تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

سوق الحكايات / شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, أكتوبر 07, 2012, 08:34:16 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

سوق الحكايات



شمعون كوسا


خرجت الى سوق القصص والحكايات وارتديت ثياب المتسوّلين بحثا عن فكرة لم يحالفني الحظ في العثور عليها بين جدراني .  إخترت الزاوية البعيدة من السوق أترقب مرور المحسنين من موزّعي الافكار والاحاديث . كنتُ ، كلّ ما مرّ احدهم ، أمدّ اليه يدي مستجديا ، فكانوا كلهم ينظرون إليّ مُحملقين ويقولون : ألست انت الذي افرغت سرابيلنا ، ألم تشبع لحدّ الان ؟ وذهبت الجرأة باحدهم الى القول : إذهب الله يعطيك . نظرت اليه باستغراب وحملت نفسي وغادرت السوق .
كان هذا بعد ساعتين من التوسّل والتسوّل . تركت سوقا لم يمكّنني من الحصول  حتى على الشرارة الصغيرة التي تقودني احيانا الى النور . قبل ان اصل الى البيت ، جلست على صخرة كانت قد انفصلت عن جدار صخري كبير يحدّ الشارع . اغمضت عينيّ ومسحت كل ما كان يملأ مائدة رأسي ، فاذا بي اخترق الغمام المتلبد نحو السماء الصافية الزرقاء . أحسست وكأنّ الخيال لم يكن ينتظر إلاّ اغلاق الابواب الخارجية لينطلق في الفضاء. بدأتُ بالتحليق كالطير وأحوم هنا وهناك ، وتحوّل التحليق بعد ذلك الى صعود سريع نحو ارتفاعات وضعتني خارج الجاذبية الارضية ، إلى أن وجدت نفسي وسط مرج فسيح تقطنه كائنات خاصة بيضاء تتحرك بكافة الاتجاهات .
قلت في نفسي ، أيُعقل ان اكون قد بلغتُ دون علمي إحدى الكواكب ، او طابقا سفليا صغيرا ممّا يذكرونه عن السماوات ؟ !!  وقفتُ أتأمل قليلا حركة الناس وتوقفت مندهشا عندما وقع نظري على شخص أبيض يشبه الكائنات البشرية . تقدمت نحوه وألقيت عليه التحية بلغة عربية . رفع عينيه نحوي بنفس الاندهاش ، ودون ان ينطق بكلمة واحدة ،هبّ نحوي وعانقني بشدة وحرارة ، ونظر إليّ قال : وأخيرا حضيت بلقاء انسان سويّ قادم من الكرة الارضية .
عايَنتُه من جديد وقلت له : ماذا اتى بك الى هنا وأيّ كوكب هذا ؟
دعاني الى الجلوس على اريكة شبيهة بكتلة ثلجية كبيرة ، وقال : أنا هنا منذ ثمانين عاماً . انا من سكنة إحدى حارات الرصافة في بغداد .
قلت له وكيف وصلتَ هنا ؟ اجابني : في أحد ايام الصيف وعند المساء ، بينما كنت ألعب مع شلّة من اصدقائي ، ابصرت شخصين غريبَي الاطوار شكلاً وهنداما ، يتقدمان نحوي . لاذ أصدقائي بالفرار هلعاً ، أما انا فلم اتمكن من مجاراتهم في العدو ، فامسك بيّ الرجلان  واقتاداني الى هذا العالم أو الكوكب الذي لم اعرف اسمه لحدّ الان ، كما اجهل أيضا الهدف من اختطافي .
لم يشأ صاحبي ان يطيل في وصف حالته او التحدث عمّن يعيشون معه ، فامطرني بوابل من الاسئلة ، وقال :
ما هي احوالكم هناك ، وما هي اخبار المملكة ، وهل استلم الملك فيصل الثاني مقاليد الحكم ؟
لم اكن اتوقع هذا السؤال الغريب عن حقبة عفا عليها الزمن ، عن عهد أطلقنا عليه اسم العهد البائد . سكتتُّ قليلا وبدأت اقلب صفحات كان قد علاها غبار كثيف ، وبعد حسرة طويلة قلت له : أرى بانك منقطع تماما عن الارض . لا اعرف ماذا يجب ان اقول لك ولا من أين ابدأ ، لان ما سأقوله طويل طويل واخشى ان يغلبك النعاس قبل ان انهيَه ، فهو يحاكي ما كانت تقصه لنا جداتنا من قصص خيالية عند النوم ، غير ان  ما سأرويه لك هو واقع وحقيقة .
قلت له : يا صاحبي ، لقد انتهت الملكية وأُبيدت العائلة المالكة . لقد قامت ثورة  حوّلتِ الحكم الملكيّ الى نظام جمهوري . جرت الاحداث هذه في شهر تموز من سنة 1958. واذا سألتني عن الملك ، فانا اتذكر بلاغات المذياع التي كانت تلحّ على الناس وتكرر وتدعوهم للحفاظ على حياة الملك الشاب ، غير ان النار كانت قد تأججت ، ومساحات حريقها امتدت كثيرا فلم تميّز بين يابس يمكن إحراقه وأخضر لا يجب المسّ به .
لاحظتُ هنا اربع عبرات تركت مقلتي صديقي منحدرة بهدوء وخجل على وجنتيه . أعطيتُه مهلة صمتٍ يحتاجها قبل ان استأنف سرد الاحداث ، ولكنه بادرني قائلا : وماذا عن الحكم الجديد ، هل انتم راضون عنه ؟ فاجبته بحسرة اخرى تختلف تماما عن سابقتها وقلت :
إنك تسألني عن الحكم الجديد ، وهل بقي حكم جديد ؟ لم تقاوم الجمهورية الفتيّة امام انظمة اخرى تعاقبت بسرعة . كان قد استبشر الناس بالجمهورية التي اقامها شخص يتصف باخلاق حميدة ويتميز بالرحمة . كان يردد دوما ويقول بان الرحمة فوق العدالة ، وفعلا اصدر عفوه عن عدد كبير من المحكومين . 
لم يدم هذا الحاكم كثيرا لان الاطماع بدأت تعتمل داخل الصدور ، لاسيما صدور رفاقه ، فانقلبوا وقلبوا الحكم عليه . بعد ان حكمَ الثوارُ الجُدُد البلدَ بالسيف والنار ، انفتحت الابواب على مصراعيها لثورات تتالت ، فاضحى البلد مسرحا لثورة بعد ثورة وانقلاب بعد انقلاب . كان كل ثائر جديد يأتي ،  يفرض نفسه بقوة السلاح ويدّعي بانه يمثل الشعب ، ويبدأ بابادة من سبقوه بالحكم ، فتحولت الثورات الى حمامات جرت الدماء فيها في سواقي عميقة لم تجف لسنوات طويلة .
لم يعرف الناس الراحة يوما ، لقد دخلنا حروبا وخضنا معارك كثيرة بعدد ايام السنة ، وكل معركة كانت تحمل إسما خاصا . ركَبَنا الغرورُ ، فتشابكنا مع جاراتنا وتحدّينا جيوشاً تفوقُنا عُدّة وعدداً . أفنينا خيرةً شبابنا وسخّرنا خيرات البلد في شراء سلاح نحارب به العالم ، الى ان قادنا الدهر الى اليوم الذي خضعنا رغم انوفنا صاغرين ، ودمّرنا بايدينا  كلّ ما كنا قد اشتريناه من سلاح .
قال لي كائن الفضاء ، إن ما ترويه كثيرُ عليَّ ، وهناك الكثير ممّا لم استوعبه ، هل لك ان تتناول حديثك فقرة فقرة ؟ قلت له : إن ما تطلبه يحتاج الى شهرين كاملين من حديث متواصل لا يتوقف حتى في الليل . باختصار شديد اقول لك ، لم يذق بلدنا منذ ذلك التاريخ طعم الهدوء وراحة البال ، تحوّل عالمنا الى غابة لا تجد فيها غير القلق والخوف والعنف والارهاب .
قال لي : أوَلم تؤثر هذه الاحداث على الناس وتصرفاتهم ؟ قلت له :  كيف لا ، هذا الشعب الذي  كان يتصف بالشجاعة والكرم ونكران الذات ونجدة الاخرين ، فقَدَ إيمانه بهذه الصفات لكثرة ما تمّ تحميله من اثقال لم تخف وطأتها يوما  ، لقد اصيب الناس بالملل من كثرة التضحيات التي قدموها من اجل قضايا ولاهداف لم يكونوا يؤمنون بها لانه لم يجدوا لها أصلا أي معنى . لقد تعِب الشعب وأصبح جلّ اهتمامه البحث عن حيّز يسند اليه رأسه .  وخشية التعرض لسنوات استعباد اخرى ، اختار الكثيرون منهم الابتعاد إالي بلاد آمنة ، لان البلد الذي كان يفترض قد اكتسب بعض النضوج اصبح ، والى إشعار مجهول ، ساحةً للتهديد والاختطاف والاضطهاد والتفجيرات .
أراد صديقي أن يطرح اسئلة اخرى ، فقلت له أن حديثنا طويل وذو شجون ولا ينتهي بيوم واحد . قد أراك يوما ولكن عليّ الان العودة من حيث اتيت . بدأتُ بهبوطٍ لم يستمر كثيرا . فتحت عيني ورأيت نفسي جالسا على نفس الصخرة ، نظرت حواليّ كي أتأكد من الحقيقة فرأيت بان الاوراق التي كنت أمسكها قد سجلت كل ما دار من حديث في الاعالي.
فكرت مليّا قبل ان أعيد  قراءة اللقاء ولعدة مرات ، فكان قراري ان أحذف جملاً  واضيف عباراتٍ وأنقّح فقراتٍ باكملها خشية التعرض لهراوة الرقابة .   يجب ان اعترف بان محتوى اللقاء ليس بمستوى مقال شيّق ، غير ان شحّة الافكار في سوق الحكايات ارغمتني على توقيع الحديث وتذييله بعبارة : لا مانع من طبعه .