النظرية 2- التطبيق وفكرة "الحيود الخاص"

بدء بواسطة صائب خليل, سبتمبر 06, 2012, 12:11:22 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

تحدثنا في الحلقة السابقة () كيف توصلت قبيلة الإنسان القديم لـ "نظرية" تساعده على طرد كل الذئاب بواسطة النار، ولكن ماذا لو حاول أحدهم وهو سعيد بنظريته، أن يطرد ذئباً مرة، لكن هذا الذئب كان جائعاً جداً، فلم يخف من النار وكاد أن يأكله لولا أن صديقه أنقذه؟ عندئذ ربما سيلتفت الصديق المنقذ إلى صاحب "النظرية" ويأخذ منه المشعل ويلقيه بعيداً وهو يقول: ألم أقل لك أن النظرية شيء، والواقع شيء آخر؟

دعونا نأخذ مثالاً آخر. لنتخيل بحاراً قديماً، عرف "نظرية" أن هناك بوصلة سحرية تشير إلى الجزيرة التي يريد الوصول إليها دائماً! وكان صدفة يستعملها للوصول إلى نفس الجزيرة التي تقع في البحر شمال بلاده بالضبط. ولما كان هذا البحار قد قرأ مقالتنا السابقة عن تعميم النظرية، أراد هو ايضاً أن يعمم نظريته عن البوصلة على جميع الجزر. لكنه فشل بالطبع، وبالتالي كانت "نظريته" محدودة جداً في مجال تطبيقها. وضحك البعض منه ومن نظريته. لكنه كان عنيداً فجرب وجرب حتى أكتشف أنه يستطيع الوصول إلى الجزيرة الثانية بعد "يحيد" عن الشمال بزاوية معينة! وسرعان ما اكتشف أنه يستطيع أن يصل إلى أية جزيرة، إن عرف زاوية "الحيود" الخاصة بها عن الشمال. وهكذا تعلم أنه للوصول إلى أي جزيرة يريد عليه أن يستعين بجزئين: نظرية البوصلة من جانب، ومعرفة مقدار "الحيود الخاص" لكل جزيرة عن الشمال، من الجانب الآخر. وحين حاول بعض التجار إقناعه باستخدام نظرية البوصلة للوصول إلى جزيرة جديدة لم يكن يعرفها، ولم يكن يعلم حيودها الخاص، رفض ساخراً من جهلهم  بأسس تطبيق النظرية، وطالبهم ان يعتبوا انفسهم بالبحث عن "الحيود الخاص" بتلك الجزيرة إن أرادوا الوصول إليها فعلاً.

وفي إحدى المرات لم تصل السفينة إلى الجزيرة المرجوة رغم معرفة الخارطة وحساب زاوية "الحيود الخاص" بتلك الجزيرة، وبقي تائها في ا لبحر أياماً. وحين سخر منه رفاقه بين لهم أن البوصلة تشير إلى إتجاه ثابت، وهي بالتالي يجب أن تكون دليلا جيداً بعد حساب الحيود. ولما لم يستطيعوا أن يدحضوا حجته قال أحدهم وهو يرفع أنفه متفلسفاً: نعم نظريتك صحيحة، لكن "النظرية شيء والتطبيق شيء آخر"، وأمسكوا بالبوصلة ورموها في البحر، وعادوا لمدينتهم يتحدثون أنهم "رأوا بعينهم" و"بالتجربة العملية"، فشل "النظرية" وابتعادها عن الواقع، لكنهم لا يفهمون إصرار البحار على نظرية لا تنطبق على الواقع!

لم يطل حزن البحار، فقد أكتشف أن أتجاه الريح وقوتها تغير هذا الحيود الخاص، فشمل الريح بالحساب. ثم أكتشف بنفس الطريقة أن التيارات البحرية تؤثر أيضاً، فأضافها للحساب. وكذلك أنتبه أن وزن السفينة يؤثر قليلاً في نسبة تأثرها بالرياح إلى تأثرها بالتيارات، وكذلك في حساب الوقت اللازم للوصول، فأضاف هذا العامل أيضاً. وهكذا كان حساب "الحيود الخاص" يتطور ويزداد دقة، ولم يعد خاصاً بكل جزيرة فقط، بل خاصاً لكل سفرة إلى اي جزيرة.

إذن متى "تنطبق" النظرية على الواقع، ومتى "لا تنطبق"؟ لنتذكر أن النظرية كما قلنا في الجزء الأول، تنظر إلى الأشياء العامة المشتركة بين الحالات وليس إلى كل شيء، فهي تستثني العوامل الخاصة من حساباتها. لكن هذا لا يعني أنه يمكن إهمال تلك العوامل. النظرية تعفينا من حساب إلى العوامل العامة، وتفرغ جهدنا للتركيز على ما هو خاص في تلك الحالة. فالبوصلة ونظريتها لا تستطيع أن تخبرك عن تأثير سرعة الريح والتيارات المائية على السفينة في تلك السفرة، أو ما أسميناه بـ "الحيود الخاص". والغرض من إطلاق إسم معين على هذه المجموعة من العوامل المتغيرة، هو أن لا ننساها.

هذا "الحيود الخاص" المتغير في كل سفرة او تجربة، هو بطبيعته حيود متغير يحوم حول "الاتجاه النظري" العام ولكن لا يبتعد عنه كثيراً، وإلا فقدت النظرية أهميتها. فمن المتوقع أن تحيد حسابات التيارات والريح، اتجاه السفينة بضعة درجات أو بضعة عشرات من الدرجات، ولكن ليس من المتوقع أن تقلب الاتجاه العام رأساً على عقب، فتتجه السفينة جنوباً والنظري يقول شمالاً! ومع ذلك، ورغم صغره النسبي، فأن هذا الحيود وحسابه الصحيح، امر ضروري وحاسم للوصول إلى النتيجة المرجوة. فبضعة درجات خاطئة، تكفي لكي تمر السفينة بعيداً عن الجزيرة ودون أن تلحظها فتتيه في البحر.

ويختلف مقدار "الحيود الخاص" وصعوبة حسابه من نظرية لأخرى، ومن مجال لآخر، ومن حالة خاصة لأخرى. فيكون أصغر وابسط كلما قل عدد العوامل المتغيرة المؤثرة وقل تأثيرها. فيمكننا مثلا توقع مدة دوران كوكب حول الشمس إلى درجة كبيرة من الدقة، اعتماداً على النظرية وحدها، فلا توجد متغيرات من رياح أو تيارات في الفضاء الخارجي ليحسب حسابها في كل حالة.
لكن ليس هذا هو الحال دائماً، ولذلك تحدث الأخطاء، وتبدو النظريات "لا تنطبق على الواقع" أحياناً.

على بعد بضعة كيلومترات إلى الجنوب من بروكسل، في منطقة "واترلو"، نصب بشكل تل مخروطي مرتفع فوقه تمثال كبير لأسد. إنه مكان المعركة التي هزم فيها نابليون بسبب خطأ صغير في حساب الحيود من قبل أحد ضباطه الذي تاه عن المعركة في عاصفة، وتأخر في الوصول. وكانت النتيجة أن يتغير كل تاريخ أوروبا، ثم تاريخ العالم كله!

نلاحظ إذن أنه لا توجد "نظرية تنطبق على الواقع" و أخرى "لا تنطبق على الواقع". النظرية أما أن تكون "صحيحة" أو "خاطئة"، وقد تكون شاملة أو ضيقة. فإن كانت "خاطئة" فهي لن تصل إلى نتيجة صحيحة. فلو كان البحار يعتقد بنظرية تقول أن البوصلة تشير إلى الشرق، لحكم على رحلته بالفشل مسبقاً، مهما حسب حساب التيارات والريح بدقة. وإن كانت النظرية صحيحة، فقد أدت واجبها وحلت نصف المشكلة الخاص بها،- النصف العام - ونجاح تطبيقها، سيعتمد على صحة حساب النصف الآخر، وليس عليها. ومن الطبيعي أن محاولة تطبيق النظرية خارج مجال شمولها هو خطأ في استعمال النظرية وليس النظرية. كما أنها قد تكون خاطئة جزئياً، حين تدعي شمول مجالات لا تشملها، مثل خطأ قوانين نيوتن في السرع العليا القريبة من سرعة الضوء، أو تصور الإنسان البدائي أن النار تستطيع أن تطرد كل اعداءه، بينما تتحدد قدرتها في طرد الحيوانات المفترسة فقط. ولكن في كل الأحوال، فلا بد أن يمكن تطبيق النظرية على "جزء من الواقع" وإلا كانت النظرية خاطئة. فلا يوجد نظرية صحيحة لا يمكن تطبيقها على الواقع، فهي خلقت من العوامل العامة المشتركة في ظواهر الواقع.

