تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

الاتقياء المتزمتون

بدء بواسطة simon kossa, مايو 08, 2011, 02:34:01 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

simon kossa

سنبلتي الاخيرة عن الاتقياء المتزمّتين


شمعون كوسا

كنت على موعد مع ما تبقّى من سنابلي ، وبما أنه يقال إنّ وعدَ الحُرِّ دَينُ ، توجهت دون تردّد الى موعدي في اليوم والساعة المعيّنين ، الى حيث الكهف الصغيرالذي كنت قد اخترته مخبأ  لسنابلَ أسعفتني في مقال سابق . رفعتُ الحجر عن المخبأ ، وكم كانت دهشتي كبيرة حينما رأيت بانه لم يعد للسنابل وجود . وقفت حائرا وتحولت بانظاري الى جميع الاتجاهات ، فابصرت حبوبا متباعدة ملقاة في كافة الزوايا ، ادركت حالا بان يدا بشرية هي وراء هذا العبث ، يدا تأتمر بتوجيهات عقول آسنة خشيت أن تميط هذه الحبوب اللثام عمّا خفي في حياتها،  فقالت  :دعونا نفرك السنابل ونبعثر حبوبها ونلقيها بعيدا عن بعضها البعض فنقضي عليها ونغلق فاها الى الابد .

تناولتُ بعض الحبوب ، و بحركة عادية لمستها وتفحصتها ، وإذا بيّ أمام منظر اقشعرّ له بدني . شاهدت الحبوب تطير بسرعة البرق الى خلايا سنابلها الاصلية ، وكأني احضر مشهدا للفانوس السحري . وبما إني اتخيل كثيرا وأهوى المقارنه وتقريب بعض الحالات ، عملاً بالمبدء القائل : ان الشئ بالشئ يذكر ، شبّهتُ السنابل المبعثرة  وعَودَتها الى حالتها الاولية بالاشلاء البشرية عندما تستقيم لدى سماعها نداء يوم القيامة !!   يومَ يعود كل جسد الى لحمه ودمه ، فاذا كان قد تحول الى التراب في القبر أو فقد بعض اعضائه جراء حرب او مرض أو تبرّعٍ  إنقاذاً لمريض او مساهمةً في بحوث علمية ، أو اُحرِقت الجثة باكملها احتراماً لرغبة المتوفى او وقعت كليا أم جزئياً تحت انياب آكلة اللحوم البشرية ، سترجع كل ذرة من هذه الاجسام ، قريبة كانت أم وبعيدة، الى أصحابها  وبجاذبية لا تقاوم .
أمسكتُ بالسنابل وفرحت لعودتها ، وايقنت بانه مهما طالت يدُ الشر واشتدت لا يمكنها القضاء على الخير .
اخترتُ آخر سنبلة إلتأمَ شملـُها ، وقررت بان تكون هذه آخر سنابلي . قرأت عليها عنوانا غريبا لم يخطر ببالي من قبلُ . كانت حباتها باكملها مكرسة لنقل قصص اشخاص انصرفوا الى (التقوى المتزمتة او التعبد المبالغ فيه) .
تقول السنبلة عن التقوى المتزمتة بانها ممارسة ضيّقة للعبادة ، لانها تضع  مظاهرها الخارجية  في الصدارة . قصصها كانت عن اشخاص يُمضون جلّ اوقاتهم في دور العبادة . تلتقي بهم هناك اذا ذهبتَ فجرا أوعصرا أو حتى ليلا في بعض الاحيان .  يدخلون الكنيسة وهم يتمتمون صلوات نظامية ، ويتحولون  بعدها الى الفاظ اخرى لا تنتمي الى اية لغة ولكنها تخدم  استمرارية حركة الشفاه .   يتوجهون حالا الى الماء المقدس ويغمسون عدة اصابع يدهم في الجرن للحصول على أكبر كمّية من الرطوبة تضمن لهم الابتعاد لمدة أطول عن الشيطان ومغرياته .
يركعون في الجهة اليسرى من الكنيسة ويعيدون ركعة مطولة رسمية في الوسط مع انحناء عميق لتقبيل الارض عدة مرات ، ويعيدون هذه الانحناءات والركعات مع حركة قرع بسيطة على الصدر تتحول الى قبضات يد شديدة متتالية استغفاراً للذنوب، وبعدها يتوجهون الى التماثيل لتقبيل قدميها أو طرف ثيابها، ومن ثمّ تبدأ عملية اشعال الشموع هنا واطفائها هناك . وفي هذه الاثناء تكون الشفاه مستمرة في تمتمتها . يتمّ الانتقال من تمثال الى تمثال بمقتضى حاجات ذلك اليوم  او توصيات بعض الاصدقاء وطلباتهم الخاصة من القديس الفلاني ، واذا ضاقت بهم التماثيل أو رأوا بان عددها لا يشفي الغليل ، فانهم يهجمون على العواميد لانهم يعتبرونها كلها مقدسة .  يكلمون القديس الفلاني معاتبين إياه لاستجابته السريعة لجارهم  و لصمّ اذنيه أمام تضرعاتهم .  وحيال  تصرف الاتقياء المتزمتين هؤلاء ، يحافظ القديس ، المنحوت من الرخام أو الخارج قبل ايام من قالب الجبس ، يحافظ على صمته ، لانه لا يقوى على مواجهتهم بالكلام التالي  : يا ناس ، لستُ انا الذي استجيب أو لا استجيب لطلباتكم ، انا عبد انقل دعواتِكم الى الله وهو المستجيب ، وان تمثالي هنا ليس له دور سِوى تذكيركم بسيرتي واعمالي الصالحة لعلكم تقتدون بها.
مِن ضمن أنشطتهم الاخرى بهذا الخصوص بالذات ، يبدأون حملة جمع تبرعات او يدعون  الناس للمساهمة بصياغة تاج من ذهب للتمثال الفلاني مع وعود بنيل حضوى القديس المعني ، وكأنّ القديس بحاجة الى ذهب سيسعفه يوما عندما يعبس الدهر بوجهه ، فيصبح التاج الابيض خشبة نجاة له في الايام السوداء التي سيصادفها !!!

بعد الانتهاء من مراسيم تحية القديسين او بالاحرى تماثيل القديسين، يفتشون عن أقرب كرسي للاعتراف .  يُقدِمون على الاعتراف وجعبتهم خالية من الخطايا . يُضطرّون لاختلاق بعض خطايا بسيطة اقل من عرضية كالطياشة اثناء الصلاة أو الاهمال في الاعمال المنزلية او عدم إطعام الطيور والحيوانات بصورة جيدة أو في اوقاتها الصحيحة .  وشدة وسواسهم يدعوهم للعودة الى كرسي الاعتراف عدة مرات في الاسبوع ولاتفه الاسباب. واحيانا يغيرون الكنيسة او المُعرِّف لاسباب شخصية غامضة  .

اثناء القداس ، يرفعون اياديَهم مع الكاهن ،  ويتسابقون معه في ترديد صلواته ، فيستمرون في تمتمة خفيفة وغير مفهومة عندما لا يعرفون الصلاة ، واذا حدث وان وصلوا الى جملة او جملتين يعرفونها ، فانهم يرفعون صوتهم كي يوازي صوت الكاهن او يفوقه طبقة.
إذا كانوا يتجولون هائمين بين المذابح  وأبصروا الكاهن في قاع الكنيسة ، فانهم يسرعون اليه للقائه والتحدث معه عن أمر بديهي او لاستشارته في قضية لا تقبل الجدل .
أما عن الصيام ، فانهم يحرصون على القيام به على اكمل وجه وبدقة تثير الاعصاب . لا يقتربون من أيّ من الزفرين ، واذا حدث وأن تجرّأ الخبز مثلا الاقتراب من اللحم او مجرد الدخول في تماس بسيط معه ، فان ذلك الخبر يتعرض للنفى او الحجز لان التهامه سيكون وثيقة سفر من غير عودة الى جهنم .  يصومون اياما تم الغاؤها منذ قرون ويخلقون اياما خاصة بهم ، من اجل النية الفلانية او للتكقير عن تصرفات عادية صنفوها ذنوبا .
لا يتقربون من فلان لبعض ما اشيع عن سمعته ويتجنبون التسليات البريئة .لا يكفّون عن إعطاء الدروس للناس في الاخلاق والعبادة وانهم سريعو الانتقاد لاتفه الاسباب . انهم لا يجاملون حتى الاطفال ويوجهون لهم التأنيب بعد التأنيب عن كل شئ وعن لا شئ ، واذا رأوا مثلا طفلا متحمسا للعبة معينة يحبها كثيرا ، يبادرونه بالتوبيخ قائلين : كان الاجدر بك ان تبدي نفس الحماس في الصلاة والذهاب للكنيسة !!
لا تفوتهم تساعية او صلاة فرعية خاصة ، ويبحثون احيانا عن تسميات اخرى، ولا مانع لديهم لايجاد  ثلاثيات أو سباعيات ، وهي صلاة لثلاثة ايام او سبعة .

أنا لستُ ضدّ التقوى ولا العبادة الحقيقية ، ولكني سأكشف الخلل الذي يرافق هذه الممارسات . الخلل يكمن في تفرّغ هؤلاء كليا لممارساتهم هذه ، بمراسيمها واجراءاتها ومظاهرها ومواقيتها التي لا تقبل عندهم اي احتمال في التقصير.   انهم يهملون القريب وحاجاته وهمومه ، يمتنعون عن مساعدة الاخرين واسعاف المحتاجين لضيق وقتهم ،  فيعتذرون بالقول : لقد تاخرنا عن موعد الصلاة ، ولقد طلب منا الكاهن الشئ الفلاني او الحضور في الدقيقة الفلانية أو ان الصلاة المخصصة للقديس الفلاني يجب ان تتلي في الساعة الفلانية ولا سبيل للتأخر ، وحجج اخرى  تعتبر واهية أمام هموم الناس وكيفية اسعافهم في مصائبهم ومرافقتهم في مشاكلهم واوقاتهم الصعبة . أمثال هؤلاء يتظاهرون بالحياء أوالمساس بتواضعهم  اذا امتدحهم الناس ، ولكنهم يفرحون لو قال الناس عن  تزمتهم في التقوى،  مداعبين : إن الذي يتشبث بذيول ملابسكم واهدابها سيطير مباشرة معكم الى السماء !!

انهم ينسون او يتناسون قول المسيح في انجيل متى عندما يقول : (فان قدّمتَ قربانك الى المذبح وهناك تذكرتَ ان لاخيك شيئا عليك ، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب واصطلح لاخيك) ، وهناك العشرات من مثل هذه الايات تصب كلها في نفس الاتجاه .

مساعدة الغير تحتل المرتبة الاولى في ممارسة العبادة ، انها تتقدم على كافة العبادات غير الاساسية . محبة القريب تسمو بكثير على التعلق بقشورالدين ومظاهره ،وايجاد علاقات حب بين البشر هو اساس الدين، كما انه يعلو على كل الاعتبارات. لانه بنظري قد اوُجِِد الدين لتنظيم علاقات ودّ ووئام بين البشر، ومحبة الله هي من محبة القريب ،لان هذه الاخيرة تـُعتبَر التطبيق الفعليّ الصعب لمحبة الله .

هذه كانت سنبلتي الاخيرة التي حدثتني عن نماذج لا يخلو منها أي مجتمع . ان هؤلاء ليسوا سيئين ، ولكنهم ضعاف النفوس ومعدومو الشخصية ، لذا يحاولون جلب انتباه الناس والفوز باحترامهم ، ولحسن الحظ انهم لا يمثلون الاكثرية .
كانت بقية السنابل تنتظر دورها للتخلص ممّا حمّلته إيّاها الرياح ولكني اعتذرت وانصرفت لان هموم المجتمع ومصائبه وتناقضاته لا تنتهي ، وهي تتنوع بتنوع طبائع الناس وتقلـُّب اوضاعهم وتطور طموحاتهم أواطماعهم .
وختاما ، أرجو ألاّ أكونَ قد تسبّبتُ في انزعاح بعض اخوتي من رجال الدين  كوني حلـّقت في مجالهم الجوي وفي زوايا لا يجب الدنوّ منها كثيرا ، غير أن جوابي هو إني في دخولي عمق ممراتهم هذه لم اصادف مطبّات جوية خطيرة، ومن جهة اخرى لم أكن مزوّدا ، في ملاحتي ، بخريطة اخرى غير كلام المسيح .


Kossa_simon@hotmail.com

ماهر سعيد متي

                          الأستاذ شمعون كوسا المحترم ... لقد ابدعت بوصف سنابلك المحملة المتواضعة من كثرة الحبوب المحملة .. شكرا لك على الموضوع الرائع .. تحياتي
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة