كيف تدير مصالحك أمام قوة عظمى؟ 2 – مبادئ الصراع مع الأقوى

بدء بواسطة صائب خليل, مايو 28, 2011, 12:27:21 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

كيف تدير مصالحك أمام قوة عظمى؟ 2 – مبادئ الصراع مع الأقوى


هذه هي المقالة الثانية من هذه السلسلة، وكان المفروض ان تكون مخصصة لإمكانيات الدولة الأضعف في الدفاع عن مصالحها عن طريق الممانعة، على ان تكون الأخيرة لطرق ضمان المصالح بطريق المصاحبة، وهي تستند عموماً على كتاب "تدجين القوة الأمريكية" لـ ستيفان والت. لكن قبل إكمال بقية الأجزاء، ولإشكالية فهم هذه الحالة التي تبدو غريبة للقارئ العربي كما اكتشفت، وجدت من المفيد توضيح مفهوم الصراع مع الأقوى ولماذا يمكن تحقيق النصر عليه أحياناً، وبالتالي فهذه المقالة خارج نطاق الكتاب المذكور وتعتمد على أفكار شخصية في معظمها وقراءات متفرقة.

1- مبدأ "المدافع ينتصر". 

ليس دائماُ طبعاً، ولكن في حالة تقارب القوتين، فأن الدفاع ينتصر في الغالبية الساحقة من المعارك. من المعروف عسكرياً، على المهاجم أن يكون ثلاثة أضعاف قوة المدافع لكي تكون له فرصة للنصر. فالمدافع متحصن في مكانه، إمداداته وخدماته موجودة، ليس مكشوفاً لسلاح المقابل ولا لظروف الطبيعة..كذلك فالمدافع أكثر حماساً للصمود، وأكثر استعداداً للتضحية من المهاجم بشكل عام.
ولا يقتصر الأمر على الجيوش، بل لاحظ علماء الحيوان ان من يدافع عن منطقته، يفوز دائماً تقريباً، رغم أننا لسنا هنا بصدد انكشاف أمام أسلحة أو ظروف طبيعية. لكن الحماس  الناتج من ما يصفه الكاتب بـ "العرف الشائع" الذي يفهم المدافع من خلاله بأن ما يدافع عنه هو حقه، وأن هذه ارضه، وأن ليس فقط من مصلحته بل من واجبه الدفاع عنها. هذا المفهوم يبقى هو الفارق الحاسم، كما يؤكد "ديفيد باراش" في  أحد فصول كتابه الجميل "لعبة البقاء"،(The survival game) الذي يدرس فيه تطبيق "نظرية الألعاب" على تصرفات الحيوانات، ويتوصل إلى نتائج مدهشة.
والحقيقة أن هذا المبدأ هو في أساس استقرار اي نظام. فلو كانت الأفضلية للمهاجم، لكان النظام في "هجوم مستمر" وصراع مستمر، وبالتالي فلا يوجد أي نظام لأنه سيكون في حالة تغير مستمر.
وطبعاً تأثير "العرف الشائع" واعتبار صاحب الأرض أنها حقه، ينطبق على الإنسان بنفس الدرجة على الأقل. كما أن القوانين الدولية، على ضعفها أحياناً فأنها تبقى رادعاً هاماً في صالح المدافع.
ومن الجدير بالملاحظة أن الإعلام الإسرائيلي مدرك تماماً لهذه النقطة، لذلك فهو يشيع بإصرار بأن الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وحتى تلك التي يحتلها المستوطنون، بأنها "أرضهم"، وتراهم مقتنعين بأنها كذلك فعلاً، مما يجعل الحل السلمي عسيراً للغاية.
والحقيقة أن ظاهرة قوة وعزيمة المدافع قد لا تكون مسالة "عرف شائع" فقط، وإنما لأن ما يخسره المدافع عادة أكثر أهمية بالنسبة له، مما هو للمهاجم، فهي بالنسبة له تعني المصير، وبالنسبة للمهاجم، تعني مكسباً أضافياً فقط.
ويؤكد الكاتب عامر محسن أن التكنولوجيا تخدم الدفاع أكثر مما تخدم الهجوم.(1)

بالنسبة للعلاقات الدولية، فأن هذه التأثيرات الخاصة بقوة مركز الدفاع، قد تنفع عندما يكون فرق القوة معقولاً، بين دول من حجم متقارب، لكنها لن تكون كافية عندما يكون الفارق هائلاً كما هو بين أميركا والعراق مثلاً، لكن هناك أشياء أخرى....

عندما نذكر كلمة "صراع" فإننا نتخيل مباشرةً تنافساً بين طرفين، كما في لعبة الشطرنج، لكن هذا مضلل.
لذلك فإن إسقاط مفاهيم وقياسات الشطرنج ،أو أية لعبة ثنائية شائعة، للربح والخسارة، على الصراع في الحياة وبين الدول، يستجلب معه أخطاءاً كثيرة هامة واستنتاجات مغلوطة خطرة أحياناً. ففي الشطرنج، إن خسرت فيلاً مقابل رخ يخسره رسيلك، فأنت رابح. لكن الحال ليس كذلك في الحياة غالباً، لحسن الحظ.
الصراع في الحياة الحقيقية يختلف عن الشطرنج في نقطتين أساسيتين، وضروريتين لوجود نظام ما في الحياة، وهذين الإختلافين الأساسيين هما ما يشكل المبدئين الثاني والثالث في هذه المقالة. هاتين النقطتين هما أن الشطرنج لعبة 1- حياة أو موت 2- بين طرفين فقط.

2- مبدأ 2: الحياة ليست "لعبة مجموع صفري"، أو: أذى المقابل لا يعني فائدتك دائماً 

الشطرنج لعبة حياة أو موت. لذلك فكقاعدة عامة، كل أذى للمقابل إنتصار لك في كل الأحوال، وعلى قدر خسارة المقابل يكون مكسبك، وبالمقابل فكل أذى يصيبك مكسب للرسيل المقابل وبنفس حجمه. فكل ما "يميت" رسيلك، "يحييك" وكل ضربة لمصالح خصمك، تحقيق لمصالحك، ولذا  فليس هناك لاعب يتردد في القيام بنقلة تكون نتائجها النهائية خسارة بيدق مقابل أن يقتل فيل من المقابل. فهو يحسب أنه "حصل على" فيل مقابل بيدقه. في الحياة، ليس الأمر كذلك، لحسن الحظ. فخسارتك لبيدق تعني خسارة بيدق. أما الفيل الذي قتلته من المقابل، فقد لا يعني الكثير  بالنسبة لك في سعيك لتحقيق مصالحك.
الشطرنج يصنف في هذه الناحية، حسب تعبير نظرية الالعاب: "لعبة المجموع الصفري"، أي أن مجموع الخسائر والأرباح بين الطرفين يساوي صفراً دائماً، فكل ما يربحه الأول يجب أن يخسره الثاني وبالعكس. فلو اتفق لاعبا الشطرنج على التعادل من اول نقلة وقبل ان يضرب اي منهما الآخر، أو اتفقاً على التعادل بعد أن حطم كل منهما الآخر حتى لم يبق لأي منها سوى الملك، فالنتيجة سيان، ولا يفضل أي من اللاعبين التعادل بلا صراع على ذلك الذي يأتي بعد تحطيم القطع.

الحياة مبدئياً ليست كذلك، فالحرب النووية التي تؤدي إلى تحطيم الولايات المتحدة المتحدة والسوفيت معاً، لا تساوي في نتائجها بالنسبة لللاعبين، أن يتفقا على أن يعيشا في سلام معا.

لقد اوقعت إسرائيل في لبنان عام 2006 وغزة 2009 خسائر هائلة بالجانب العربي المقابل، ولم تخسر شيئاً يستحق الذكر في كلتيهما، ومع ذلك فالكل يجمع على أنهما كانتا أول هزيمتين عسكريتين حقيقيتين لإسرائيل، فكيف ذلك؟
ببساطة لأن إنزال الخسائر بالمقابل، ليس دائماً نظيراً لتحقيق انتصارك، اي تحقيق أهدافك ومصالحك. وكانت اهداف إسرائيل تتمثل في التخلص من حزب الله وحماس، او على الأقل تحطيم وجودهما العسكري والسياسي والشعبي، ولم يتم تحقيق أي من تلك الأهداف أو المصالح، بل سجلت هزيمة في مصالح عديدة منها تحطم أسطورة قدرتها على تحقيق اي من اهدافها بتفوقها العسكري، إضافة إلى الخسارة الهائلة في موقفها الإعلامي أمام العالم، والذي أدى إلى تداعيات كثيرة ماتزال مستمرة التراكم، فكانت تلك المعارك القشة التي قصمت ظهر الجمل في خسارة علاقتها مع تركيا، وايضاً كان لها تأثير واضح في الثورة المصرية والتونسية وعرقلة تقاربها مع الإتحاد الأوروبي لفترة من الزمن، وتداعيات أساطيل الحرية إلى غزة وخسارتها الأخلاقية الكبيرة عالمياً.
إذن ففي حساب المصالح، كانت تلك المعارك هزيمة منكرة للأقوى، وسوف يحسب الكثير مستقبلاً قبل تكرار القيام بها ثانية، رغم انها اصابت الأضعف بأذى كبير.

إنطلاقاً من هذا المبدأ، ووعي الجانب الأضعف لحقيقة خارطة مصالح الطرف المقابل وإدراك حقيقة أن صراعاً عنيفاً قد يكون مؤذياً للطرف الأقوى ايضاً، تجعل الطرف الأضعف أكثر قدرة على إدراك إشكالات المقابل في حسابات مصالحه، وبالتالي أكثر مرونة في قدرته على الدفاع عن مصالحه هو امام الطرف الأقوى. فهو يدرك أن الفارق في القوة لوحده ليس المعادلة الصحيحة للحساب، وإنما القدرة على حرمان الأقوى من تحقييق مصالحه، ما لم تمر من خلال تحقيق (بعض) مصالح للطرف الأضعف. وبهذه الطريقة ،ووفقاً للنتائج التي برزت، فأن رد حماس على تجويع إسرائيل لها، بإطلاق صواريخ تحرش، لا يعد عملاً مجنوناً، ولا هو كذلك إصرار حزب الله على امتلاك أسلحته والحديث من موقع القوة والتحدي، رغم الفارق الهائل في القوة لصالح خصمهما.
فليس من الواضح أيهما اكثر قدرة على تحمل خسائره من تلك المعارك لو تكررت، وبالتالي فهما يقدمان لإسرائيل سبباً حقيقياً لمفاوضات حقيقية وتحقيق بعض مصالحهما، وليس الأمر كما هو مع عباس الذي قدم كل أوراقه مجاناً تحت شعار التزام الحل السلمي، باعتبار ان العدو أقوى.
المعركة تتحدد في القدرة على استمرار إدامة الصراع. ولذلك أيضاً فأن مبدأ "الصمود" شعار فارغ، بل مبدأ علمي أساسه أن المقابل الاقوى لا يجد مصالحه في هذا الصراع، وأن كل أمله هو في أن يتعب الأضعف، وإلا فأن مصالح الأقوى نفسها هي التي ستجبره في النهاية على الإنسحاب من ذلك الصراع.

3- مبدأ اللاعبين الثلاثة – أو "عقدة الذئب الجريح"

على العكس من الشطرنج أيضاً، فأن الصراع في الحياة قلما يكون بين طرفين فقط. هذا الأمر يغير قواعد اللعبة بشكل كبير.
رأيت مرةً إبتكاراً لشطرنج ثلاثي، يلعب فيه ثلاثة لاعبين ضد بعضهم البعض، حتى لا يبقى سوى واحد هو الفائز. وجود "اللاعب الثالث" في هذا الشطرنج يغير القواعد تماماً. ففي الشطرنج الثلاثي تكون خير إستراتيجية لك، هي أن تحاول أن تترك خصميك يتقاتلان ويضعفان بعضهما البعض قبل ان تقاتل أنت الرابح منهما، والذي لا بد أن تكون قد أصابته خسائر تضعفه، فتنتصر عليه.
ولنأت بمثل من الحياة، فانقسام أوروبا إلى خصمين، في الحربين العالميتين، ترك أميركا، اللاعب الثالث، هي الرابح* وتسيدت العالم منذ ذلك الحين.

في صراعها مع إيران، تحسب اميركا حساباً لتأثير ذلك الصراع على قوة روسيا والصين وبقية الدول أيضا. هي ليست مستعدة أن تخسر الكثير من قوتها العسكرية والمعنوية ومكانتها العالمية، مقابل أن تنتصر على إيران. وهي ليست مستعدة أيضاً أن يكون ثمن ذلك الإنتصار أن تجد الدول الآخرى قد حصلت على موقف أفضل في صراعها معها. فطمأنة أميركا لروسيا بأن الدرع الصاروخية ليست موجهة ضدها، مثلاً، يحتاج إلى تنازلات أمريكية حقيقية في توازن الصراع بينهما لغير صالحها. أي ان سعيها للإنتصار على الجبهة الإيرانية قد يكلفها ما قد يكون أكثر اهمية في الجبهة الروسية (وربما كان هذا هو السبب في تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها بشكلها الذي طرحته على روسيا، وتأزم الموضوع مع روسيا من جديد في قضية الدرع الصاروخية).

إذن وجود الآخرين، "اللاعب الثالث" في العالم، هو في صالح الطرف الأضعف بشكل عام، ويعطيه فرصة ممتازة للمناورة، إن هو أدرك ذلك. ولكن بدون إدراك هذه الحقيقة قد يكون الأمر مقلوباً، وتصبح ثلاثية أطراف اللعبة وبالاً على الطرف الأضعف. ولعل خير مثال على هذه الحالة هو تطبيق المبدأ الإستعماري المعروف: "فرق تسد" والذي لجأ إليه جميع المستعمرين، وابدع فيه البريطانيون والأمريكان من بعدهم حتى في علاقاتهم غير الإستعمارية. فالمستعمر الذي يواجه شعباً يريد الحرية، يحاول أن يغير هذه اللعبة "الثنائية" للصراع بينه وبين الشعب، إلى لعبة ثلاثية أولاً، بأن يقسم الشعب إلى قسمين (أو ربما أكثر)، ثم يسعى بإمكاناته الكثيرة إلى إقناع كل من القسمين بأن القسم الآخر هو من يمثل الخطر الأكبر عليه، ليتصارعا فيما بينهما، بينما يتخذ هو موقف اللاعب الثالث الذي يأتيه النصر على طبق من ذهب، كما جاءت الحربين العالميتين بسيادة العالم لأميركا.

وهكذا هو الأمر بالنسبة للصراع الدولي مبدئياً لكن مع تعقيد أكبر طبعاً. عندما كان العالم ثنائي الأقطاب، استفاد "اللاعب الثالث"، دول العالم الثالث من ذلك وتمكن من تحقيق بعض الإنتصارات. فلم يكن أي من البلدين الكبيرين شديد الحماس لإضعاف مصداقيته والدخول في حرب حتى مع من هو أضعف منه، إلا إذا كان يقدر انه يستطيع حسمها بانتصار سريع.
وعندما يخطئ التقدير، فأن اللاعب يدفع ثمن ذلك غالياً، فخسرت أميركا الكثير في فيتنام ، اما بالنسبة للسوفيت فكانت أفغانستان القشة التي قصمت ظهر الجمل، رغم أن خصميهما كانا في الحالتين أضعف منهما بكثير.
من الناحية الأخرى، فكلما ازدادت أهمية الصراع بالنسبة للدولة المتصارعة، فأن استعدادها لتقديم التضحية يكون اكبر، وبالتالي تكون اخطر، حتى لو كانت صغيرة، لأن احتمال تسببها في أذى يكلفها بعض تفوقها العالمي، يصبح قوياً. بالمقابل ليست الدولة مستعدة لخسارة ذلك من أجل صراع قليل الأهمية بالنسبة لها. وفي حالة دولة تتعرض لهجوم من دولة أكبر منها، فأن الدولة المدافعة تخوض صراعاً  أكثر أهمية بالنسبة لها مما هو بالنسبة للدولة المهاجمة (بكسر الجيم). ولذلك فقد تنسحب الدولة المهاجمة من الصراع رغم تفوقها الكبير، كما حدث لإسرائيل في معركتي بيروت وغزة، فالعالم بالنسبة لها ليس فقط بيروت وغزة، بل فيه لاعبين عديدين وتداعيات ربما تكون أكثر خطورة على وجودها بحساب المستقبل.

إنها نقطة الضعف في تلك القوى العظمى، "كعب أخيل" في هيكل نظامها في تعامله مع النظام العالمي ككل. وإدراك ذلك ، إن جاء مع استقلالية وحرية القرار، يعطي الدول الأضعف فرصة كبيرة للتصرف ومرونة هامة لتحقيق (بعض) مصالحها الأساسية بالرغم من القوة العظمى.
فنحن أمام قوة كبيرة، قادرة على سحقنا، لكنها تتردد في ذلك، لأنها تدرك أنها قد تسحق نفسها إن أخطأت في التقدير، وهي لا تريد بأي شكل ان تخرج من المعركة أضعف أمام خصومها الآخرين، مما كانته قبل المعركة.

إذن اللجوء إلى السلاح، وهو نقطة تفوق القوة العظمى الأساسية والملعب الذي تفضل اللعب به، ليس متاحاً دائماً، حتى لو أكثرت من التهديد به. وهناك تجارب تمكنت القوة الأضعف من إجبار تلك القوة العظمى على النزول عند رغباتها، ولو مؤقتاً. ولو أخذنا مثالاً من العراق مؤخراً، معركة الإنتخابات التي حاول فيها الأمريكان بكل طريقة تنصيب العراقية ، لكنها فشلت في تنصيب أياد علاوي وعادل عبد المهدي رغم الحملة الهائلة لتزوير الإنتخابات، بالمال وغيره وبشكل مباشر وغير مباشر. ولولا تخاذل المنتصرين في نهاية الأمر، لربما كان لهم حكومة أكثرية قابلة للحياة، لكنهم تراجعوا في النهاية وقبلوا بحكومة شراكة مشلولة، اما بسبب الخوف من الضغط الأمريكي، أو لأن الكثير منهم لا يهمه سوى الوصول إلى المنصب ورواتبه، أو بتعاون كل تلك الأسباب.

وفي لبنان، فشلت أميركا في التأثير على الإنتخابات (بأموال سعودية وإعلام غير متناسب) إلى الدرجة التي تعطي حرية كافية لعملائها لتمرير اجنتدها خاصة في ضرب سلاح حزب الله، والحقيقة أنه لولا أن الدستور اللبناني قد بني بشكل عنصري، لكان لجماعة حزب الله الأكثرية. وحين حاول سعد الحريري التمادي في الضغط من أجل الأجندة الإسرائيلية الأمريكية، كان رد الفعل كبيراً، وأنتج العكس، حيث كسب معسكر حزب الله الحكومة، ودفع المقابل للصراع من موقع أكثر صعوبة.
كل هذا دون أن تثور أية إشتباكات عسكرية بين المعسكرين، لكن إبداء الإستعداد لها إن تطلب الأمر، هو أمر حاسم في الصراع، وفي تجنب تحوله إلى صراع عسكري أيضاً.

***

النتيجة الهامة التي نريد الوصول إليها من كل هذا هو أن الطرف الأضعف المدافع، يجب أن لا يحسب الأمر من خلال السؤال التالي: هل العدو اقوى مني؟ إذن يجب تجنب الصراع بأي ثمن لأني مهزوم كنتيجة حتمية منطقية.
السؤال الصحيح هو: هل أستطيع أجعل المعركة مكلفة للعدو بما يزيد عن أرباحه منها؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فلا يكون التحدي ومحاولة الحصول على مكاسب، امرٌ غير منطقي.

السؤال الخطأ، طرحه الكاتب عبد الرحمن الراشد في مقالة له، فتساءل عن "حماقة" إيران في محاولتها تصنيع أسلحة نووية، بفكرة أنها لن تستطيع في جميع الأحوال أن تمتلك عدداً يساوي أو يزيد عن عدد أسلحة إسرائيل أو أميركا النووية، وبالتالي فهي لن تستطيع أن تستخدمها في الدفاع عن نفسها، ولذا فإنها جهود مضيعة للوقت والمال وحماقة لا طائل من ورائها.
نحن نعلم الآن ان ذلك ليس صحيحاً لأنه جاء من السؤال الخطأ، والسؤال الصحيح هو أن إيران لا تحتاج إلى مساواة إسرائيل أو أميركا، وإنما إلى أن تجعل مهاجتمها من قبلهم أمراً مكلفاً بأكثر من أرباحه. على هذا تستند كل افكار الدفاع، ولا نتصور أن الراشد بغافل عنها، لكنه يريد أن يوصل  القارئ إلى إستنتاجه لأسباب إعلامية سياسية. لو كان منطق الراشد سليماً لما اشترت اية دولة أو صنعت أي سلاح، ببساطة لأن أميركا ستبقى أقوى منها.

عبد الرحمن الراشد بما هو معروف عن ميوله، ربما كان يحاول إبعاد الجانب المعادي لإسرائيل من حتى التفكير باحتمال الإشتباك العسكري معها، وليس هذا بموقف غريب بعد أن فهمنا أن ذلك ليس خياراً خاسراً لنا دائماً ورابحاً لإسرائيل رغم فارق القوة الهائل، وان التلويح بالإستعداد للمجابهة ضروري لأية مفاوضات من اجل سلام فيه الحد الأدنى من العدل للجانب الأضعف، ولذلك نرى أن عباس والسنيورة وبقية عملاء إسرائيل يركزون على "السلام" كخيار وحيد، رغم أنهم من أشد البشر قسوة ووحشية أمام أبناء بلادهم، فلم يكن هناك شعور إنساني بالسلام حين اختار عباس تحويل منظمته إلى فرقة اغتيالات عسكرية تعمل بأسلحة وأوامر إسرائيلية، وحين كان السنيورة يرفض وقف القصف الإسرائيلي على بيروت من أجل القضاء على حزب الله أولاً.

عباس والسنيورة يعلمان أن الجانب القوي، إسرائيل، لديه حساسية وضعف في المواجهة ا لعسكرية تكمن بنتائجها التي يصعب تحويلها إلى نصر، وأن الجانب الأضعف كثرما حقق الكثير من الإنتصارات على الجانب الأقوى. وتشرح مقالة الأستاذ عامر محسن (كيف نتعلّم أن نحبّ القنبلة) تلك النقطة وتطبيقاتها التاريخية في عدة مناسبات، وبشكل مبدع.(1) ومما جاء فيها :
" ثلاثة تفجيرات قلبت ذاك الواقع رأساً على عقب، أربع قنابل وثلاثة تفجيرات غيّرت كلّ تاريخ لبنان والمنطقة. قلّما حصل أن أنتجت أفعال فرديّة معدودة هذا القدر الهائل من التأثير السياسي ـــــ بصرف النظر عن حكمنا الأخلاقي على الأحداث والوسائل." وهو ما "أفهم إسرائيل أنّه لا مجال لاستمرارها عسكرياً في البلد، وبدأت من يومها الاستعداد للانسحاب."

لعل ذلك ما يشرح كمية الجهود الهائلة التي تضعها الولايات المتحدة وإسرائيل لتشويه شديد لأي خيار مسلح للمقاومة، مع احتفاظ إسرائيل بكل "حقها" في ذلك باعتباره "دفاعاً" شرعياً عن النفس. ومن الواضح أن كلمتي "الدفاع" و "العدوان" تم قلبهما من خلال تلك القدرات الإعلامية الهائلة لتأمين إبعاد الجانب العربي تماماً عن حتى التهديد بالسلاح، وهو ما يشير بوضوح إلى أن هذه "القوى العظمى" تخشيان ذلك الخيار وتتوقعان منه خسارة.

معروف لدى الرعاة أن الذئب يخشى الكلب، ليس لان الأخير أقوى منه ، وإنما لأن الذئب يخشى إن هو جرح، أن تأكله الذئاب الأخرى. الكلب يدرك ذلك بسليقته، ولذلك يستطيع الكلب أن "يدافع" عن الخراف، أمام الذئب الأقوى والاكثر شراسة.

هذا الخوف من "جرح الذئب" هو ورقة الدول الأضعف في صراعها من أجل تأمين مصالحها من الدول الكبرى. وكأي شيء في الحياة، يجب عدم المبالغة، ومعرفة الحدود وقياس مصالح المقابل بدقة، بحيث لا يتعدى تحدينا حدود مصالح المقابل في تجنب الإشتباك، وإلا وقعنا في الخطأ. لكن من المؤكد أيضاً أن تصوير المشهد بأنه يائس بالإستناد فقط الى نظرة سطحية لميزان القوة، هو خطأ قاتل.

هذه كانت الحلقة الثانية من سلسلة مقالات "كيف تدير مصالحك امام قوة عظمى" وكانت الأولى بعنوان "ملاحظات عامة ضرورية" (2)، وستكون هناك حلقة ثالثة ورابعة تناقشان الإسترتيجيات الممكنة للدول الضعيفة في الدفاع عن مصالحها بمواجهة القوة العظمى. 


(*) لم تدخل أميركا الحرب العالمية الثانية إلا قرب نهايتها، وكان هتلر هو الذي اعلن عليها الحرب.
(1) http://www.al-akhbar.com/node/13326
(2) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=49151


د.عبد الاحد متي دنحا

الأستاذ صائب خليل المحترم
شكرا على المقالة القيمة بجزئيها, و هنا اريد مناقشة  نقطتين في الجء الثاني من المقال.
اقتباس
وليس الأمر كما هو مع عباس الذي قدم كل أوراقه مجاناً تحت شعار التزام الحل السلمي، باعتبار إن العدو أقوى.
ولكن كما تعرف فلقد نجح كل من غاندي ومارتن لوثر كينج ونيلسون مانديلا وحديثا ثورتي تونس ومصر باستخدام سياسة اللاعنف.

اقتباس
ولنأت بمثل من الحياة، فانقسام أوروبا إلى خصمين، في الحربين العالميتين، ترك أميركا، اللاعب الثالث، هي الرابح* وتسيدت العالم منذ ذلك الحين.
كما تعرف بان ألمانيا انهارت اقتصاديا بعد الحرب العالمية الأولى بالإضافة إلى دفع تعويضات للحلفاء المنتصرين والأزمة الاقتصادية العالمية في 1929.
فهنا يبرز سؤال كيف استطاعت ألمانيا إن تبني اقتصادها لتبدأ الحرب العالمية الثانية؟

مع تحيات

عبدالاحد
لو إن كل إنسان زرع بذرة مثمرة لكانت البشرية بألف خير

صائب خليل

الدكتور عبد الأحد متي المحترم،
شكرا لك لتعليقك الكريم..

أما بالنسبة للسؤال الأول فأقول أن عباس ليس رجل لا عنف، بل رجل في غاية العنف، إنما عنفه موجه لأبناء جلدته، لذلك لا يثير ذلك غضب إسرائسيل وأميركا ولا ينشر على أنه عنف..
مقارنته بالشخصيات الذي ذكؤتها، مقارنة ظالمة تماماً،

أي من هذه الشخصيات طرده ناخبوه (شعبه) بسبب الفساد في سلطته كما فعلوا مع عباس؟
أي منها متهم أو يمكن أن يتخيل أحد أن يتهم بقتل صاحبه وقائده ورمزه؟
أي منها يمكن أن يطالب عدوه بالقضاء على بقية اصحابه كما فعل هذا في غزة؟
أي منها يمكن ان يحاول اغتصاب السلطة بعد فشله في الإنتخابات، فيضطر المنتخبون أن ينقذو بعض سلطتهم بقوة السلاح؟
أي منها يمكن ان يتحول إلى قادئ فرقة اغتيالات للعدو؟
أي منها يمكن ان تتخيل أن عدوه هو من يسلح شرطته واصحابه،
أي منها يمكن ان "ينسق أمنياً" مع عدو محتل لأرضه لأغتيال أبناء بلده الرافضين؟ حتى العنيفين منهم؟

إن لم يكف هذا استاذي العزيز، فأذكرك بأن غانيدي قال إن كان مفروضاً علي أن اختار بين العنف والقبول بالظلم، فسأختار العنف
وأما مانديلا فقد رفض عرضاً بإخراجه من السجن مقابل التعهد فقط بعدم اللجوء إلى السلاح في نظاله القادم...

فأية مقارنة هذه أخي العزيز..؟


أما عن سؤالك الثاني، فأقول أنه بعد سنتين من نهاية الحرب الثانية، أدركت أميركا انها مهددة بحصول الشويعيين على مراكز خطيرة في اوروبا، وقرروا إعادت تنشيط إقتصادهم مشروطاً بعدم حصول الشيوعيين  واليسار على المركز الذي تؤهله لهم انتخابات حرة وغير متأثرة، وحسب جومسكي فأنهم خيروا أوروبا بين الجوع وبين القبول برفض اليسار، وكان ذلك.

شكرا لك لمرروك

د.عبد الاحد متي دنحا

شكرا استاذ صائب على الجواب وهذا يبرهن من الجواب الاول بان لايوجد حاكم عربي يفضل مصلحة وطنه على نفسه, بمعنى اخر انهم دمى متحركة.
بالنسبة للسؤال الثاني, اني قصدت الفترة مابين الحرب العالمية الاولى والثانية, اعتقد بان امريكا لعبت دورا في بناء اقتصاد المانيا مع علمها بان هتلر نازي!


مع تحيات

عبدالاحد
لو إن كل إنسان زرع بذرة مثمرة لكانت البشرية بألف خير

صائب خليل

الدكتور عبد الأحد المحترم،
آسف للخطأ ، لقد ذهب تصوري فوراً إلى مشروع مارشال..
للأسف ليس لدي ما يكفي من المعلومات عن هذه الفترة، إلا انني قرأت كتاباً يشير إلى أن الولايات المتحدة ساهمت في خلق الحرب العالمية الثانية من خلال مبعوث أمريكي أعتمدت عليه بريطانيا وفرنسا لتقييم قوة هتلر بعد احتلال جيكوسلوفاكيا، وقد بالغ في تقدير القوة بشكل متعمد ليردع الحلفاء عن القضاء على هتلر حتى يتمكن الأخير من جمع قوته.
الكتاب يشير أيضاً إلى تعاون اميركا مع هتلر في الحرب كما كان تعاونها مع بريطانيا، وأنه لولا الشركات الأمريكية لما تمكن هتلر من إدامة حربه. واستمرت تلك الشركات في العمل، حتى بعد إعلان الحرب بين أميركا وألمانيا..

شكرا لك اخي الكريم