النظرية .. فكرة لا فائدة عملية لها؟

بدء بواسطة صائب خليل, أغسطس 31, 2012, 09:31:11 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

ارتبطت كلمة "نظرية" بصورة سلبية لدى عامة الناس والمثقفين، لكثرة تداول جمل تشير إليها بإصبع الإنتقاد أو الاتهام، ولعل أشهرها: "هذا شيء نظري، لا ينطبق على الواقع" أو "لا يمكن تطبيقه"، وبالتالي ارتبطت كلمة "نظرية" بشيء خيالي يمكن استعماله للحديث أو الكتابة أو اللهو والبطر الثقافي، وليس له أية قيمة في الحياة العملية، بل ربما نظر إليه على أنه عبارة "مخادعة" تبعد الناس عن الواقع، بما توحي به من عالم خرافي جميل متكامل يسير وفق المعادلات الرياضية ومفاهيم المنطق.
ما أبعد ذلك عن الواقع، وما أظلمه! فأهم ما أنتج جهد الإنسان من علوم لم تتمخض سوى عن "نظريات"، ولم تكن إنجازاته العملية إلا نتيجة مباشرة لتطبيق سليم لتلك النظريات! النظريات في الفيزياء أسست كل ما أنجز فيه، مثل علم الميكانيك الذي أسسته "نظريات" نيوتن وغاليليو بشكل رئيسي، وعلمتنا كيف نتوقع الحركة والسرعة والتعجيل من خلال معرفة الكتلة والقوة المسلطة عليها، وباسكال الذي علمنا كيف نحسب حمولة السفينة قبل أن نقرر بناءها، وعلمتنا النظريات كيف نحسب كمية الطاقة التي نحتاجها لإنجاز شغل معين، وعلمتنا "نظرية" البابليين القدماء لحساب أبعاد المثلث القائم الزاوية، والتي سجلها فيثاغورس باسمه، والتي أمكن بفضلها وبفضل نظريات أخرى، بناء منشآت لم تكن ممكنة قبلها.
لكن النظريات لا تقتصر على العلوم الكلاسيكية بل دخلت علوم الاقتصاد والحياة وعلم النفس والمجتمع وغيرها، ووضعت "نظريات" حيثما واجه الإنسان مشكلة عويصة يعجز عن حلها بفطرته وحدها.
من أين إذن أتت التهمة التي توجه إلى "النظرية" في كل مكان، ومن أين اتى الانطباع السلبي حين نصف رأي ما بأنه "نظرية" ولا ينطبق على الواقع؟ وكيف أمكن لبعض النظريات أن "تنطبق على الواقع" ويستفيد العلماء منها بثقة، وأخرى تصيبنا بخيبة أمل وتعطي نتائج مختلفة عن ما تحسب النظرية؟
قبل أن نصل إلى جواب لهذا السؤال الكبير، علينا أن نسأل: ما هي "النظرية" وماذا ننتظر منها؟

في حياتنا، نحتاج كثيراً إلى اتخاذ قرارات، ولكي نتخذ قراراً صحيحاً، فإننا نحتاج إلى أن نعرف أموراً معينة نحسب من خلالها نتيجة ذلك القرار. نريد أن نعرف، وقبل التورط به، إن كان سيكون في صالحنا أم لا. لكن حساب كل التفاصيل وتدوين كل التجارب ثم مراجعتها لإستنتاج القرار لكل حالة جديدة، أمر مرهق وغير واقعي، فكيف نتصرف؟

أدرك الإنسان، أنه لكي يستطيع توقع نتائج نشاط ما، فعليه أن يحسب كل ما يؤثر على تلك النتيجة. لكن هذه العوامل من الكثرة والتشعب، ما يجعله عاجزاً عن حسابها، وضمن الوقت المعقول لاتخاذ قرار. لو رأى إنسان يحمل مشعل نار ذئباً فر منه، لأستنتج: هذا الذئب (بالذات) يخاف مني (بالذات) حين أحمل هذا المشعل(بالذات)! ولو أكتشف آخر أن ضبعاً لم يقترب منه حين كان يجلس بقرب نار، لاستنتج: "هذا الضبع يخاف أن يقترب مني حين أجلس قرب هذه النار"! سيفكر الأول: كلما جاء هذا الذئب، سأحمل هذا المشعل، والثاني سيقول: إذا جاء هذا الضبع ثانية فعلي أن أجلس قرب هذه النار! لقد عرف الأول كيف يتخلص من هذا الذئب بالذات والثاني كيف يأمن هذا الضبع بالذات، لكن ماذا عن الذئاب الأخرى والضباع الأخرى؟ هل يجب أن ننتظر صدف أخرى لنعرف كيف نتعامل معها؟ صدفة لكل حيوان مع كل إنسان وفي كل حالة؟ من الواضح أن سيكون علينا أن ننتظر أن يسعفنا الحظ بتجارب هائلة العدد! وحتى لو كان ذلك ممكن حدوث فأن تجميع مثل هذه التجارب وإبقاءها بالذاكرة أمر مستحيل.