لقد شاعت فكرة "النظرية شيء والواقع شيء آخر" في السياسة والمجتمع أكثر من أي جانب آخر، وبشكل خاص في محاولات تطبيق نظريات الاقتصاد السياسي على مجتمع غير الذي ولدت فيه تلك النظرية، وأكثر من طرح الأسئلة عن صلاحية نظرية ما لمجتمع ما، هم الماركسيون وخصومهم. وكان الحافز على طرح تلك الأسئلة بشكل خاص، كثرة المشاكل وحالات الفشل في عدد من تجارب تطبيق الماركسية على مجتمعات مختلفة. وقد ناقشت ذلك الموضوع في مقالة بعنوان "شروط نفي النظرية" منشورة بحلقتين تناولت الأولى القضايا العامة لنفي النظرية العلمية (1) وكيف نجرب نظرية ما لنعرف إن كانت صحيحة أم خاطئة، ومتى تنفي نظرية، نظرية أخرى سبقتها وتحل محلها، وأقتبس منها الجملة التالية:
" لكي تنفي النظريات الجديدة النظريات القديمة وفق مبدأ نفي النفي الديالكتيكي فأن النظرية الجديدة النافية يجب ان تبرهن على انها قادرة على توقع المستقبل وتفسير الحدث الخاص بها بشكل افضل من النظرية القديمة......النظريات العلمية لا تنفى بالتقادم بل تنفيها فقط نظريات أفضل منها تعبيراً عن الواقع". أما الجزء الثاني فيدور حول نقلة التجربة (التي تستند إلى نظرية) بين مجتمعات مختلفة (2).

أخيراً نقول أن النظرية ليست سوى عامل مساعد، ولا تقوم بالعمل بنفسها. ومن يريد من النظرية أن تعمل ويطبقها مباشرة بدون ملاحظة التفاصيل الخاصة وحساب "الحيود الخاص" لكل حالة، فهو كمن يشتري مسحاة ويتوقع أن تحفر له بستانه بنفسها! فكما أن المسحاة عامل مساعد فقط، فالنظرية كذلك. إنها تختصر جهد الحساب ولا تلغيه، كما تختصر المسحاة جهد الفلاح ولا تلغيه. النظرية إذن أداة مفيدة، لكن فقط حين تستعمل كما يفترض بها أن تستعمل.
عندما كنا طلاباً في الكلية، كنا نجد على مساطر الرسم الهندسي المتقاطعة المسماة (تي سكوير) التحذير التالي الذي يثير الإبتسام لبداهته: لا تستخدم التي سكوير كمطرقة، إنه لم يصنع لذلك! ويبدو أننا بحاجة إلى أن يكتب لنا على النظريات: لا تستخدم النظرية كورقة عمل، إنها لم تصنع لذلك!


الجزء التالي سيكون عن الجانب السلبي للنظرية، واستخدامها إعلامياً لتشكيل صورة الواقع لدينا بما يناسب جهة الإعلام.

(1) شروط نفي النظرية - (1)
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/5vns1.htm
(2) شروط نفي النظرية (2)
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/8vns2.htm





صائب خليل

السادة في الإدارة،
لماذا حذف موضوعي "الجحش القومي" وبدون تنبيهي إلى ذلك رجاءاً؟