كتاب موسوعي عن مسيحيي العراق قبيل رحيلهم

بدء بواسطة برطلي دوت نت, ديسمبر 18, 2014, 06:01:34 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

كتاب موسوعي عن مسيحيي العراق قبيل رحيلهم


برطلي . نت / متابعة
الحياة / بغداد - علي عبد الأمير
لم يـــكــــتف الــرعب «الداعشي»، بترويع مئات الآلاف من المسيحيين العراقيين قتلاً وتهجيراً واستيلاء على أملاكهم وحواضرهم الدينية في مناطقهم في سهل نينوى، فحسب، بل لاحقهم ثقافياً، حين صادر كتاب «المسيحيون في العراق» الذي حرّره الباحث المختص بشؤون الأقليات، سعد سلوم، لدى نقل الكتاب المطبوع في لبنان، عبر سورية.
إنه كتاب «موسوعي» من 900 صفحة من القطع الكبير، بدأ كفكرة انطلقت من داخل كنيسة «سيدة النجاة» التي شهدت جريمة مروعة راح ضحيتها عشرات القتلى من المصلين، وأثناء عمل محرره على الفيلم الوثائقي «أقلية في خطر» الذي يتحدث عن تأثير الجريمة في هوية بغداد، بسبب ما يعد أكبر هجرة للمسيحيين في تاريخ العراق المعاصر، والذي أعقب الجريمة، إذ تتحدث بعض الإحصاءات عن هجرة 4 آلاف عائلة خلال أقل من ثلاثة أسابيع.
ووفق الباحث سعد سلّوم، «كانت رسالة فيلم «أقلية في خطر» هي أن «الغالبية في خطر» بسبب هذه الهجرة وتغير هوية البلاد وتحولها إلى هوية صحراوية»، وبعد انتخاب البطريرك روفائيل الأول ساكو على رأس الكنيسة الكاثوليكية في العراق 2013، شعر الباحث بأنه «إزاء روح جديدة، ومن هنا نشأت لدي الحماسة لتحويل الفكرة إلى مشروع ملموس. إعادة كتابة تاريخ المسيحيين وليس المسيحيية فقط (المسيحيون كجماعة وليس المسيحية كدين)، وهو ما نفتقر إليه بسبب سيادة نسخة تاريخ رسمية تطرد المسيحيين من مسرح التاريخ».
وكان العنوان الأول للكتاب هو «الكنيسة الحية»، انطلاقاً من إيمان صاحب سعد سلوم، بأن «كنيسة العراق لن تموت بسهولة مع وجود أشخاص مثل ساكو. ولكن، في الوقت ذاته كان نزيف الهجرة يرسم واقعاً آخر، فهل نحن إزاء علامات لزوال المسيحية من الشرق والمسيحيين من العراق»؟

في «لحظة داعش»
وانطلق مشروع الكتاب في لحظة مفصلية، يرسم الباحث ملامحها: «اكتمل الكتاب وأنا بعيد عن الوطن (كنت في نيويورك) أنظر من خلال الشاشات إلى ما يفعله القتلة بهوية البلاد، إذ لم يستهدف مقاتلو داعش تقطيع أوصال الدولة العراقية، بل ضرب هوية العراق ووجوده، فعدت إلى الوطن، ودفعت الكتاب إلى المطبعة في بيروت، ثم اندفع المسيحيون إلى الهجرة».
مقدمة الكتاب تنطلق من سؤال: «هل يمكن تخيل الشرق الأوسط من دون مسيحيين؟» في حين حملت الخاتمة عنوان «علامات شرق أوسط من دون مسيحيين» وكأنه إجابة عن سؤال المقدمة.
وبحس من الأمانة والمراقبة البحثية يلفت سلّوم إلى أن «عنف الجماعات الإسلامية المسلحة الذي انطلق ضد المسيحيين في عراق ما بعد 2003، اتخذ طابعاً مقيتاً، مع ما يحمل هذا العنف من ثقافة الإقصاء التي جعلت المسيحي «نصرانياً» و «ذمياً»، أي إنساناً من درجة أدنى، مطلقة هجرة مسيحية عكسية إلى مناطق سكنهم الأصلية في سهل نينوى، وملاذات موقتة في كردستان العراق، ولتشهد البلاد أكبر هجرة للأقليات في تاريخ العراق المعاصر.
إنها هجرة اللاعودة للغالبية العظمى منهم، فهي ليست خياراً موقتاً أو مرحلياً لهم، ولا تعكس خياراً فردياً على أساس معطى اقتصادي، بل أصبحت قراراً نهائياً لا رجعة فيه، حتى لو تحسنت الأوضاع الأمنية، الأمر الذي يعكس شعورهم بضياع الوطن وتلاشيه، أو أنهم على الأقل أصبحوا غرباء في بلد يعدون من سكانه الأصليين. إنه رحيل عن الأوطان الأصلية إلى أوطان بديلة، وتراجع من المجال العام، إلى التقوقع على الذات، وعودة من الدولة المتصدعة، إلى الجماعة، ومن هوية كبرى مفقودة، إلى هوية فرعية مقصودة.
ومن فضائل الكتاب وهي كثيرة، أنه يضع القارئ في صورة «النهضة الثقافية الحديثة المرتبطة بالمسيحيين، فقد أدخل الآباء الدومينيكان المطبعة الأولى إلى الموصل بين 1856 و1857، وكان كتابها الأول عن قواعد اللغة العربية «خلاصة في أصول النحو» للخوري يوسف داوود، وطبع فيها أول كتاب مقدس باللغة العربية. وكان دور المسيحيين في الصحافة ريادياً، فقد أصدروا في مدينة الموصل عام 1902 المجلة الأول في العراق، باسم «إكليل الورود»، وأصدرت بولينا حسون مجلة «ليلى»، وهي المجلة النسويّة الأولى في العراق عام 1927، وتشهد الأيام أنهم كانوا حراس اللغة العربية ومن أهم أعلامها. ويكفي أن نعترف بأنهم كانوا رواد النهضة العربية الحديثة التي ارتبطت بجهودهم الثقافية والفكرية، وظلّوا جزءاً حيوياً من الطبقة الوسطى، بدورهم الريادي في الفنون والآداب والموسيقى».
ومن حقائق عميقة كهذه عن دور مسيحيي العراق في تاريخ بلادهم وحضارته، ينتقل الباحث إلى سؤال جوهري: «كيف كان يمكن تخيل تاريخنا المعاصر من دونهم، وهل تصبح إبداعاتهم وريادتهم محض ذكريات»؟ والسؤال هذا يقود إلى أسئلة ليست أقل حرجاً وإرباكاً: «هل يحول عدم الاستقرار وثقافة الإقصاء، مسيحيي العراق إلى طائفة منقرضة؟ وهل يسيرون على الطريق التي سار عليها من قبل، يهود العراق، فطوي جزء من ذاكرة البلاد، واختفى إلى الأبد مع اختفاء الجيل الأول للتهجير؟ وهل ما يحدث اليوم لمسيحيي العراق والشرق الأوسط، سيكون أوضح شاهد تاريخي على بداية تلاشي الوجود المسيحي في العراق، واختفاء واحدة من أقدم الجماعات المسيحية في الشرق الأوسط»؟

وثائق كاملة
في الكتاب محاولة كامنة لمواجهة الماضي وإثارة الأسئلة الكامنة تحت سطحه، وتتضمن فتح أسئلة القلق في شأن المستقبل، وهي محاولة للتخلص من سلطة الخوف لا يمكن إنجازها من دون التسلح بالاعتراف والمصارحة، بالذات مع من يرى في «البحث عن الأقليات تكريساً لتقسيم البلاد إلى طوائف وجماعات». فهو ينبّه إلى خطر نهاية الوجود المسيحي في العراق والشرق بعامة، بل يذهب إلى أن «المسيحيين في العراق والشرق إذا كانوا في خطر، فإن الغالبية المسلمة في خطر أيضاً، إذ إن مسخ هوية المنطقة وإفقارها من تنوعها وتعدديتها، لن يخدما في محصلتهما النهائية سوى دول ونخب تريد تقسيم المنطقة إلى جزر إثنوطائفية، فالتعدد عاصم من الانقسام، والتنوع صمان أمان من التقسيم».
الكتاب محاولة في تقديم تاريخ شامل لمسيحيي العراق، ويرسم من خلال أصواته المتعددة صورة علاقتهم بالدولة في العراق المعاصر، قبل أن يفتح أسئلة القلق في شأن غموض المستقبل الذي يمر به الشرق الأوسط.
وفي القسم الوثائقي من الكتاب، محاولة أولية لأرشفة تاريخ مسيحيي العراق منذ بداية القرن العشرين من خلال الوثائق والتشريعات وحتى الوقت الراهن، على نحو قد يساهم في الحفاظ على الذاكرة الجمعية المهددة بالإهمال والنسيان ورصد التطورات المختلفة في علاقة المسيحيين بالدولة في العراق الحديث، وهي مجرد خطوة أولية قد تشجع الباحثين على أرشفة الوثائق المتعلقة بالأقليات الدينية في العراق وتوفيرها إلى جمهور القراء والمختصين من الباحثين.
إنها وثائق نادرة حقاً، لتشريعات وإحصاءات ووثائق عن مسيحيي العراق: كنائسهم، مؤسساتهم التربوية والثقافية والاجتماعية، قراهم المدمرة 1963 - 1988، قساوستهم المقتولون 1972 - 1989، والذين اختفوا في عمليات «الأنفال» عام 1988، ومن فقدوا خلال النزوح الجماعي مع الكرد خوفاً من عقاب صدام حسين إثر انتفاضتهم عام 1991.
وفي الفصل الأول كتبت سها رسّام «جذور المسيحية في العراق» مؤرخة لنشوء الديانة المسيحية في بلاد ما بين النهرين. فيما رسم الفصل الثاني خريطة الآثار المسيحية في العراق، وكتبه الآثاريان: عبد الأمير الحمداني وحكمت بشير الأسود. أما الباحث خوشابا حنا الشيخ، فقد رصد الطوائف المسيحية في العراق: الكلدانيون، الآشوريون، السريان، الأرمن، البروتستانت والطوائف الغربية الأخرى.
ودرس البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو، حال «مسيحيي العراق في ظل الحكم الإسلامي». وبحث سامي المنصوري أوضاع مسيحيي العراق في ظل الدولة العثمانية. ورصد محرر الكتاب، كيف كانت أوضاع المسيحيين في «العراق الجمهوري»، مؤكداً «هيمنة الدولة على شؤون الطوائف الدينية المسيحية»، فيما تابع الكاتب والصحافي وليم وردا، أحوال المسيحيين بعد الغزو الأميركي للعراق، دارساً بتمعن «دعوات الحماية الدولية والحكم الذاتي للمسيحيين» إثر موجات استهدافهم المنظمة.
الكتاب بدا كأنه تلويحة للمسيحيين العراقيين قبيل رحيلهم النهائي عنه.