استذكاراً للذكرى الاولى لمذبحة كنيسة سيدة النجاة موقع برطلي دوت نت يفتح ملفاً خاص

بدء بواسطة matoka, أكتوبر 30, 2011, 07:19:05 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

استذكاراً للذكرى الاولى لمذبحة كنيسة سيدة النجاة
موقع " برطلي دوت نت " يفتح ملفاً خاصا بهذه المناسبة






تمر غداً 31 / 10 / 2011  الذكرى السنوبة الاولى للجريمة البشعة التي تعرضت لها كنيسة سيدة النجاة في بغداد، بعد قيام مجموعة  مسلحة، بمهاجمة المصلين في الكنيسة، وقتل العشرات منهم، بينهم كاهنين . و عائلة من ابناء برطلي .

وعليه سيخصص موقع " برطلي دوت نت " هذه الصفحة التي تتضمن مشاركاتكم و ردودكم  ونهيب بالاخوة  الاعزاء  ِاغناء الملف بالمعلومات عن ذلك والمساهمة بكل ما تحصلون عليه من مقالات و تحقيقات و صور ومقاطع صورية تخص هذه المناسبة الاليمة .










Matty AL Mache

matoka

كان حاضرا في الكنيسة...
نائب رئيس مجلس الاقليات العراقية الكاتب لويس اقليمس يروي شهادته عن مذبحة كنيسة سيدة النجاة

عنكاوا كوم – خاص

"تخيّلتُ للوهلة الأولى أنها مجابهة عسكرية حقيقية لاتقبل الجدل تجري فصولها خارج الكنيسة. لكني أدركتُ فورًا، أن هذه، إنّما هي هجمة إرهابية خطيرة على الكنيسة، حينما بدأ المصلّون في المواقع الخلفية يتساقطون، ومنهم  الشباب الذين همّوا بإغلاق الباب"...
تلك بعض الكلمات التي ضمتها شهادة لويس اقليمس الكاتب نائب رئيس مجلس الاقليات احد شهود العيان الذين كانوا في داخل كنيسة سيدة النجاة، اثناء تعرضها للجريمة الارهابية الدموية في الـ 31 من تشرين الاول 2010.
اقليمس بعث بنسخة من شهادته الى موقع "عنكاوا كوم" الذي ينشرها بنسختها الاصلية المرسلة.



لمناسبة مرور عام على مجزرة سيدة النجاة في 31 تشرين أول 2010
هول الساعات العصيبة الأربع
مجزرة كنيسة سيدة النجاة
اليوم: 31 تشرين أول 2010
الوقت: الساعة 5.20 عصرًا
الزمن الطقسي: أحد تجديد البيعة

كعادتي، كل يوم أحد، تهيّأتُ للذهاب إلى كنيستي، كنيسة سيدة النجاة، للمشاركة في قداس العصر. وبسبب انشغال باقي أفراد الأسرة، في أمور منزلية طارئة، لم يتهيّأ لهم مرافقتي، سوى ولدي الأصغر رابي.
حيّيتُ الأب وسيم القس بطرس في مدخل البوابة الرئيسة. وبابتسامته المعهودة، ردّ التحية، رغم انشغاله بالحديث إلى فتاتين من أبناء الطائفة. ثمّ حيّيتُ الخوري روفائيل قطيمي، وهو جالسٌ على كرسّيه أمام المذبح، وقد أوقفني طالبًا مني المرور عليه  في قلاّيته بالمطرانية، متى أشاء لاحتساء فنجان قهوة، ردّا لجميل أراد تكريمي عليه. ومع دخولي باب السكرستيا، حيّيتُ الأب ثائر عبدال، وقد كان متشحّا بحلّته الكهنوتية الجميلة، ذات اللونين الأبيض والسمائي، متهيّئًا لإقامة آخر ذبيحة له- لم تكتمل- على مذبح الشهادة في كنيسته التي أحبها ومؤمنيها بكل جوارحه.
بدأنا نحن الشمامسة، بإنشاد ترتيلة بنوهروخ بالسريانية (بنورك نرى النور...)، بسبب تأخر جوق الكنيسة عن الحضور مبكرًا.

  بدء الهجوم أثناء موعظة القداس الإلهي:

وهكذا بدأ الأب ثائر القداس بترتيلة إيرامرموخ ( أعظمك أيها الملك ربي...). أعقبه بقراءة إنجيل أحد تجديد البيعة، الذي ذكّرنا بتجديد الشهادة لآلوهية المسيح، عبر تأكيد مار بطرس له "أنت المسيح  إبن الله الحي"، ردّا على سؤال يسوع  لتلاميذه "ومن أنا في رأيكم أنتم" (متى 16:15-16). تلك كانت آخر عظة للراعي الغيور، حيث مرّ على ذات المعنى تكرارًا، بحيث أسرّيتُ لزميلي الشماس إلى جانبي، أن الأب ثائر، مازال يعيد ويكرّر ذات المعنى. وما هي إلاّ لحظات على هذا الحديث، وغبّة مرور خمس دقائق فقط، على بدأ الموعظة، حتى سمعنا صوت إطلاقاتٍ متتالية خارج الكنيسة، وقد كانت الساعة تشير إلى الخامسة والثلث تمامًا. حينها، طمأن الأب ثائر المؤمنين بقوله: "ماكو شي"، أي لا يوجد شيء. إلاّ أن القلق ساور المصلّين حينما تكرّر إطلاق نيران متتالية أكثر كثافة، أعقبها انفجارٌ متوسط. حينئذٍ، أشار الأب ثائر عبر الميكروفون للشباب في مؤخرة الكنيسة، بإغلاق الباب الرئيسي والبقاء في الداخل، حرصًا على سلامة المؤمنين. ثم تلا تلك الأصوات، انفجار هائل، هزّ أركان الكنيسة، فتراكض الناس في اتجاهات مختلفة مذعورين من شدة الهلع والخوف والشك بحصول شيء غير طبيعي على الكنيسة. أمّا أنا، فلم أتمالك نفسي، مثل خوري الرعية الذي أُصيب هو الآخر بالذعر مع الكاهن المحتفل بالذبيحة وزميله الشاب القس وسيم الذي تراكض هو الآخر نحو صحن الكنيسة. هممتُ بنزع قميص الشماسية، حيث أدير القداديس عادة، وطلبتُ من إبني رابي ترتيبها وإعادتها إلى مكانها، كي أستعجل بالخروج للوقوف على ما يجري. لكنّي لم أستطع الخروج من غرفة السكرستيا، بسبب توالي الرمي المكثّف، خارج الكنيسة، وتخيّلتُ للوهلة الأولى أنها مجابهة عسكرية حقيقية لاتقبل الجدل تجري فصولها خارج الكنيسة. لكني أدركتُ فورًا، أن هذه، إنّما هي هجمة إرهابية خطيرة على الكنيسة، حينما بدأ المصلّون في المواقع الخلفية يتساقطون، ومنهم  الشباب الذين همّوا بإغلاق الباب. وهكذا، تراجعتُ واحتميتُ مع أكثر من خمسين مصلّيًا بمعية الخوري "الختيار" داخل غرفة السكرستيا الصغيرة التي عجّت بأجسام تنبض بالخوف والفزع والرهبة من شدّة الهجمة والأصوات المدوّية بلا انقطاع. وهناك من تمكّن من اللجوء إلى هذه الغرفة مضرّجين بدمائهم، بعد إصابتهم بطلقات عشوائية أطلقها الإرهابيون الأربعة الذين اقتحموها بغير رحمة وتجرّؤوا على قتل وجرح أبرياء يصلّون ويبتهلون إلى ربهم كي يعيد السلام والأمان لوطنهم الجريح.

  إبلاغ قيادة عمليات بغداد:

هنا، وأمام هذا المشهد المريع، كان لابدّ من نقل ما يجري من مشاهد دراماتيكية تقتيلية وترهيبية بحق المصلّين الأبرياء، شهداء ومعترفي كنيسة سيدة النجاة. ولحسن الحظ، كنتُ أحتفظ بأرقام هواتف نقالة لبعض من العسكريين في قيادة عمليات بغداد. لذا كنتُ من أوائل من بادر إلى نقل هذه المأساة بعد دقائق قليلة من حدوثها، طالبًا النجدة، ومستصرخًا ما بقي من الضمير العراقي في شرف العسكر. وجاءني الاطمئنان بأن رسالتي قد وصلت وتم الإبلاغ عن الحادثة، وأن الإجراءات اتخذت على مستوى القيادة العامة. وأذكر أن من بين الاتصالات المهمة التي وردتني بعد بدء الحادثة بدقائق، ذلك الذي أجراه معي النائب "يونادم كنّا"، للاستفسار عمّا يجري بعد سماعه ذلك من صديق اتصل بي من أربيل، في سؤالٍ شخصيّ، حيث نقلتُ له مأساتنا، طالبًا منه أن يجري ما يستطيع من اتصالات مع معارفه، لطلب المساعدة والنجدة. فما كان من الأخير، إلاّ أن ينقل للسيد "كنّا"، ما يحصل داخل كنيسة سيدة النجاة من مأساة مروّعة، هي الأسوأ في تاريخ كنيسة العراق وعلى صعيد الوطن، من حيث كونها حادثًة نوعيية تم التخطيط لها بكل عناية وبدقة متناهية من حيث اختيار الوقت والموقع والهدف. حينها انبريتُ بطلب الاستغاثة من السيد "كنا"، لما له من معارف وصلات بأجهزة الأمن والدولة، للعمل ما يمكنه من أجل إنقاذ المصلّين. وقد ظلّ على اتصالٍ دائمٍ معي طيلة فترة المحنة، حيث علمتُ فيما بعد، أنه كان قد شكّل خليّة أزمة في مقر الحركة الديمقراطية الآشورية لمتابعة ما يحدث، في جهودٍ قام خلالها بنقل ما أبلغتُه إلى جهات أمنية وحكومية وعسكرية. هنا وفي هذه الأثناء، ازدادت المأساة بعد تجرّؤ أحد الإرهابيين بصلاة "الأذان"، على الطريقة السنّية، داخل الكنيسة، وكان الصوت ليافعٍ لمّا تجاوز العشرين من عمره، وذا لهجة أشكّ في عراقيتها. تلتها أصوات إطلاقات نارية مكثفة. حينها تيقنتُ أن أبرياء داخل صحن الكنيسة، يجري قتلهم بكل ضراوة بسيلٍ من الطلقات، لا تعرف الرحمة، وباسم " ألله أكبر"، الذي حوّله هؤلاء الإرهابيون إلى ربّ إرهابي يجيز قتل كلّ من يختلف عنهم في الدّين.

  غرفة السكرستيا، دراما من الفزع والهلع:

داخل غرفة السكرستيا التي أمضينا فيها قرابة الأربع ساعات من الفزع والخوف والرهبة، لم يكن في تصوّرنا أن نخرج منها سالمين، سيّما وأن إثنين من الانتحاريين كانا على مرأى من الباب الهش الذي سرعان ما تحطّم بفعل الإطلاقات العنيفة باتجاهه، فتحطّم فيه الزجاج، ولم يكن أمام بعض من الملتجئين داخل الغرفة، إلاّ دعمه بخزانة كتب طقسية بجواره، كي تحمي ما تستطيعه من نثار الشظايا وغبار التراب المتعالي من جرّاء الإطلاقات النارية التي كانت تُوجّه ضدّنا إلى جانب 4 إلى 5 قنابل يدوية، ألقاها الإرهابيون عبر ثقوب الباب المتحطّم. وفي كلّ رشقة من الطلقات النارية أو قنبلة كانت تُطلق علم من في السكرستيا، كانت تتعالى فيها أصوات النسوة والأطفال والصبايا والرجال، لاسيّما من المصابين الزاحفين من داخل صحن الكنيسة قبل إغلاقنا للباب، أو من الذين أصابتهم الإطلاقات النارية والقنابل داخل الغرفة... "أبونا، أعطيني الحلّة"، سمعتُها من أفواه المحتمين فيها مرارًا، تناجي الخوري قطيمي، الذي أبى إلاَ أن يبقى واقفًا على رجليه، طيلة وقت المأساة، حتى الربع ساعة الأخيرة التي فيها تهاوى جريحًا بعد إصابته حين اقتحام القوات العراقية للكنيسة، حيث لا نعلم كيف وماذا جرى في هذه العملية غير الدقيقة للإنقاذ. وسط الهول والفزع البشري الطبيعي وأمام مثل هذه المأساة المرّة، وإزاء صيحات الاستغاثة المتواترة من الملتجئين داخل الغرفة التي أصبحنا فيها باختيارنا، أسرى ورهائن للإرهابيين الأربعة (الإرهابي الخامس كان قد فجّر نفسه على سياج الكنيسة مع بدء عميلة الاقتحام بسبب إصابته في مجابهة مع حرس سوق الأوراق المالية مقابل الكنيسة)، أُصبنا بصاعقة كبرى حين سماعنا بمفارقة العروسة "رغدة " حياتها، بعد نزفها الشديد بسبب إصابتها البليغة. والشهيدة المرحومة، كانت قد تخرّجت من كلّيتها في الشهر الثامن من هذا العام، وتزوّجت في الشهر التاسع، ونالت الشهادة والراحة الأبدية في نهاية الشهر العاشر! أمّا الشهيد الشاب أيوب عدنان، الذي ارتمى بجواري وعلى يساري، فقد كان هو الآخر، مصابًا بإصابة بليغة في جنبه الأيسر. وقد سقيتُه ماءً، أنا وابني رابي، كلّما طلب منّا ذلك، وهو ممدّدٌ يتلو صلاة المسبحة. وكنتُ أراه يرسم إشارة الصليب بعد نهاية كلّ سرّ يصلّيه، حتى خمد في ثالث قنبلةٍ يدوية ألقاها الإرهابيون، وقد لامست يديه الطاهرتين وقلبت منضدةً كانت فوقنا، وألقتها على صدره، حتى تمكنتُ من رفعها برجليّ كي أخفف عنه الألم ما أستطعتُ. حينذاك، أسرّيتُ لابني أن "أيوب" صار بلا حراك، وأخشى مفارقته الحياة. أمّا أنا، فقد تصدّعت أذني اليسرى من دويّ هذه القنبلة وشعرتُ بدماء تنزل من جهة فكّي الأيسر وبصعوبة في السمع. وقد ثبت بعد إجراء الفحوصات الطبية فيما بعد، تمزّق طبلة الأذن اليسرى عندي واختراق شظية صغيرة أسفل الفك الأيسر واستقرارها بالقرب من عظمة الفك، إلى جانب جروح وشظايا صغيرة أخرى في اليد اليسرى والصدر. كما، أُصيب إبني رابي أيضًا  إصابة خفيفة في رأسه، حيث لاحظتُ في حينها أثرًا لدماء تسيل من جبهته اليمنى، ولكنه طمأنني أن إصابته خفيفة. فحنيتُ على وجهه الطري وقبّلتُه مرارًا، مطمئننًا إياه أن العذراء لن تنسانا ، وهي سوف تنجينا من هذه المصيبة. وأذكر أنه كلّما كان يسود صمتٌ قليلٌ، كان يطلبُ منّي أن أكلّمه، حتى يطمئنّ هو الآخر عليّ. وكان يردّد عليّ: "بابا إحكي معاي، حتى لو ما بيك شي". لحظات حميمية شعرتُ بها كأب في موقف لا يُحسد عليه، إزاء فلذة كبده الذي يحنّ لوالده، رغم أن الإثنثين كانا في ذات المحنة وينتظران ذات المصير المجهول. كما أُ صيب عددٌ من الملتجئين إلى هذه الغرفة الصغيرة بجروح متنوعة، وكانت إصابات بعضهم شديدة وصعبة، حيث تم نقل العديد منهم إلى مستشفيات حكومية وأهلية لغرض تلقي العلاج اللازم. ولن أنسى الحرج والانزعاج اللذين اُصبتُ بهما، حين تعطّل جهاز النقّال عندي، بحيث  فقدتُ الاتصال مع ضباط في قيادة عمليات بغداد ومع دائرتي وكذلك مع الأهل والأصدقاء وعدد من المسؤولين الذين ظلوا يتابعون  معي الحدث الجلل، فيما كانوا يسمعون  عبره دويّ الانفجارات المتلاحقة وسيل الإطلاقات التي لم تنقطع طيلة فترة الهجوم الشرس. حتى إنّ بعضًا من متحدثيّ خشوا أن يكون قد أصابني مكروه! لذا التجأتُ إلى الجهاز الآخر الذي برفقتي لاستكمال التواصل مع هؤلاء ومع العشرات من الاتصالات التي قمتُ بإجرائها أو تلك التي استلمتُها خلسةً، مخافة أن يسمع الإرهابي الجالس أمام الباب على بعد خطوات منّي.
لقد كان بإمكاننا الخروج من الباب الخلفي المؤدي إلى باحة  الكنيسة من جهة المدرسة، إلاّ أنّي منعتُ أية محاولة لفتح الباب، بسبب عدم تعرّفنا للشخص الذي نادانا من خارجه. كما حسبتُ أن أية محاولة منّا للخروج عبر هذا الباب الخارجي، سوف تنبّه الإرهابي القابع على أول كرسيّ أمام باب السكرستيا، وحينها ستكون العاقبة أفجع، فيما لو فكّر في دخول الغرفة التي تحصنّا فيها وتفجير نفسه وسطنا. وفي الحقيقة، لم  يكن هناك أيضًا من مجال لفتحه، لأننا كنّا في وضع انبطاح خلفه مباشرة. لذا آثرنا البقاء على هذه الحالة. ولكننا لم نسلم أيضًا، حتى من ضربات تلقيناها عبر الفتحة العليا. فقد تحطّم زجاج فتحة هذا الباب على رؤوسنا، ثم تلاه إلقاء قنبلة يدوية من الفتحة التي تحطمت. وهذا دليلٌ على وجود شلّة متعاونة وساندة للإرهابيين، كانت تتربص لما يجري في الداخل. وهنا أتساءل، إذا كانت ما تُسمّى ب"القوة الذهبية" للواء مكافحة الإرهاب، قد وصلت في وقت قياسيّ إلى موقع الجريمة، ألم يدر في بالها أن تراقب المداخل والمخارج والجوانب وكذا أسطح الأبنية المجاورة، بحثًا عن دلائل وقرائن يمكن أن ترافق مثل هذا العمل الإرهابي المدبّر بكل عناية وإمعان وسرعة من جانب المجموعة الإرهابية المهاجمة في عزّ النهار؟ أم إن لها رأيًا آخر، كي لا تزعج الجهات الساندة للمجموعة ولا تتورّط في "سين وجيم"، لاحقًا!

  إقتحام مهزوز للقوات العراقية:

كنت عبر جهاز النقّال أُنقل إلى متحدثيّ، وكانوا عديدين، هولَ الأصوات التي كانت تقضّ مسامعنا، ولم يكن أمامي سوى إطلاق صيحات الاستنجاد مع المتصلين، الذين لم يستطيعوا فعل شيء، سوى الانتظار عمّا يسفر عنه قرار العسكر أمام المشهد الرهيب، فيما راح غيرهم يدعو من السماء أن تتدخل لإخراج من بقي حيًا من الرهائن، سالمًا من هذه المحنة. كما تكرّرت اتصالات من أفراد عائلتي الذين سمعوا بالخبر "الفاجعة" من الجيران الذين تسارعوا إلى المنزل فور تلقيهم النبأ من القنوات الفضائية المتعددة التي تابعت الحدث أولاً بأول. ومع مرور الوقت عسيرًا في هوله، جاءني الاطمئنان من العسكر، عن قرب وصول القوات المقتحمة، المسمّاة ب"الفرقة الذهبية". ولا أدري من أين لهذه الفرقة، أعراقية كانت أم أمريكية، أن تُسندَ إليها مثل هذه التسمية!!!. فالفعل الذي قامت به، هو انتظارها كي تنفذ ذخيرة الانتحاريين وتخبو حدة نيرانهم، ثم شرعت بالاقتحام غير النظامي، بل المتخلّف وغير المنسَّق في مثل هذه المواقف. على الأقلّ، هذا ما لاحظناه من خلال استقراء الموقف وشهادة الشهود الذين راقبوا المشهد برمّته من المتحذلقين والمراقبين خارج الكنيسة. لقد كانت نداءاتي لمتحدثيّ العسكريين عبر الهاتف الجوّال صارخةً، تناشدهم بالإسراع في اقتحام المكان، بسبب تفاقم الموقف مع تزايد إطلاق الأعيرة النارية المكثفة والمصحوبة بالإنفجارات التي كانت تصمّ الآذان وتفجع القابعين الأبرياء، سواءً في صحن الكنيسة أو في السكرستيا التي احتمينا بها أو في غرفة العماذ على الجهة اليمنى من الكنيسة. لقد كنّا جميعًا أشبه بحملان ينتظرون بطش الإرهابيين وبالطريقة التي تفنّنوا بها في قتل المصلّين من كهنة ونساء ورجال وشباب وصبايا، حتى الأطفال لم يسلموا من الجرم. وكل ذلك حصل باسم الله. ونحن نعتقد هذه القوة "الذهبية"، لم تستطع  أن تثبت نصاعة معدنها الذي تسمّت به، أوتثبت جدارة أدائها، إلاّ بعد أن نال الانتحاريون من غالبية الذكور المتواجدين داخل الكنيسة، من الذين لم يعنهم الظرف الطارئ كي يجدوا لهم ملاذًا للاحتماء به من بشاعة العملية. فقد سقط العديدون صرعى بنيران الحقد الأسود، وعلى رأسهم الراعيان والكاهنان الشابان "ثائر عبدال" و"وسيم القس بطرس"، وعدد من المصلّين الأوفياء لكنيستهم وإيمانهم، وقد تجاوز عددهم الخمسين شهيدًا بين ذكر وأنثى. وبحسب شهودٍ ناجين، فقد قُتل الأب وسيم القس بطرس مع بدء العملية، فيما قُتل الأب ثائر عبدال حينما أراد تقديم نفسه فداءً عن أبناء رعيته. لكن واحدًا من الإرهابيين أمطره بوابل من الر صاص، لم يمت فورًا، إلاّ حينما سمعه لاحقًا يدمدم القول : "بين يديك أستودع روحي". فما كان من الإرهابي إلاّ أن يقول له " بعدَك حيّ؟". ثم قضى عليه شهيدّا.

ومع انقضاء الساعات الأربع بكل ما فيها من  هول ومن مرارة ومن ألم، ومع كل البشاعات التي اقترفها الإرهابيون دون وازع وبدم بارد، انطفأت الأضواء. ثم ساد صمتٌ رهيب، وتلك كانت لنا نحن في الداخل، إشارة لفعلٍ صاعقيّ قادم. وهذا ما قلتُه لإبني، كي يستعدّ للأسوأ ويخفي رأسه ما استطاع، خيفة أن يمطرنا الإرهابيون أو المقتحمون للكنيسة بوابل من الرصاص الطائش، ويحصل ما يحصل. وفعلاً، ما هي إلاّ دقائق معدودات حسبناها ساعات طويلات، حتى د وت في الكنسية أصوات انفجارات هائلة، كنّا نرى نيرانها تتراقص مرتفعة إلى أعالي سقف الكنيسة، وبالقرب منّا، حيث فجّر الانتحاريّ الذي كان يقبع أمام باب السكرستيا نفسه محدثًا حفرة، بقيت آثارُها واضحة. كما فجّر انتحاريٌّ آخر نفسه في الجهة المقابلة للسكرستيا أي في الجهة اليسرى للكنيسة، محدثًا هو ا\لآخر حفرة بادية. بعد وقت وجيزٍ، أسرّ لي إبني أن أشخاصًا قادمون باتجاهنا، يبدو أنهم من العسكر المقتحم للكنيسة. وهنا فقط بدأت تباشير الفرج تقترب، حين سماعنا أصواتا تنادينا: "نحن من قوات مكافحة الإرهاب... لا تخافوا... قولوا يا ألله". حينها تبيّنّا ملامحهم من  شقوق باب السكرستيا الذي كان ما يزال مدعومًا بخزانة الكتب. وهكذا  بدأنا نحن بالخروج من غرفة السكرستيا، الواحد تلو الآخر، وكنتُ ثاني ناجٍ خرج منها جريحًا مذهولاً، ولكن متماسكًا ومنتقدًا الطريقة التي تم بها الاقتحام غير السليم. وقد آلمني أن تُقدمَ  هذه القوات على تكبيل أيدي الناجين الخارجين من الغرفة، بحجة الشكوك في إمكانية تسلّل إرهابيين خلسة بين الناجين داخل الغرفة. و لولا اعتراضي على تصرّفهم الهمجي، لكانوا أوقفوا كثيرين وساقوهم متهمين حتى تثبت براءتُهم. لكنّي تجرّأتُ ووقفتُ أدلّهم على كلّ من أعرفهم علم المعرفة من المصلّين الذين يرتادون الكنيسة في أيام الآحاد والمناسبات. وهكذا كان خروجنا سالمين، نحن مَن حُسبنا رهائن طيلة مدة العملية الإرهابية. والحال أننا كنا قد تحصنّا في هذا المكان، دون أن نفكر في كوننا أصبحنا فعلاً رهائن العنف والعمل الإجرامي الذي ضرب كنيسة سيدة النجاة في ذلك المساء المشؤوم، وجعلها، سيدة للشهداء.


  داخل الكنيسة، فوضى ومجزرة للشهداء والجرحى:

بطبيعة الحال، لم يكن بمقدور من تحصّن في غرفة السكرستيا، أن يتبيّن ما جرى من مجزرة رهيبة داخل صحن الكنيسة التي، لقيناها بعد خروجنا
من الغرفة كئيبةً، مضطربةً، تسودها الفوضى وتفترشها جثث الشهداء الخالدين ممّن تبقى منهم بعد إخلاء معظمهم مع عدد آخر من الجرحى والناجين، قبل خروجنا نحن. خرجتُ من غرفة السكرستيا وسط الظلمة إلاّ من بصيص أضواءٍ خافتة بعد قطع وتكسير أو عطل أجهزة الإنارة. وحينما أردتُ إلقاء نظرة على حالة كنيستي، اعترضني عسكريٌ. لكنه رضخ تحت إصراري بعد تعريفي بنفسي. وفي الحقيقة، لم أشأ المغادرة قبل أن أُلقي نظرة على أركان الكنيسة. لم أصدّق ما شاهدتُه، من شدّة هول ما رأيتُ. لقد كان المنظر مأساويًا يُرثى له. فقد بدت الكنيسة أشبه بساحة قتالٍ ضروس. قتلى شهداء متناثرون هنا وهناك، نصف جثّة مقطّعة الأوصال في الجانب الأيسر للكنيسة وسط مصاطب المصلّين، أشلاء متناثرة في كلّ مكان، قطع لحم شوته نيران الحاقدين وتقدّست به جدران الكنيسة، دماءٌ غطّت جدران الكنيسة بأسرها من شدّة التفجيرات، مصاطب مكسّرة وفوضى عارمة في كل مكان، حتى بيت القربان لم يسلم من عبث العملية. كما لم تسلم جميع أجهزة التكييف التي حطمها الإرهابيون. كما ألقيتُ نظرة شاردة على المذبح و على جهة جوق الكنيسة وموقع وقوف الشمامسة وجهة المذبح الأيسر منها ثم على صفحات الكنيسة حتى نهايتها. وحينما شاهدتُ في مقدمة الجناح الأيسر للكنيسة، جثة مقطعة الأوصال، لم يبق منها سوى جزء من الرأس والصدر والذراع، أيقنتُ أنها لأحد الانتحاريين، حيث بدا الوجه غريبًا. حينها صرختُ: أيمكن أن تختلط دماء الأبرياء مع دماء المجرمين؟
لم أستطع المكوث أكثر بسبب القشعريرة التي أصابتني من وضع الانبطاح طيلة مدة تنفيذ هذه الجريمة وبسبب تبلّل ثيابي بالماء المسكوب والناجم بسبب تحطم ثلاجة الماء داخل السكرستيا، الذي اختلط بدماء الجرحى والشهداء. وهكذا خرجتُ مع من نجا و تنفسنا الصعداء، شاكرين الله على كلّ شيء. لقد كان المنظر أليمًا وقاسيًا أن أشاهد سيارات الإسعاف الكثيرة وهي تنقل الشهداء والجرحى وأهالي الضحايا في عويلٍ وبكاء وحسرة، وسط ذهول المراقبين و"المتفرجين " والمشاهدين لكلّ الأحداث منذ بدء العملية حتى نهايتها. فقد توالت عمليات نقل الجثث والجرحى إلى المستشفيات الحكومية والأهلية، فيما كانت الطرق والشوارع المجاورة جميعها مقفلةً بعد أن قُطع السير طيلة فترة الهجوم. وكان مئات الأشخاص قد تجمّعوا خارج الكنيسة، بين متفرّج وباحث عن عزيزٍ له جاء ليصلّي إلى إلهه في هذا اليوم المفجوع، ليلقاه صريعًا شهيدًا أم جريحًا متألّمًا أم ناجيًا مرهوبًا. ولم يدر في خلد أحد، أن يكون هذا اليوم، يومًا للشهداء الذين سكبت دماؤهم الزكية لتعود بذارًا لحياة أبدية.
هكذا إذن، لم يكن في رؤوس الانتحاريين الخمسة، الذين نفذوا هذه الجريمة البشعة، ومن يقف خلفهم مؤيّدًا أو ساندًا أو مخطِّطًا، سوى قتل أكبر عدد ممكن من المصلّين، وإلحاق أشدّ الأذى بالكنيسة وأبنائها  وقتل رعاتها، لا لشيء، إنّما لحقد وكراهيّة ضدّ كلّ من يختلف معهم ولا يوافقهم الرأي. لقد اختار الانتحاريون، كنيسة سيدة النجاة، لأنها الأجمل بين الكنائس في بغداد وعروسها المتميزة. لكنها ستظلّ واقفة، صامدةً شامخةً، كسفينة تمخر عباب البحر الهائج.

أمّا أنا وابني، فقد نُقنا إلى مستشفى القديس رافائيل للراهبات للعلاج، ومنها إلى البيت، حيث كان في استقبالنا الأهل والأصدقاء والجيران من مسيحيين ومسلمين عجّت بهم الدار، مهنئين بسلامة النجاة من هذه الكارثة. ولله الحمد!


  تداعبات واستنتاجات

تُعدّ هذه العملية منعطفًا في الوجود المسيحي في العراق، عندما نلقي الضوء على ما قبل وما بعد حادثة كنيسة سيدة النجاة، إذ أعاد الكثيرون النظر في حساباتهم. فهذ القطيع الصغير الذي يُسمى ب"الأقلية"، قد تيقن أنه لم يعد يثق بقدرة الدولة ومؤسساتها على حمايته وتأمين استقراره. ونتيجة لذلك، بدأ بالتفكير بشق طريق آخر، هو طريق الهجرة في بلدان الاغتراب المجهولة، وليس أسهل من ذلك!
أمّا الأغلبية، ومنهم من في السلطة وخارجها، عليهم أن يتحققوا بكلّ جديّة ليتوصلوا إلى السبب الذي يدفع فئات خارجة على القانون الإنساني، إلى مثل هذا الحقد ضدّ مصلّين مسالمين لم ينخرطوا يومًا ما في أعمال عنف. فهل إنّ قتل الأبرياء في زمننا، قد أصبح علامة؟ وهل إن الحياة لم تعد ذات قيمة لمثل هؤلاء الإرهابيين، بحيث يصير الانتحار غاية؟
منعطف كبير في تاريخنا لا ينبغي أن يًنسى أو يُدرج في ملفات التاريخ فحسب. بل إن مجزرة  "سيدة النجاة"، تظلّ بمثابة سؤال موجه إلى كل إنسان على وجه الأرض. فدماء الشهداء والأبرار والحوامل والأطفال تصرخ اليوم مثلما صرخ دم هابيل الصديق، لا طلبًا بالانتقام ولا حلاّ لمعضلة الشرّ العصية في الأرض، وإنما نداءً للتوبة والاهتداء إلى ما خلقنا الله من أجله، في العيش بسلام لمجد اسمه وليس لتلطيخه. فهو ليس إله موت ولا إله حقد وكراهية، بل إله حب وحياة وفرح. نحن اليوم جميعًا في العراق، أمام محكّ هذا السؤال؟
... بعد أيام تسلمتُ من صديق يعمل في مجال حقوق الإنسان: "إنّي خجلٌ ممّا حدث لكم، بحيث لا أجرؤ على الاتصال بك!"... وغيرها أخرى كثيرة تستنكر وتستهجن وتأسف لهذا العمل الشنيع!


لويس إقليمس
بغداد، في 8 تشرين ثاني 2010
ملاحظة: كنتُ قد كتبت هذه الشهادة مباشرة بعد أيام معدودات من حصول مجزرة كنيسة سيدة النجاة... وارتأيتُ مراجعتها وتنقيحها وإجراء بعض التعديلات عليها بسبب الطابع النفسي والشخصي الذي ظهرت فيه النسخة الأولى.



Matty AL Mache




matoka

Matty AL Mache

matoka

عملية تحرير الرهائن في كنيسة سيدة النجاة ببغداد بتاريخ 31/10/2010 و التي قامت بها قوات مكافحة الارهاب




Matty AL Mache


Paules

الرحمة و الجنة  لشهداء كنيسة سيدة النجاة شهداء المسيح  - شهداء العراق .
  تاج على راسنا يبقون و من ذكرانا لن  يزولون

ماهر سعيد متي

مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة