ذكريات من الماضي العراقي القريب (14)

بدء بواسطة عبدالله النوفلي, سبتمبر 20, 2012, 06:41:01 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

عبدالله النوفلي

ذكريات من الماضي العراقي القريب (14)

وفي خضم كل هذا الكم الهائل من المآسي التي لا يمكن حصرها بسهولة وتذكّر التفاصيل الدقيقة حولها، تمر علينا خلال شهر آب ذكرى تفجير مبنى وزارة الخارجية الذي شهده الأربعاء الدامي يوم 19 آب 2009 حيث راح ضحيته أكثر من خمسين شهيدا وما يقارب من الخمسمائة جريحا والعديد منهم بجروح خطرة.
لقد هز ذلك الانفجار الذي حدث قبل ظهر ذلك اليوم ورصدته كامرات المراقبة التي كانت محافظة بغداد قد نصبتها في بعض الأماكن المهمة من بغداد وتم بث شريط أوضح نوع السيارة وحمولتها التي كان قد تم التمويه عليها بخزانات الماء البلاستيكية التي انتشر استعمالها في بغداد في السنوات الأخيرة، وحسب قول السيد وزير الخارجية هوشيار زيباري فإن حمولة تلك الشاحنة كانت بحدود طنين من المواد المتفجرة التي جعلت مبنى الوزارة ذو الهيكل الكونكريتي الثقيل والتصميم الجميل يترنح وكأن هزة أرضية حدثت وكان ترنح الطبقات العليا بحدود 14 سنتيمترا حسب قول السيد مسؤول الاعمار في الوزارة.
لقد كان ذلك الانفجار فاجعة لعشرات العوائل وقد تم وضع أسماء الضحايا على جدار في الوزارة كي تبقى تلك الأسماء شاخصة في الذاكرة لأن كل منها بكل تأكيد كان ممتلئا بالأفكار والآمال، وبسهولة يمكن للسائل أن يسأل أي من منتسبي هذه الوزارة عن قصص تلك الأسماء وما كانت تخطط له لمستقبلها حيث كان من بينها من ستتزوج خلال أيام، وآخر كان يحلم بأن يصبح سفيرا أو قنصلا ويدرس وقتها في معهد الخدمة الخارجية بجد ونشاط، كذلك قنصلا مهما وخبيرا في شؤون الدولة التي يعمل فيها  و و و ... القصص كثيرة لكن الأحلام تم وأدها.
أي أن الانفجار الذي نفذه الأشرار كان يستهدف وأد العلامات المضيئة التي كان العراق قد بدأ بإيقادها وخصوصا كانت النية تتجه حينها لفتح أكثر من أربعين سفارة جديدة للعراق في اربعين بلدا من العالم، تلك الخطوة التي كانت تُدخل الأمل في قلوبنا بعودة العراق إلى أخذ مكانته الدولية الصحيحة.
ويومها لم يكن هذا الانفجار هو الوحيد الذي شهدته بغداد فقد كانت هنالك سلسلة منها بدءا من العاشرة صباحا وخلفت بمجملها 96 شهيدا ومئات الجرحى وأصابت مبانٍ حكومية عديدة وخلق الرعب في قلوب الناس خاصة وأنه كان وقتها يشير إلى الفراغ الذي تركه أنسحاب القوات الأمريكية يوم 26 حزيران من نفس العام وفق المخطط المتفق عليه مع الحكومة العراقية في تلك السنة، وكالعادة تلت تلك السلسلة التي شهدها الاربعاء الدامي موجة من توجيه الاتهامات لهذه الجهة أو تلك وتم الاشارة إلى دول بعينها بأصابع الاتهام كون المنفذين أو معداتهم مرت عبر تلك الدول، كما ان مواقع أليكترونية نشرت بيانات تتبنى جهات معينة تلك العمليات وتعدها غزوة من غزواتها وكأن في العراق شعب من الكفار يحل قتلهم أو غزوهم أو أراقة دمائهم!!! وكانت الضحية الرئيسية في ذلك اليوم هما مبنيا وزارتي المالية والخارجية أضافة لاستهداف منطقة الصالحية وشارع حيفا ومناطق أخرى متفرقة، وهكذا شاهدنا كما شاهد العالم كله كيف يتم الاعتداء على العراقيين بدم بارد ودون وازع من ضمير، فما ذنب الموظف والكاسب من كل هذا؟ ولماذا يتم حرمان هؤلاء الضحايا من فرصة الحياة والاستمرار بالعطاء من أجل بناء الذات الشخصية والبلد؟
هكذا كانت بغداد في صبيحة ذلك اليوم وهي تعاني من مشهد مأساوي وتودع قافلة من الضحايا الأبرياء رغم كل المعاناة المختلفة التي كنا نعيشها حينها فقد كان الحصول على وقود السيارة يتطلب منا الوقوف لساعات كثيرة في الطابور؛ فمحطة وقود ملعب الشعب كان طابورها يمتد مرورا بطريق محمد القاسم السريع ودخولا باتجاه زيونة وحتى جسر الربيعي حيث كان يستمر ويعبر الجسر باتجاه ساحة الواثق في أحيان كثيرة، ومحطة الباب الشرقي ساحة الطيران كان طابورها يصل إلى المنطقة المقابلة لمعلب الشعب ويدخل هناك فيما بين الأفرع الضيقة للمنطقة.
وعلى القاريء تصور كم من الوقت يقضيه السائق كي يحصل على الوقود اللازم لسيارته، واستنادا على هذه الحالة فقد ازدهرت السوق السوداء لمادة البنزين وكنا نرى باعته واقفين على الأرصفة وبيدهم ما يتعرف السواق عليه (محگان) كونهم يملكون البنزين ومستعدين لتعبئته في السيارة مقابل مبالغ وصلت لأكثر من 250% من السعر الرسمي له والذي وصل حينها إلى 450 دينار للتر الواحد رسميا. وكان السائق محضوضا إذا حصل على الوقود السليم الغير مغشوش، ومما زاد الطلب على هذه المادة عدم وجود كهرباء وطنية مما يُجبر البيوت إلى تشغيل مولدات منزلية بغية إنارة ضلمة الليل ومن أجل التواصل مع العالم عبر معرفة ما تبثه الفضائيات أو لتشغيل الحاسبات الشخصية وتصفح شبكات الانترنيت العالمية.
وهكذا وبلدنا منتج رئيس للبترول في العالم ولكن المواطن يعاني من شحة البنزين والمشتقات النفطية، الأمر الذي كان له الأثر بتخفيف زحام الشوارع لأن ببساطة لم يكن للسيارات وقود كافٍ كي تسير وفق ما يشتهي سائقها، ورغم كل ما مر بنا كان جواب العراقي ومازال عندما تسأله عن حاله يجيبك (زين) والحمد لله، وماشية، وكأن الأمور تسير بصورة طبيعية، فالعراقي لم يتعود التذمر ويقتنع بحاله ويشكر الله على إنعاماته كونه صبورا جدا، وكان يتبادل الطرائف مع أصدقائه كي ينسى همومه منطبقا علينا المثل القائل (شر البلية ما يضحك)، فقد عدنا عقودا من السنين إلى الوراء، وخصوصا باستخدام (المهفة) التي كان العراقيون يتندرون فيما بينهم أو من يبيعها بتسميتها (السبلت اليدوي)، تيمنا بالوسيلة الحضارية الموجودة وهي split unit فماذا تنفع هذه المهفة اليدوية أزاء جو تصل فيه الحرارة أكثر من (50)درجة مئوية تحت شمس صيفه اللاهب.
وقد قرءنا في القوانين الدولية بأن الإنسان غير مسموح له للعمل إذا وصلت الحرارة (50) مئوي فكيف إذا كانت الدرجة أعلى من ذلك وفي ظل ضروف عدم توفر الكهرباء، والغبار الخانق فمهما كان تبليط الشوارع مبنيا على الأسس العلمية والصحيحة كنا نجده يغلي عند الظهيرة ويتموج أزاء ثقل عجلات الشاحنات الكبيرة خصوصا، بحيث يصبح الشارع متموجا وغير صالحا لسير العجلات بعد فترة وجيزة من تجديد تبليطه، الأمر الذي كنا نعاني منه قرب السيطرات وخصوصا لسيطرات الطرق الخارجية، فلو لا تسير السيارة ببطيء شديد في تلك المنطقة لحدث ما لا يمكن حمد عقباه، لأن الحادث واقع لا محالة، ولو تأملنا طريق بغداد كركوك مثلا وكان هنالك تقريبا سيطرة كل 15 – 20 كلم عليه، وهنا علينا تصور كم من الوقت يحتاجه الإنسان ليقطع هذا الطريق الذي كنا نستغرق في قطعه قبل 2003 ساعتين وربع، في تلك الأيام أصبح هذا الطريق لا ينتهي بأربع ساعات إلا بشق الأنفس.
ومما زاد مشاكل الطرق الخارجية هو مرور أرتال قوات الإحتلال عليها وقطعها للطريق وقتما تشاء حتى لو كان من أجل أن تتحدث دورية مع أخرى مارة بعكس الاتجاه وكان على السيارت المدنية أن تقف مسافة بعيدة عن الرتل وتنتظر رحمة الله وأحيانا عندما تلحق بالسيارة رتلا سائرا بذات الاتجاه فينبغي على السيارات المدنية أن تخرج إلى كتف الطريق وتفسح المجال للرتل العسكري بالمرور!!!
ورغم كل ذلك كنا نعمل ونكتب ونذكر العالم بما يحصل وكان المهاجرين يسطرون القصص لمنظمات الأمم المتحدة عما حدث لهم وعن الأمور التي تهدد حياتهم، وكان بعض المسؤولين في تلك المنظمة ربما يصدقون القصص أو لا يصدقونها فيبقى العراقيون ينتظرون لسنوات عالقين في دول الجوار العراقي ولا أمل يلوح في الأفق وكم من أخوتنا قضى نحبه وهو في طريقه لدول المهجر؛ فمنهم من دُفن في سوريا وغيرهم في الأردن أو لبنان أو تركيا، ومن كان حظه سيئا التهمته أسماك البحر وهو راكب مركبا متهرئا يوفره له المهربون فينتهي به الأمر للتحطم من قوة الأمواج لتكون نهاية مأساوية للكثيرين الذين تفتقدهم عوائلهم إلى اليوم وضاع أي أثر لهم.
والعراق بتصديره النفط رغم عدم بلوغه الأرقام التي يجب أن يصدرها حسب ما يمتلكه من احتياط النفط العالمي، لكن حكومتنا هذه السنة 2012 رصدت نحو 11 ترليون من الدنانير العراقية متضمنة تخصيص تريليوني دينار لمشاريع وزارة الكهرباء، ونحو تريليون ونصف للبطاقة التموينية، وتريليون لوزارة الدفاع، إضافة إلى 830 مليار دينار لتعويضات الكويت. وأشار علي الدباغ المتحدث الرسمي باسم حكومة العراق إلى تخصيص 40 ألف درجة وظيفية، تضمنت 24 ألف درجة لوزارتي الدفاع والداخلية، فيما توزعت الدرجات الأخرى على وزارات وهيئات الدولة لتثبيت ذوي العقود الذين تم تعيينهم سابقا. في حين كان مجلس النواب العراقي قد صوت فى شهر شباط على موازنة عامة للعام الجاري 2012 بلغت مبالغها ما يعادل 100 مليار دولار.
ورغم كل ذلك يعيش نحو ربع سكان العراق تحت خط الفقر نتيجة الحروب والأزمات السياسية وسوء توزيع ثروات البلاد حيث أشارت أرقام بعثة الأمم المتحدة في العراق إلى معاناة 23% من العراقيين البالغ تعدادهم بحدود الثلاثين مليونا من آثار الفقر، وتحاول الحكومة وحسب التقارير الإخبارية تخفيض هذه النسبة إلى 16% حتى عام 2014، وهذه النسبة في ضوء أمكانيات العراق تعتبر مرتفعة كثيرا.
فمحافظات العراق عدا كردستان بأجمعها تحصل بحدود 5% من الموازنة السنوية والباقي يتم توزيعه حسب معايير الحكومة المركزية، وفي ضل غياب الاستثمار الصحيح للأموال العراقية وعدم وجود عدالة في توزيع الموارد حسب النسب السكانية للمحافظات سيبقى العراقيون يعانون بسبب سوء الادارة وعدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ووجود فساد مالي كبير جعلت من العراق في ذيل القائمة الدولية من حيث الشفافية والنزاهة، ومن جراء ذلك أصبح العراق عبارة عن طبقتين؛ ثرية والتي تعتاش على أموال الدولة من ذوي النفوذ والسلطة وأصحاب القرار، وطبقة معدمة أو فقيرة تعيش على هامش الحياة في بلد يعتبر من أغلى بلدان العالم من حيث موارده النفطية وما تضمه أرضه من كنوز لم يتم استخراجها إلى اليوم.
وبالرغم من كل هذا نجد أن مزادا يجري بصورة منتظمة في البنك المركزي العراقي لبيع الدولار الامريكي وسوق هذه العملة رائجة بكثرة في عموم العراق وقيمة الدولار مرتفعة تصل في صيف 2012 إلى 1250 دينار للدولار الواحد، ولكثرة الطلب على هذه العملة نجد أن البنك المركزي قد حدد مبلغا قدره عشرة ملايين دولار يوميا لكل مصرف له رأس مال قدره 250 مليار دينار عراقي، وهذه العملة مخصصة لمن يرغب بالتحويل الخارجي للتجارة أو للأموال الخاصة.
والبنك يحاول جاهدا مكافحة عملية غسيل الأموال إذ أنه قد أعد استمارة خاصة يدون فيها الراغب بالتحويل مصدر عملته وسبب التحويل و معلومات أخرى، والبنك في طريقه لصرف نحو 200 مليون دولار يوميا ورغم ذلك يحاول منع أية محاولة لتهريب العملة خارج البلاد حيث حدد البنك المركزي مبلغ عشرة آلاف دولار يُسمح للشخص الواحد أخارجها معه عند سفره، والبنك الذي نجح بعد عملية التغيير من أخفاض قيمة الدولار وأيصالها لحدود 1150 دينار نجده اليوم عاجزا رغم كل الاجراءات لأن قيمة هذه العملة في السوق ترتفع إلى الرقم الذي ذكرناه آنفا.
وقد يكون لما تعانيه دول الجوار العراقي من حصار دولي السبب في ذلك كونهم ربما يلجئون للسوق العراقية لتوفير العملة الصعبة بشتى الطرق حتى إن كان ذلك يتطلب ضخ عملة مزورة ليكون المواطن العراقي هو الضحية الذي كان يوما ينظر بورقة العملة باتجاه الشمس كي يحدد صحتها من زيفها أو لجأ يوما إلى أجهزة تم توفيرها في الأسواق كي يتأكد من النخلة والفسفورة والخط، التي كانت كل هذه يوما علامات مخفية تحمي تزوير العملة، لكن العراقي دائما كان الضحية لأن الكثير من التعاملات تتم بسرعة ولا يتمكن الانسان حمل ذلك الجهاز معه أينما ذهب فكانت العملة المزيفة تنتشر ومن كان يزور المصارف لإيداع ما بحوزته كان يتفاجأ بوجود الكثير من تلك العملة بين رزمات ما يحمله من مال، والأكثر غرابة كان في بعض الأحيان يقول البعض أنه مصدر ما بيده من مال هو المصارف ذاتها، وأيضا هذه المصارف كان فيها الكثير من القصص التي ربما سأنتي لذكرها في القادم من كتاباتنا في الحلقات القادمة.


.
.. وللذكريات بقية
عبدالله النوفلي
2012
Abdullah_naufali@yahoo.com