عودة الى شاطئ النهر / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, نوفمبر 16, 2012, 09:38:37 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

عودة الى شاطئ النهر 



 
شمعون كوسا

برطلي . نت / بريد الموقع


أحسستُ بشوق عارم الى ينابيع المياه ، فمشيت والنهرَ في مسار تقليدي قادني الى مصطبتي القديمة التي استقبلتني هذه المرّة بكثير من الحزن بسبب تعرضها لكسرفي أحد ضلوعها . لم يكن بمقدوري المرور ، على غرار الكرام ، أمام موضع غدا بالنسبة لي شبه مزار . إتخذت الضلع غير المكسور من المصطبة مقعدا وجلست . دخلتُ تلقائيا جوّا خاصا صوّر لي صديقي العجوز  وكأنه لا زال جليسي . وفعلا ، دون ان اضطرّ لاغماض عينيّ ،  بدأت اسمعه وهو يتحدث ويصمت ، ويختار اعذب الالحان ويغني بصوته الجميل . لا اريد وصف ما احسست به من فرح ونشوة ، لاني مهما قلت سألقى صوتا رافضا من الداخل يقول لي ، لا زلت بعيد جدا.

في هذه الاثناء مرّ امامي جمع من الشباب لم اكترث لهم إلا عندما التفت احدهم يقول لرفاقه : أنظروا هذا هو جاري الذي كنت اكلّمكم عنه ، هذا هو الشخص الذي يكتب من حين لآخر ويزعج الناس باحاديث عن القيم والاخلاق . إن رأسَه دائمَ الاقامة في الغيوم وهو لا يفكر الا بمجتمع مثالي ، انه شخص يفتقر الى الواقعية . رمقني الشباب بنظرة ازدراء قصيرة وتابعوا سيرهم متمتمين كلمات ذات صلة وثيقة ببنات عمّ الشتائم !!

كانت المواكب تمرّ أمامي وكأنها في مسيرة . مرّت مجموعة نساء متقدمات في السن . كانت كلهنّ منهمكات بجدال محتدم ، أصواتهن كانت قد خرجت عن المستويات المسموح بها ، وحركات أيديهن اتخذت منحى عشوائيا ، في التوكيد والنفي ، والرفض والتوعّد ، في آنٍ واحد . إثنتان ممّن تأخرن عن الركب ، توقفتا عند بلوغهما مستوى مصطبتي . بدأت إحداهن تتفحصني من قمة رأسي والى أخمص قدميّ ، وكأني قاصدُها في تفصيل بدلة شتوية او الحصول على وظيفة تتطلب لياقة بدنية عالية ، وقالت لصاحبتها موشوشة : أعتقد بان هذا الاخ هو الشخص الذي لمحتُ صورتَه في أحد المواقع ، إنه ينشر عناوين طنانة لمواضيع جوفاء . كنت اتصوره إنسانا ذا هيبة ويتمتع بشخصية قوية ، غير أن ما أراه هو عكس ذلك . كانت الاخت الفاحصة حريصة على إرسال نسخة من خطابها الى مسامعي .

لم أعِ دواعيَ المرأة الفاحصة في التشكيك بشخصيتي ، ولكني قلت أخيرا : لربما يكون الشباب ومعهم النسوة مصيبين جدا في ما قالوا، فأشحتُ بوجهي ، وتركت المارّة رافعا انظاري الى سرب من الطيور كانت قد اختارت مجال رؤيتي ميدانا لمناوراتها . كنت استعرض السرب كلّما اقترب منّي واتفحص المجموعة طيرا طيرا ، علّني اتعرف على هوية أحد الطيور التي كانت قد زارتني هنا ذات مرة برئاسة الغراب وعضوية كل من الهدهد والبلبل والحمام وبعض طيور مرافقة اخرى . عندما لم اعثر على ضالتي بينها ، تبينت بانه كان قد تقرر في تلك الفترة إعادة انتشار الاسراب .

تركتُ الاجواء وانتقلتُ الى النهر بحثا عن بعض أمواج كانت ترافقتني ، أمواج توقفت لاجلي ، انتظرتني واستأنفت السير معي ، ولكني ضحكت عندما تذكرت المبدأ الفلسفي الذي يتخذ النهر مثلاً عند تناوله شرح مفهوم التغيير، فالنهر دائم السريان وهو في تغيير مستمر وكل نقطة تسيل وكل موج يجري فيه ، لا يعود من جديد .

بقيتُ قليلا مُطرَقَ الرأس ، وقبل أن أهمّ بترك المصطبة ، دنا منّي شخص يتأبّط حقيبة صغيرة وقال لي ، هل لي ان أجلس هنا ؟ قلت له قد لا تتّسع المصطبة لشخصين ، على أية حال أنا تاركُها . قال لي : لا تغادر لاني أحببت ان أثرثرَ معك قليلا . جلستُ مُكرَهاً ، وبدأ الزائر الجديد يرشقني باسئلة كثيرة  وكأنه مكلف باختباري ، وعندما لم يتلقَّ مني أيّة إجابة ، قال : إنّي ألمحُ داخل نفسك حزنا شديداً ، هل لي أن اطلب منك ان ترفع رأسك كي اتأمل وجهك أكثر؟ نظرتُ اليه مندهشاً وقلت له : من انت وماذا تريد ، هل أنت عرّاف أم ماذا ؟ اجابني ، انا لا اقرأ الطالع  ولا اتنبّأ بالمستقبل ، كل ما سوف أراه في وجهك هو ماضيك . وها أنا الان فعلا أمام مسار حياتك كاملة ، من صِباك ولحد الان.

إني ارى فيك الكثير من التقلّبات . أرى طرقا وعرة ، أرى تلالا ، أرى جبالا صعبة وقمما يكتنفها الضباب الكثيف ، أرى حفرا قديمة متروكة وحفرا أخرى قد تمّ ردمها ، كما ارى قبورا قد أُعيد ترميمها عدة مرات وارى فوهات بركان لم يقوَ الزمن على معالجتها .  لا أجد فيك إصابة مهمة او كسرا ، ولكن ما اراه هي نفس معذّبة . لقد عانيتَ من كَبَت طال أمده. هناك جروح تخلصتَ منها واخرى لم تندمل . أرى فيك شروخا قد اتسعت مع الوقت  ، هيجانك الداخلي لا يفلح دوما عن التعبير عن ذاته كاملا .

كنت اسمعه بانتباه شديد ، وعندما انتهى قلت له : لقد اصبت في قراءتك ، ولكن ماذا جنيتُ من قراءة ماض أعرفه أنا ، هل لديك وسائل لايقاف هذه التقلبات ، وتهدئة هذا الهيجان ،  واغلاق هذه البراكين ، وتضييق هذه الشروخ ؟

قال لي : إن ماضيك انت راسِمُهُ ، والمستقبل ايضا خاضع لريشتك . يجب أن تبتعد في تصاميمك الجديدة عن الزوايا الحادة ، إبحث في معمارك عن تدوير زوايا البناء . لا تترك الامور تتراكم فتتعقّد ، وعالج كل جديد في يومه كي لا تخلق قبورا وتكوّم تلالا ومن ثمّ جبالا او وديانَ . إستقِ دروسا من ماضيك لان اهمية التاريخ هي في العِبَر التي يوفرها للانسان إيجابا كان أم سلبا . إنك شخص مرهف الاحساس ، تُحلّل الامور وتفكر كثيرا ، وتتوجس وتخشى . أنك تقيس كلّ ما يصادفك بموازين حساسة ودقيقة جدا . حاول ان تخرج من دوائر تفكيرك الضيقة من خلال رفع انظارك الى العلا ، خارج اسوار مشاكلك .
لا تحكم على الناس بمعاييرك وقوانينك ، لانهم لا يرون بنفس منظارك ولا يشعرون بنفس شعورك. كما يجب ان تعلم جيدا بان الكثيرين لا يُولون اهمية كبيرة حتى لما تكتبه أحيانا من نصائح وارشادات. فهؤلاء يقرأونك ، ومن ثمّ يبتسمون ويكتفون بالقول ، نعم هذا ظريف !!

انا ادعوك للصمت بعض الوقت ، هبْ لنفسك هدنة ، ولا تهرع لمعالجة كل ظاهرة تلحظها ولا تسرع في معالجة كل اعوجاج تراه . إنك تبحث عن الحالات الكاملة والمطلقة وبالحقيقة ليس هناك شئ مطلق أو كامل في هذه الحياة . لا تنسَ بان السواد الاعظم من الناس يُؤاثرون السطح او السطحية في الامورعلى الدخول في الاعماق المُتعِبة والمُلزمة . واذا كان يهمّك هذا الامر كثيرا ، تيقّنْ واطمئِنّ بأن السائر في طريق الاعوجاج ، وإن رأى الباب مفتوحا وسار في الدرب ، فانه سيجد نفسه يوما أمام طريق مسدود يضطرّ فيه العودة من حيث أتى .

عند هذا الكلام ودّعت قارئ الخرائط هذا ، وَعُدتُ الى البيت بخريطة الطريق التي وضعها لي . إنها إرشادات لا تُلزم غيري ، ستساعدني على رسم مستقبل ، يتحول يوميا الى ماض سوف ينتظر مطالعة زائرنا بعد فترة !!

kossa_simon@hotmail.com





Matty AL Mache