لحسن حظه، إكتشف أن "كل الذئاب" كانت تخاف منه إن كان يحمل ذلك المشعل! أي أنه أكتشف أن هناك صفة "مشتركة" لكل الذئاب، وهي أنها تخاف من ذلك المشعل! يا له من مشعل عظيم! إنه لن يحتاج في المرة القادمة أن ينتبه إن كان الذئب الذي أمامه هو نفسه السابق، فـ "القاعدة" تنطبق على جميع الذئاب، وهذا أسهل واسرع بكثير. ثم تبين له فيما بعد أن الذئاب لا تخاف فقط من نار هذا المشعل، وإنما من أية نار! أي إكتشف أن هناك صفة "مشتركة" بين كل نار، وهي أنها تخيف الذئاب، وهذا يسهل الأمور عليه ثانية!

هكذا لاحظ الإنسان (وكذلك الحيوان إلى حد أقل) أن هناك أموراً مشتركة بين التجارب المختلفة. وأدرك أنه إن تمكن من حساب تأثير تلك الأشياء المشتركة مرة واحدة وحفظه، فسوف يحصل على حسابات مجانية جاهزة لكل حالة مشابهة في النقاط المشتركة، وفي هذا توفير عظيم في الجهد والوقت! فلا يبقى عليه حين يصادف حالة جديدة، إلا أن يلاحظ ويحسب الأشياء الخاصة (غير المشتركة) بتلك الحالة، ليصل إلى النتيجة النهائية.
لقد "عمم" الإستنتاج على الحالات التي من نفس النوع، فأصبحت لديه "نظرية" تسهل حساباته. ثم عمم ثانية وجرب وتأكد أن فتوسعت "النظرية" وزاد عدد الحالات التي تقدم خدماتها فيها! ثم عمم ثانية حين أكتشف الآخرون أن هذا ينطبق عليهم أيضاً، وأن جميع الذئاب تخاف من جميع النيران عندما يحملها أي شخص! وبعد تجارب، قرر أن تعميماً إضافياً ممكناً، وهو أن "جميع الحيوانات المفترسة تخاف من النار". هكذا تولدت "نظرية" عامة ثمينة لهذا الإنسان البدائي، ربما لولاها لما استطاع البقاء على قيد الحياة في الغابة.
 
ثم ربما أعجبته الفكرة فحاول أن يعمم أكثر، ففكر: "ربما جميع الأشياء الشريرة تخاف من النار!" لكنه حين جربها أمام أعدائه من القبيلة الأخرى، وجدها لا تعمل. وهكذا اكتشف "حدود عمل نظريته". وهكذا تتولد النظرية وتصقل لتأخذ شكلها الأخير، وهي تقدم لنا خدماتها في كل مرحلة، وحتى بدون أن يعي الإنسان إن كان يتصرف وفق نظرية أم لا.
ولا تقتصر النظريات على الإنسان، فالحيوانات تكتشف قواعدها وتعميماتها الضرورية ايضاً، فهي مثلاً تخشى الإنسان من خلال تعميمها لتجارب مرة عن هذا "الحيوان الغريب" الذي يبدو ضعيفاً، لكنه يستطيع أن يقتل من بعيد جداً!

نصنع النظرية، ثم تصنع هي سلوكنا:

إذن، بعد أن فهمنا الأهمية العظيمة للنظرية والمساعدة التي تقدمها والتي لا غنى لنا عنها للبقاء على قيد الحياة، فلا شك أننا سنستشير "النظرية" في أي شيء نقرره، حتى إن لم نكن نعي أننا نستشير نظرية، أو حتى دون أن ندري أن لنا نظرية في ذلك الموضوع. وهكذا فالنظريات التي نؤمن بها في الحياة، تقرر تصرفنا وتجاربنا إلى حد بعيد.

يخصص ريتشارد وولف الصفحات الأولى من كتاب يقارن بين النظريات الاقتصادية، للحديث عن النظريات بشكل عام، فيقول "أن النظريات التي نؤمن بها تحدد حياتنا إلى حد بعيد. فالشخص الذي يؤمن بنظرية بأن "الحب" مرادف للجنس، سوف يعيش تجربة حياتية تختلف تماماً، عن ذلك الذي يؤمن بوجود علاقة بينهما، لكنهما مختلفان. والحكومة التي تنطلق من نظرية تقول بأن الإنجيل أو ألقرآن هو المصدر الأوحد للقانون، ستتصرف بشكل مختلف عن تلك التي تعتقد بأن الدين والسياسة يجب أن ينفصلا عن بعضهما البعض. النظرية التي تحدد ما هو "جميل" وما هو "قبيح" لدى شعب ما، ستؤثر في طريقة تصميمه لمدنه وأبنيته وكيف يقص أبناءه شعرهم، وما يلبسون وكيف يتصرفون، وهكذا.
وحتى التجارب العلمية تختلف حسب النظريات التي تقودها، والتي تحاول التجربة برهنة صحتها أو خطأها. فلا تستطيع أن تقوم بتجربة علمية بهدف معرفة ما هي المؤثرات بشكل عام على الضغط الجوي مثلاً، دون أن يكون لديك نظرية عن المؤثرات المحتلمة على الضغط، وإلا كانت التجارب هائلة العدد. لذلك فأن "نظريتنا" تقودنا لتحديد تلك التجارب ضمن الممكن، فنجرب لنعرف إن كان الضغط يتأثر بالإرتفاع والحرارة، ولن نجرب مثلاً لنعرف إن كان يتأثر بالضوضاء، مثلاً.
القرارات الاقتصادية التي يتخذها بلد ما، تعتمد على النظرية التي يراها ذلك البلد، او المتنفذين فيه، أنها الأنسب للبلد، (أو للمتنفذين). هل يقررون الاستثمار في الصناعة أكثر أم الزراعة أم البيئة أم تربية الإنسان؟ هل يركز ا لبلد على ما يعطي مردوداً سريعاً ثم يستعمله للتعليم، أم العكس؟ ما هي أسباب الفقر؟ هل هو الكسل الفطري لدى البعض من الناس أم النظام الاقتصادي الذي يدفع بالبعض إلى الفقر والبعض الآخر إلى الغنى؟ هل أن اخلاق الناس تحدد موقعهم الاجتماعي والاقتصادي، أم العكس؟ هل تسهم الخصخصة في انتعاش البلد واستفادة سكانه أم تزيد الفساد ورشاوي السياسيين وتتهرب من الضرائب؟

إضافة إلى تلك الأسئلة العامة، فأن "النظرية" التي يحملها الفرد في كل دولة أو مؤسسة تجيب عن الأسئلة الخاصة بأمور تلك الدولة أو المؤسسة. فمثلاً في العراق، يتخذ المواطن موقفاً من خلال نظريته، يحدد إجاباته على الأسئلة التالية: هل يجب أن نعمل من أجل فدرالية تعطينا استقلالنا النسبي عن الحكومة المركزية لحل مشاكلنا، أم أن نصر على حل المشاكل ضمن العراق ككل؟ هل تصح الخصخصة لإصلاح حال الكهرباء، أم أنه مجرد محاولة إضافية لسرقة أخرى؟ هل يجب منع رئيس الوزراء من ولاية ثالثة خوفاً من تثبيت حكم الفرد، أم نؤيده لأنه أفضل من يستطيع أن يعبر بالبلد أزمته الحالية الخطيرة؟ هل أسست أميركا الإرهاب في العراق أم تساعد على حمايتنا منه؟ هل نحتاج إلى حماية الناتو أم أنه خطر على استقلال العراق؟ هل نحتاج إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للمشورة ودعم المشاريع الاقتصادية أم أنهما مؤسستان خلقتا للإيقاع بالبلدان وابتزاز ثرواتها؟  وهكذا.. "نظرياتنا" عن العالم تقرر لنا أجوبتنا عن كل ذلك!

النظريات ليست ثابتة، إلا أن تغييرها يتم عادة ببطء وبعد الكثير من الأدلة والمعلومات الإضافية المتجمعة، وعندها تتشكل نظرية أفضل منها فـ "تنفي الأولى" وتحل محلها، لتأتي فيما بعد نظرية أخرى أفضل فـ"تنفي" النظرية الثانية وهكذا، وهو ما يسمى بمبدأ "نفي النفي" حسب تعبير ديالكتيك هيجل.

إذن فالنظرية" ليست ذلك الشيء الوهمي الفلسفي الذي لا يفيدنا في "الواقع" و"لا ينطبق عليه"، بل أمر اساسي لا غنى لـ "الواقع" عنه، ولا يستطيع الإنسان البقاء بدون "نظرية"، فتبقى النظرية تحدد سلوك الإنسان وقراراته، ولا يتركها مهما تقادمت ورأى نقصها، حتى تأتي نظرية أخرى تحل محلها.