رجل الدين ... رجل السياسة، بين الحقائق والمحدِّدات /لويس إقليمس

بدء بواسطة برطلي دوت نت, سبتمبر 18, 2018, 09:32:54 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

رجل الدين ... رجل السياسة، بين الحقائق والمحدِّدات     
   


برطلي . نت / بريد الموقع

لويس إقليمس
بغداد، في 10 أيلول 2018




للسياسة والإدارة فلسفات وفنون ورؤى عديدة، متناغمة أو متناقضة، قد تختلف من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر ومن دين لآخر. وهذا ما يجعل شكل البلدان والشعوب والأمم، وأسلوب حياتهموطريقة تفاهمهم متباينة بحسب طبيعة النظام وشكل المفاهيم التي تتبعها أنظمة الحكم والحكومات. لذا لا بأس في اختبار الدول والمجتمعات عددًا من هذه الأنظمة للوقوف على الصالح منها، هذا إن وُجد، وتعلّم فرزه من السيّء الذي مازال ينخر في أسس هذه البلدان ويحيل شعوبها إلى قطيع خانع تتلاعب به أيادي قذرة لا تعرف مخافة الله، بل وتتكابر على حاجات الشعب وتتاجر بمآسيه كلّما أُتيحت الفرصة وفي غفلة من شعوبها المنبطحة والنائمة إلى ما شاءت الأقدار. والأنكى من هذا وذاك أن يُقحَمَ الدين وأركانُه ومرجعياتُه وأدواتُه في أتون صراعٍ أو تماهٍ أو نفاق مع أنظمة الحكم ولصالح زعامات سياسية تتقاسم المغانم والمنافع بعيدًا عن مصالح الوطن العليا ولملمة الجراحات التي يتزايد ثخنُها مع مرور الأيام وتوالي الأشهر والسنين.
هذه حال جلّ الأنظمة الحاكمة في منطقتنا العربية والإسلامية التي ارتقت الحكم بالوراثة أو بطرق ملتوية بعيدًا عن الديمقراطية الصادقةوالجدارة والكفاءة والاستحقاق، إلاّ ما ندر! ولعلَّ نظرة بانورامية على الواقعالمتهرّئ في هذه الحقبة من الزمن المتراجع، كفيلة بالحكم على ما نشهده من صور الاستهتار والاستخفاف بمصائر الشعوب في استخدام الظاهرة الدينية وتوشيحاتها في كواليس السياسة، من أية ديانة كانتومن دون استثناء. ولنا في الأمثلة القائمة ما يحصل حاليًا في العراق حصرًا منذ سقوط النظام البائد، حيث أصبح التستر بالدين والتعكّز على مرجعياته ورموزهمن أسهل السبل، بل السبيلَ الأكثر سلوكًا لبلوغ المآرب وتسلق المناصب ووضع اليد على كلّ ما يتيسر لطالبه من دون حدود ولا قيود ولا محدِّدات، كما شهدناه لدى السنّة والشيعة والمسيحيين وديانات أخرى على السواء! فقربُ هذه الشخصية المتعكزة على مراجعأو شخصيات دينية مؤثرة في سياسة البلد أو حتى الإدّعاء بقربها من هذا المرجع أو تلك الشخصية، كفيلٌ بتخويف الناس وتهديد المجتمع وفرض الإرادة على المؤسسة أو الدائرة التي تخشى سطوة هذا النموذج من الأدعياء والمنافقين والتجار. وهذا ما خلق مساحة واسعة من الاستياء العارم والغضب الشعبي في الشارع، ليس إزاء زعامات سياسية وأشخاص متنفذين في السلطة بل تعدّى ذلكبعضَ الرموز الدينية التي كان لها وزنُها وتتحلى بوقع مؤثر في صفوف العامة والخاصة. وقد فُهمَ من مثل هذا السلوك المدان تدخلُنفرٍ من رجال الدّين في شؤون السياسة، ما يوحيبفرض إرادة دين أو مذهب أو طائفة على غيرهم من أبناء الوطن.
إنّ مثل هذه الوسيلة الجارية في الأوساط السياسية منذ سنين، تمثل بحدّ ذاتها شيئًامن المسلّمات التي تقرّ بأن يتحول الحكم على مَن يمارس مثل هذا السلوك المغلوط والخطير إلى ظاهرة استياء واستنكار واتخاذ موقف صادم بسبب اعتماد هذا المسار سفيرًا سهلاً وتأشيرة مفتوحة لاستغلال كلّ شيء وأيّ شيء ومن ثمّ الدفع باتجاه الحصول على مكاسب ومنافع وترشيح لمنصب خارج إطار الكفاءةوالاستحقاق، ليس لشيء بل بسبب التقرّب من هذا المرجع أو الانتماء لهذه الهوية الدينية أو المذهبية، أو لهذا الحزب المغمور العامل تحت لواء ورعاية هذا المرجع أو ذاك السيد المعمَّم. وهذا ما يشير إلى مفهوم إفساد الدّين بالسياسة والعكس صحيح في الاتجاهين. فحين يتداخل الدين بالسياسة يُفسد أحدُهما الآخر ولا مجال لإصلاح بينهما تحت أية ذرائع. وفي النهاية لا يصح إلاّ الصحيح، بضرورة ترك السياسة لروادها الحقيقيين وليس الطارئين والدخلاء من الفاسدين واللصوص، وإيلاء الدينَوأصحابَه ومرجعياته الصادقين الأتقياء في مخافة الله ما يستحقونه من احترام وتبجيل بالانصراف لإصلاح المجتمع وذات البين بين الناس.
في المجتمعات المتحضّرة، يُنظرُ إلىالدّين والمعتقدبكونه علاقةً خاصة سامية بين الله وعباده، بين الخالق ومخلوقه، وليس من شأن أحد، حاكمًا كان أو رجل دين أو عالمًا أو أي صفة يحملها الإنسان، أن يفرض رأيه وإيمانَه ومعتقَدَه بالدين أو المذهب أو المرجع الذي يعود إليه أو يدّعي السير وفق طريقته. وما أكثر ما صدر من تصريحات من لدن مسؤولين في السلطة ونواب باتباعهم طريقة هذا المرجع أو ذاك تبجحًا وتزلّفًا. في حين كشفت الحقائق اليومية والسلوكيات العملية عكس هذه التصريحات والإشارات. ثمّ أنّ الحرية الدينية والإيمان باللهحقٌ من حقوق البشر في تبنّي هذا المعتقد أو عدمه أو حتى في الإيمان بوجود الله أو عدمه.فلا فضلَ لإنسان على سواه، ولا تفضيل لبشر دونه سوى بما يقدّمه من الفعل الصالح والعمل الطيّب له ولمجتمعه ولبلاده ضمن ما حلّله الرب الخالق وحرّمته الرسالات والأديان وما أقرّته لوائح حقوق الإنسان ودساتير البلدان المتقدمة التي تسامت فوق الأديان والمذاهب. ومن ثمّ، فالدّين يبقى مسألة جدلية متحرّرة تتيح للإنسان، أي إنسان، أن يتصرّف وفق رؤيته واستعداده وقناعتهومَلَكَتِه البشرية وطبيعة نظرته للحياة وللمسار الكونيّ ومَن يقف وراء هذا التشكيل المعقّد من العناصر والأجرام والحياة، وفيما إذا كان وراء هذه الفانية مثوى آخر من عدمه. وهذه هي إشكالية العلاقة القائمة بين القوة الدافعة الخارقة التي تقف وراء تركيبة الكون والتي نعزوها مجازًا للإله أو الرب الخالق في خليقته!
من هذا المنطلق يبقى الإنسان مخلوقًا حرّاً في تصرفه وسلوكه، لأنّه هكذا خُلق حرًّا وليس عبدًا. فمَن شاء آمن بما اعتقد به ومضى في طريقه، ومَن لم يشأ يبقى حرًا غير قابلِ العتب والاتهام والتكفير. كما أنّ الله الخالق ليس بالضعيف العاجز كي يوكِل بشرًا ضعيفًا مخلوقًا من طينة كي يتولى أمرَ حسابِ أخيه البشر المجبول من ذات الطينة وذات التراب عبر السوط والتهديد والجلد والعقاب. أمّا أن يُصار إلى إقحام الدين ومرجعياته بالسياسة فهذا من باب الفضول المفضوح والاسترزاق المشبوه والتزلّف المستنكر والنفاق الواضح. لذا إذا شاءت الأمم والشعوب أن تتحرّر وتتقدّم وتتطور لابدّ من تحرّرها وانعتاقها عن قيود الدين من خلال فصله عن السياسة. فالسياسة وروّادُها وراكبوها أبعد ما يكونون في احترامهملإرادة الله والخشية من المحذور لكون إدارة السياسة غير إدارة مؤسسة دينية التي من بين واجباتها الأساسية النصح والإرشاد والتوجيه والقدوة الحسنة وليس الشراكة أو المشاركة في تبنّي مشاريع استثمارية وتجارية وتكديس الأرباح وامتلاك العقارات ومزاحمة أرباب العمل في القطاع الخاص عبر سياسة دعم هذا الحزب أو التعاطف مع هذا السياسي أو الوقوف مع ذاك الشخص طمعًا بتحقيق مكاسب ومنافع.

صرخة البصرة ضدّ الفساد
في ظل الظروف الساخنةالتي يعيشها الإنسان العربي في منطقتنا المشتعلة منذ عقود، والعراق خير مثالٍ، تتعقد المشكلات وتتقاطع الأفكار وتتباين الأحكام في أغلب الأوقات بسبب سوء الفهم الواضح في تقدير مهمة أرباب الدين والمؤتَمنين عليه وأدواتهم،مع المختلفين عنهم أم مع المصطفين معهم من أصحاب الشأن السياسي الذين يمسكون بعصا السلطة وفي أيديهم كلّ أشكال القوة والمال والجاه والقهر والاستعباد. فإنْ خضعَ صاحبُ الدين ومرجعُه وأتباعُهلسلطة أولي الأمر، لقوا الأمان وتقاسموا "الثريد"والسمن والعسل على مائدة السلطان وأتباعه من المتسلطين من وعاظِه من الذين نسوا أنهم صعدوا من ذات الصفوف من عامة الشعب. ولا يتردّد نفرٌ من هؤلاء بمدّ الأذرع طويلاًللقضم ما استطاعوا من الكعكة الكبيرة التي يتزاحم ويتقاتل عليها زعماء الأحزاب ومَن في دارتهم، حتى لو كان ذلك بفعل الفساد وبقصد نهب المال العام وفرهدة (من الفرهود) خزينة الدولة التي يعدّها نفرٌ من أتباع بعض المذاهب حلالاً زلالاً، شأنهم شأن مَن يحلّل الاستعباد وسبي النساء ووأد البنات وما سوى من هذه الترّهات والتخاريف والأحكام الظالمة التي لم تعد تجاري العصر ولا الفكر ولا العلم.أما مَن يقف بالضدّ من هذا السلوك المشين أو يعترض أو يرفع صوته غاضبًا، فما عليه سوى الانتظار وطول الأناة والوقوف في طوابير الفرج ورحمة السماء في الصفوف الأخيرة وتوخي العواقب.
ما يجري اليوم من ظلمٍ ومن قهرٍ بسبب الفاقة والحاجة لأبسط مسلَّمات الحياة البشرية في جنوب العراق، وبالذات في البصرة الفيحاء، لم يكن بدّ من الانتفاضة والثورة بسببه إذا أُريد "للدنيا أن تُخذ غلابا وليس بالتمنّي أو الانتظار" بعد الإهمال والتقصير اللذين عانتهما هي ومثيلاتُها من محافظات البلاد. وبعكسه، كان على أهلها تسليمُ الأمر لله والأقداروالدخول في احتضار بطيء لمدينة تُعدّ ثغر البلاد ومصدر ريعها الأساس.فقد سئم أهلُها، وهُمْ من أكثر المتضرّرينفي البلاد في هذه الأيام السوداء في حياتهم، وملّوا تكرارَ الوعود وأساليبَ الدجل والكذب والنفاق من الحكومة المركزية والمحلية والزعامات الحزبية والسياسية من دون استثناء وهم يُشاهدون بأمّ أعينهممنذ أكثر مِن عقد،سفهاء ولصوصًا من أحزاب دينية تولوا سرقة ثروات مدينتهم وميزانيتَهافي عزّ النهار وحلكة الليل بأساليب وطرق مستنبطة من دون رقيب ولا حسيب. فقد صار "حاميها حراميها". وإلاّ أيُعقل أن تبقى مدينة تطفو على بحيرات من ذهب تعاني من أبسط الخدمات الآدمية ومن بطالة ومن فاقة، فيما زعامات الأحزاب، وأغلبُها بغطاء دينيّ، تتبجّح وتتقاسم الكعكة على بصيرة من الملأ وبعلم وربما بتنسيق من أركان الحكومة والرئاسات التي تتستر على هذه السرقات، بطريقة التغطية المتبادلة بين الفاسدين الذين لا يمكن استثناء أحدٍ بعد اليوم؟؟؟
هذه هي الحقيقة وليس غيرُها ممّا يمكن الحديث أو التغاضيعنه. وهنا فقط، تسابقت الأحزاب الدينية، الشيعية بخاصّة، كي تعترض على غضب الشعب وانتفاضته بعد ازدياد حمّيتهبحجة تدمير المقرّات والرموز المتسلطة. فقد اتضح بما لا يقبل الشك، أن الانتفاضة الشعبيةقد هزّت عروش الفساد في هذه المدينة العريقة وأيقظت ضمائر الفاسدين والمفسدينمن سباتهم في طول البلاد وعرضهاكي يتعاطفوا إعلاميًا أكثر منه فعليًا مع مصائب الشعب الذي فقد أبسط مستلزمات الحياة اليومية وهو الماء الصالح للشرب والكهرباء الذي يغذّي كلّ شيء والخدمات التي يستحقها أي مواطن في أيّ بلد. ومّن يعتقد بانتهاء أوار الانتفاضة ووأدها، فالأيام القادمة ستكشف عمق خطأه وقصر نظره حتى إزاحة جميع رؤوس الفساد والزعامات الدخيلة والمراهقة ومن مزدوجي الجنسية الذين ركبوا الموجة وحكموا البلاد وهم غير أهلٍ لها، ومن ثمّ محاسبة اللصوص واسترجاع الأموال المنهوبة والأرصدة المسروقة المودعة في بلدان الاغتراب.

التغيير الشامل مطلب الشعب
قساوة الحياة وسيادة حكم السلاطين ولهاث الوعّاظ من مُحدثي النعمة بالطريقة الفاسدة التي أجاد فيها الزعماء السياسيون والمسؤولون على رأس الحكمتحريرَها تشريعًا وتنفيذًا، قد بلغت أوجهَا ولابد اليوم من تغيير جذري في سياسة البلاد وفي العملية السياسية برمتها. أمّا الإصلاح الذي تحدثنا عنه فيما سلف حينما كان في متناول اليد،أو الذي مازال البعض يتحدث عنه سبيلاً للخروج من المأزق، فقد ولّى أمرُه بعد أن فقد مكانه واستنفذ زمانَه حين كانت الفرصة مؤاتية للقيام به قبل سنوات خلت، وبالذات في زمن الحكومة المنتهية ولايتُها التي لم تحقق شيئًا من الإصلاح الذي وعدت به والذي ظلّ مدفونًا في عبارة التسويف المشهورة "سوف"، بالرغم من التأييد العام والخاص الذي كانت قد نالته في بدء تشكيلها.
كنّا نتمنى أن يكون صوت المرجعية الشيعية حاسمًا في تحديد مكامن الخلل وفضح مواقع الفساد والفاسدينوتسميتهم بمسمياتهم وأسمائهم وشخوصهم وليس بالتعميم والنصح العام والتوجيه والدعوة للإصلاح فحسب، طالما حصل تدخلُها في السياسة أمرًا واقعًا. فهذه الأخيرة رغم أهميتها وضروراتهامنذ التغيير الذي حصل في 2003، إلاّ أنَّ صداها لم يعد فاعلاً بعد مضي عقد ونصف على ذاك التغيير الذي لم يحقق شيئًا إلا في الخلاص من "نظام دكتاتوري بائد" بنى البلاد وعمّرها ونفّذ مشاريع كثيرة أكثر مما ادّعاه القادمون الجدد الذين لم يقدّموا شيئًا، بل حتى القائم من ذلك الإعمار في الزمن الماضي أحدثوا فيه الخراب والدمار.وهذا ما يلاحظه الشارع الغاضب في موقف المرجعية الشيعية العليا الذي لم يتوضح حتى الساعة حيث شمُّ رائحة التواطؤ أو المجاملة أو "الطمطمة" والتستّر لصالح جهات متنفذة في السلطة محسوبة عليها لم تقدّم للبلاد سوى الدمار والخراب والفساد وخواء الخزينة والمديونية الفاضحة وتعطيل الصناعة الوطنية وجفاف موارد المياه وما أكثر غيره من هذه وتلك. فرسالةالمرجعية الشيعية بالذات، بقيت عامة وغامضة ومدجّنة بالألغاز والهمس والغمز، أو في حدود النصح والإرشاد والخطب، ليس إلاّ. وهذا ما حدا بمراقبي الأوضاعفي الشارع البصري والوطني على السواء أن يوقنوا بضعف قرارها وبترك الكرة في ملعب البرلمان وبما يُسمّى ابتداعًا بالكتلة الأكبر في اختيار رئيس للحكومة القادمة.
إن هذه الحالة من الضبابية في القرار وفي عدم تحديد النقاط على الحروف، قد خلقت استياءً في الأوساط الثقافية أيضًا، التي خرجت تأييدًا للشارع البصري وقبلها في الشارع البغدادي طيلة أربع سنوات من الضياع والفساد في الإدارة والسياسة معًا.وإنْ يكن هناك مَن تجرّأَ وعلا صوتُه من صفوف العامة والخاصة بحصر الفشل في السلطة التشريعية المنتفعة من العملية السياسية برمتهاوفي ضعف الأداء الحكومي والإداري لمؤسسات الدولة وأركان الحكومة بجميع وزاراتها، إلاّ أن مثل هذه الأصوات الصادقة الصارخة بقيت في حدود التمنيات والرصد والمراقبة من دون إصغاء أو تنفيذ بسبب ضعفها وضآلة تأثيرها في العملية السياسية. وجاء أخيرًا صوتُ الشعب الذي بدا أعلى واشد وقعًا من صوت أية جهة أو مرجعية ادّعت الحرص الصادق على حقوق الشعب والمساواة بين صفوفه وتحقيق العدالة التي ظلّت منقوصة بتفضيل مصالح ومنافع فئة دون غيرها.وهذا من أسباب التراجع والتخلّف في تلبية الحقوق وتنفيذ الواجباتحينما يغيب الحس الوطني ويختفى الضمير الإنساني من نواب السلطة التشريعية أولاً من الذين تخلّوا عن الأمانة التي وضعها الشعب في رقابهم وأتى بهم إلى الواجهة، وكذا من السلطات الأخرى التي من المفترض أن تبدي حرصها على مصالح الوطن والشعب، ولكنها آثرت اللهاث وراء مصالحها الحزبية والمذهبية والعرقية والشخصية فيما تركت الشعب في حالة من الفقر والفاقة والجوع والعطش والبطالة ونقص في الخدمات الآدمية البسيطة.والأيام أثبتت أنه مهما طغى الحكام واستأسد وعّاضُهموتفاقم ظلمُهم وكثرت خطاياهم، فإنّ وجع الفقراء سيبقى مهمازًا للتغيير والبحث عن الأفضل وليس الاصطفاف في صفوف الفاسدين وسرّاق الشعب وناهبي ثروات البلاد.
في الآخر، هناك حقيقة قائمة في أي تغيير مرتقب في شكل العملية السياسيةيتمثل في خوف بعض الجهات المتنفذة والحاكمة ومَن يساندها في الخفاء والعلن من كشف المستور وفضحمنافذ الفساد والإشارة إلى أدوات الفشل في الدولة العراقية في ضوء ما يعانيه مجتمعنا البائس المسكين المستكنّ في دوّامة طول الصبر ومرارة الانتظار الميؤوس منه بخاصة في هذه الأيام السوداءالتي نشهد فيها أشكال الصعوبات والمناكفات التي تعرقل تشكيل حكومة وطنية نزيهة اليد ونظيفة الذيل بعد أن بلغ السيلُ الزبى. فعندما حثّت المرجعية السياسيين وزعماء الكتل بالإسراع بتشكيل الحكومة، بدا من الواضح أن الرسالة وصلت وهيتتضمن لملمة أخطاء الماضي والتستر عليه بكلّ فضائحهومفاسده وشخوصه من جانب اللاعبين الكبار وأذيالهم ممنعاثوا بالوطن وثرواته، وممّن شكلوا دوائرهم الاقتصادية ضمن كتلهم وأحزابهم من أجل تكديس أمولهم وأرصدتهم واستغلالها في استثمارات عقارية في دول الجوار والعالم. وهذا الأمر، إن وقع فعلاً، فقد تسقط بسببه الكثير من الأقنعةولاسيمّا ممّن هم في عداد الرموز الدينية التي لا ترضى بتغييرات تؤثر في شكل المحاصصة الطائفية القائمة بين الكتل.
لقد ثبت بما لا يقبل الشك، فشلالسلطات الثلاث في إدارة دفة الحكم في البلاد بعد أن أدارت الأحزاب الحاكمة في السلطة ظهرها لمصلحة الوطن ومواطنيه وأخذت جانب النهب من الموارد الريعية وغير الريعية عبر تقاسم المغانم وفق أساس المحاصصة الذي بُني عليه الدستور الأعرج. وهذا ما تتخوّف منه المرجعية الرشيدة العليا من أن تفتح هذه الملفات في حالة حصول تغيير شامل في إدارة دفّة العملية السياسية. فمتى صحا الساسة وقبلوا الجلوس في منبر الاعتراف أمام الشعب وصارحوه بالنية الصادقة في خدمة البلاد والعباد وإعادة الأموال المنهوبة والمسروقة والمختلسة، حينئذٍ يمكن الجزم ببدء مشوار التغييرالحقيقي الشامل الذي يبدأ بأول خطوة عبر رفض جميع الوجوه السياسية التي سطت على الحكم سواءً بدعمٍ من الغازي الأمريكي وأذياله أو من دول الجوار،  وقد قالت فيهم الإدارة الأمريكية كلامًا لا يُحسدون عليه عندما وضعتهم في خانة اللصوص والسراق والفاسدين. وهذا يكفي! وإن لم يحصل هذا، وهذا ما هو متوقعبسبب تقاطع إراداتأتباع مثل هذا المطلب الشعبي مع مصالح الأحزاب الحاكمة في السلطة والمتهمة معظمها، إن لم نقل جميعُها، بالفساد وسود الإدارةمنذ 15 عامًا، حينئذ،يكون البديل القادم عبر حاكم مدنيمستقلّ بعيدٍ عن أحزاب السلطة يُتفق عليه، أو فرض حاكم عسكري يتحلّى بالجندية العراقية المعروفة بالصرامة في تطبيق القانون والنظاموبالحكمة وقوّة الإدارة والإرادة في تقدير حاجات الشعب وأولوياته بعيدًا عن المحاصصة وأحزاب السلطة.