التجارة التي تدر على أصحابها الربح الوفير لكن من أين ؟ لأنه يأتي من جهد أطفال صغار يعملون تاركين دراستهم ويعرضون أنفسهم للإصابة بالأمراض كي يجمعون مالا قليلا لهم ولأسرهم!!!
من يرى العراق اليوم يعتقد بأنه ماضٍ بقوة نحو التخلف فلازالت الحيوانات تجوب الشوارع المهمة منها لنقل المحروقات ومنها للنقل العام ومنها حتى كي ترعى على القمامة التي أصبح في كل زقاق وشارع مجمعا لها!!! لأن العراقيين تم توجيههم يوما لتربية الدجاج في المنازل وشهدت الحصة التموينية توزيع عدد منها لكل أسرة وهكذا أصبحنا نعيش مع الدجاج في ذات البيت آملين كل صباح أن نرى بعض البيضات العزيزات وقد جادت بها دجاجاتنا علينا ونُقيت أنفسنا بها أو نزين مائدة الإفطار ببيض العيون الذي يعشقه العراقي!!!، وهذه التجربة كان لها قصص بحد ذاتها فكم من بيت صحا يوما ليجد أن دجاجاته قد تم الاستيلاء عليها وسرقتها وقد ضاع كل جهده وأمله ببيض جديد مع الصباحات المشرقة!!!
نحن في العراق بحاجة لتنمية الشعور بالحاجة إلى التعاطف الموجود غريزيا في الإنسان كي يمكننا من قهر العذاب والمعاناة والعزلة، فحسنا كان يعمل أهلنا في حالة المصائب والوفيات عندما كانوا يجتمعون عند أهل المتوفي ويجلسون ويتكلمون كي يسلونهم، والمسيحيون يطلقون إلى هذا المجلس اسم (التعزية) ويُطلق عليه المسلمون مجلس العزاء الذي أخذ اسم (الفاتحة) تيمنا بالسورة القرآنية التي يتلونها عن روح المتوفى، فهذه تعبر عن التعاطف مع ذوي المتوفي كي يعبرون وأياهم تلك الحالة ويعودون إلى حياتهم الطبيعية، فالإنسان عندما يُعزل عن أهله وأصدقائه يصبح معزولا وكأنه يدور ككوب منفصل في فلك خاص به وأن الكون كله لا يبالي به، لكن الإنسان ليس هكذا ففلكه ليس له وحده لأنه كائن أجتماعي وقديما قال حكماؤنا (الجنة بدون أوادم ما تنراد)، وعندما يشعر أحدنا بالآخر فإن الآخر يشعر بقيمته ويحس بوجوده وتحدث حالة من التجاذب بين البشر وهكذا يصبح المجتمع أكثر قوة وتماسكا، لا كما نحن عليه اليوم في العراق، فقد غاب عنا هذا التماسك وقد أضعنا اللحمة التي تربطنا كون الشك قد دخل انفسنا وفقدنا الثقة؛ أحدنا بالآخر فنشك بكل شيء حتى بالطارق الذي يسأل حاجة ما منا ولقد نسينا كل القيم والعادات الاجتماعية التي كانت تزين أفعالنا، وقد أحللنا العنف محلها فقد شهد الأسبوع الثاني من حزيران 2012 في العراق ربما أسوأ ما شهده العراق من أعمال عنف فالانفجارات بالعشرات والضحايا بالمئات وبشرٍ كانوا يمنّون النفس برضى الله من خلال زيارة إيمانية أصبحوا ضحايا برمشة عين حصدت أرواحهم سيارات مفخخة وتفجيرات هنا وهناك!!!
فهل نتعلم من المحن التي مررنا بها الدروس ونستنتج الصحيح الذي يجب أن ننهجه بعد كل هذا الدمار الذي حصل وهل ستلوح في الأفق نهاية واضحة لكل هذا؟ يجب أولا أن لا نيأس ولا يتعب بحثنا عن قوة العطاء الدائم هذا العطاء الذي تصحبه العاطفة والشعور الإنساني الصميمي الذي غايته الانسان ورفعته وهذه الغايات التي لو سلكنها ستفيض علينا بالكرامات كبيرة كانت ام صغيرة ستكون كل هذه سيلا يجرفنا ويغير حالنا نحو حال مغاير لما نحن عليه اليوم لا بل سنشع للشعوب والدول المحيطة بنا وسيشعر أحدنا بدفيء الآخر وعطفه وحنانه، وسنحدد بدقة حاجتنا الواحد للآخر وعدم أستطاعتنا بالتفريط بحياة أي منا لقيمته الكبيرة لنا، وبذلك سيضيء الأمل مجددا وسيكون لحياتنا معنى مختلفا عما نحن عليه اليوم.
لا نريد للعراق أن يعيش على كف عفريت كونه لا يعلم في أي لحظة أو دقيقة يأتيه نبأ مفجعا ولا نريد لأخوتنا في العراق بأن منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر،
وهذا وغيره ما سنستمر بالكتابة عنه في الحلقات القادمة
... وللذكريات بقية

عبدالله النوفلي
2012
Abdullah_naufali@yahoo.com

ماهر سعيد متي

مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة