فقدان بعض مجاملاتنا لمعانيها ومنطيقيتها / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, أبريل 19, 2012, 11:07:25 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

فقدان بعض مجاملاتنا لمعانيها ومنطيقيتها




شمعون كوسا

قد أكون مُبالغا فيما أذهب اليه احيانا ولكني لا استطيع الامتناع عن ملاحظة الامور والتوقف عندها وتحليلها حتى في أتفه جوانبها. اني أرى باننا قد اكتسبنا عادات فقدت معناها واصبحت مجرد عبارات للمجاملة لا تعبر عن الحقيقة . إنها كلمات وجمل تتكرر لملء فراغ يحتاجه الحديث ، او لسدّ نقص في مقاطع الكلمة ، او للمحافظة على القافية .

أبدأ بظاهرة بسيطة جدا وهي التحية العادية . بعد السلام يبادر الصديق صاحبَه بالسؤال ويقول له في كلام متواصل : كيف الحال وكيف صحتك وكيف صحة الاولاد ، إن شاء الله جميعكم بخير ؟ ودون انتظار الجواب يتحول مباشرة الى موضوع عن احداث الساعة أو الطقس او أيّ شأن يرغب في توضيحه او يطلب استيضاحه . ان هذا الصديق لا يبحث عن معرفة احوال صاحبه ، وسيّان عنده اذا كان صاحبه هذا متوجّها الى جبهة القتال ، او ممّن اختيرت رقبتهم لإختبار مقصلة أو حبل مشنقة !!

في حالة ثانية يُحيّ الصديق صاحبَه قائلا : كيف صحتك ، فيردّ عليه هذا بنفس السؤال ويقول : انت كيف صحتك ، فيحصل أحدهم على الجواب ويبقى الثاني دون علم عن احوال صديقه. وفي نفس السياق تجد شخصا يردّ التحية على عجل بـِ (أهلا أهلا) وقبل ان يُسأل عن صحته يجيب قائلا : نحن بصحة جيدة ، وانتم كيف حالكم ، هذا نموذج قد اعتاد على الديباجة كببغاء متهوّر.

وفي حالة ثالثة يسأل الصديق : كيف صحتك ، فيجيب صاحبه الحمد لله. يصمت الصديق قليلا ويعاود السؤال من جديد ويقول : لا ريب أنّ حمدَ الله واجب في كل وقت ، ولكني اسألك عن صحتك ، هل انت حقّا بخير ؟ يعيد الصديقُ السؤالَ مرتين وثلاث لانه شديد الاهتمام باحوال صاحبه لا سيما وانه كان قد سمع عنه مؤخرا أخبارا غير سارة . عندما يرى هذا الاخير بانه لا مفرّ له من الاجابة بشكل صريح ، يقول : أعترفُ لك باني أمرّ بظروف صعبة ، لم أكن ارغب البوح بها ، فاكتفيت بالاجابة المعتادة الحمد لله .

وهناك من يبدأ بـ : كيف حالكم ؟ وبعد قليل يعود وكأنه لم يسمع الجواب فيسأل بعد قليل : إيه ، كيف حالكم وما هي ظروفكم ؟ هنا ايضا لا يكترث للجواب كثيرا لانه قد اعتادعلى ترديد عدد معين من فقرات المجاملة ، وفعلا اذا وجد فراغا في الحديث، يعود ثالثة ويسأل : انك لم تقل لي كيف حالكم ؟ على شاكلة من كانوا قد اعتادوا سابقا على القول بالعاميّة (شلونكم ، بعد شلونكم ، وبعد بعد شلونكم).

ببعض من الخيال غير البعيد عن السخرية نستطيع القول : بوسع الصديق عند لقاء صاحبه أن يسلمه ظرفا او ورقة تحتوي على خمسة اسئلة (شلونك ، شلون صحتك، بعد شلونك ، ما هي اخبارك ، ان شاء الله زين) مع ملاحظة في اسفل الورقة تقول : ان الاسئلة اعلاه اختيارية ، فاذا اجبتَ عليها تنال درجة كاملة وإن لم تجب عليها فلك نفس الدرجة لان صديقك سيأخذ بنظر الاعتبار بانه لم يُفسح لك المجال في الجواب !!
وبعض هؤلاء المجاملين ، لدى لقائهم صديقا لم يكونوا يتوقعون قدومه ، يقولون : لماذا لم تبلغنا بوصولك ، لقد فاجأتنا ، لو كنا نعلم بمقدمك لكنّا قد اتينا لاستقبالك وتهيأنا لدعوتك لتناول العشاء معنا في البيت . والصديق الزائر يكتفي بالرّد : بالحقيقة لم أرغب في ازعاجكم . ونفس الاخ المجامل ، عالما علم اليقين بان صديقه سوف لن يستجيب لمجاملته ، يعود للاقتراح : بالله عليك لماذا لا تأتي للمبيت عندنا ؟

وقسم آخر من المجاملين غير الآبهين حقا بالصديق القادم ، يقولون له : عندما ترى الوقت مناسبا ، إتّصل بنا لكي نهيئ لك العشاء ، وهنا ايضا اصحاب المجاملة متأكدون بان الصديق المؤدب والخجول لن يتصل أبداً كي يقول لهم ارجوكم ادعوني للعشاء ، لان قواعد التصرف في هذا المجال تقضي بان يكون صاحب الدعوة هو الذي يحدّد اليوم والساعة ، وعلى المدعوّ القبول او الاعتذار أواختيار موعد آخر .

أمّا عمّن يزورونك في مدينتك وتقوم باستضافتهم وخدمتهم ، فان معظمهم يستحلفونك عند مغادرتهم ، قائلين : إذا سمعنا بانك قدمت الى مدينتنا ولم تقم بزيارتنا ، فاننا سوف نغضب منك كثيرا وقد يستمر غضبنا الى يوم القيامة !!. فيودّعهم المُضيف بابتسامة خفيفة . وبعد فترة متذكراً قولهم عن غضبهم ليوم القيامة ، يفكر جديا برد زيارتهم . يُروى بهذا الخصوص عن احد هؤلاء المفكرين جدّيا بردّ الزيارة ، انه ذهب ثلاث مرات الى مدينتهم ولم يتمكن من رؤيتهم أو دخول بيتهم ، لانه في كل مرة كان يواجه إمّا هاتفا عاطلا ، أو عنوانا خاطئا ، او شخصا غائبا او منشغلا او مريضا.

وهناك نوع آخر من الناس الذين في ختام زيارتك لهم ، يقولون لك وبحماس شديد : انك لم تجلس لكي نستضيفك ونقدم لك فنجان قهوة وحتى انك لم تتناول لقمة صغيرة ، ان زيارتك هذه غير محسوبة ويجب ان تعيدها ، فيخرج الزائر وقد قطع عهدا وأقسم على ألاّ يدوس عتبة بابهم ثانية ، لانه اذا كان جوابهم بعد زيارة استغرقت ساعة ونصف بهذه الصورة ، فان الزيارة القادمة ستحتاج حتما الى خمس ساعات قبل الحصول على فنجان قهوة !!
وفي مجاملة اخرى يتخللها الكثير من النفاق ، يروى عن شخص كان قد مرّ بظروف صعبة جدا انتهىت بتبرئة ساحته من تهمة كبيرة كانت قد وُجِّهت له ظلما وشوهت سمعته . أتاه احد اصدقائه المجاملين وقال : انا لم ازرك خلال هذه الفترة حرصا على مصلحتك وسمعتك ، ولكني لم انساك ابدا !! فاكتفى الشخص البرئ بالقاء نظرة ازدراء على صديقه ، لان مجاملته كانت قطعة تناقض اسود خيطت بخيط ابيض فاضح .
وهناك عبارات تدعو للضحك لانها بديهيات لا تحتاج الى جواب. اتذكر في احدى المرات كنت خارجا مع اصدقاء في رحلة وتأخرنا في العودة مِمّا ادخل بعض القلق في نفوس الاهل . عند وصولنا خرجت بعض النسوة للقائنا وبدأت إحداهن تعاتبنا قائلة : هل عدتم ؟ فاجبتها بصوت عال يهتزّ غضباً : كلاّ ، إننا لم نعد . ماذا كان عليّ القول ، وهل يحتاج هذا الى سؤال ؟

اما الان فلقد وصلتُ الى عبارة لا تفارق شفاهنا في كل حديث ، ولقد اصبحت جوابا مسبّق الصنع في اغلب محادثاتنا ، وهي عبارة (إن شاء الله) . فهي تستخدم في محلها وفي غير محلها . انها الجواب السهل لكل موقف لا نريد الالتزام به .اني ارى بان استخدامها في بعض المناسبات ينقلب كفرا .فمثلا اذا طـُلِب من أحد في حالة معينة ألاّ يهين فلانا ، أو لا ينتقم منه ، وكان جوابه إن شاء الله ، وبعدها قام بالاهانة والانتقام ، فهل هذا يعني بان الله شاء الاهانة والانتقام ؟ هل يمكن لله ان يريد الشر ؟

ان الاجانب يبتسمون لدى سماعهم إيّانا نجيبهم بعبارة إن شاء الله لانها تعني لديهم بان قائلها غير واثق من نفسه او انه كاذب ، وفعلا عندما نجيب بإن شاء الله ، فاننا لا نريد الالتزام . إن شاء الله تعني باننا لسنا مسؤولين عن كلامنا وتصرفنا ، واذا حدث مكروه أو أيّ شئ آخر ، فالله هو الذي شاء ذلك . لعله من المفيد ان نؤكد أمرا يُفترض ان يكون جليّا للجميع وهو أن الكون باكمله هو بأمر الله وارادته ، فالله هو الذي اوجد العالم والطبيعة بكل ما فيها وتوّج عمله بخلق الانسان. وضعَ للطبيعة قوانينَ تسير بموجبها ووهب الانسان عقلا وحرية للتمييز والاختيار. فالله يعرف مسبقا ماذا سيفعل الانسان ولكنه يتركه سيّد قراره .

فارادة الله التي نتكلم عنها اذن هي ارادة شاملة ، لان الطبيعة تسير بقوانينها والانسان يتصرف بعقله وحريته. فالخير والشر هما خيار الانسان وليس تدخلا من الله ، وإلاّ لكان الانسان قد اكتفى بالجلوس في مكانه دون حراك منتظرا مشيئة الله ، انطلاقا من مبدأ أنّ لا شئ يتم بدون أمر الله ومشيئته . هذا صحيح بصورة عامة ولكنه غير صحيح في الحياة اليومية العادية ، فمثلا اذا طلب مني القاضي ان اعيد مبلغ المال الى صاحبه ، وقلت له إن شاء الله ولم اعد المبلغ ، هل سيكون الله الذي شاء ذلك ؟ وإذا طلب مني الوالد ان اصالح أخي وقلت له إن شاء الله ولم افعل ، هل سيكون الله قد شاء ذلك ؟ واذا طلب مني جدي مساعدة رجل محتاج وقلت أن شاء الله ولم افعل ، فهل يكون الله مسؤولا ؟ حاشا، لان الله لا يريد الا الخير .

ما اجمل الجواب الذي يقتصر على كلمتي نعم و لا ، وفي حالة عدم الرغبة في الالتزام يجيب الشخص بانه غير متأكد او بانه سيرى الامر.

انا لم اذكر هنا سوى حالات بسيطة ، لان العبارة هذه فعلا ملازمة للحديث اليومي وقد يرددها المرء مئات المرات في اليوم . انها اصبحت جزءً مهما من الكلام . ليس المقصود استئصالها من كلامنا ، لانها تكون احيانا الجواب الانسب لا سيما عند تنفيذها ايجابيا ، ولكننا يجب أن ننتبه الى استخدامها أو نخفف منه لكي نحافظ على قدسيتها .

هذا ما اردت ذكره عن بعض مجاملاتنا لان الموضوع واسع جدا ، فالكلام منذ القدم كان هكذا ، يتكون من حفنة مجاملة وحفنتي نفاق وحفنة كبيرة تحوي مزيجا من التمليق والكذب والنميمة ، واذا غربلنا حديث الاربع حفنات لعلنا لا نحصل الا على جملتين او ثلاث من كلام يستجيب الى المنطق والصدق. الامثلة الغزيرة عن حالات المجاملة هذه كانت قد اصطفت في ذهني في طابور طويل ، فاخترت نصف متر من الطابور وصرفت البقية ، لان القارئ في ايامنا اضحى يملّ من قراءة مقال بصفحتين ، فما بالك بمقال كان سيخرجه طابور الامثلة بخمس عشرة صفحة ؟!!






ورد الينا عبر بريد الموقع
Matty AL Mache