تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

سفر الهجرة

بدء بواسطة متي اسو, أغسطس 10, 2015, 05:40:32 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

متي اسو

سفر الهجرة
لو سألني احد في الثمانينات إن كان في نيتي الهجرة ، لجاء الجواب قاطعا : كلا
في الثمانينات ، والحرب العراقية الايرانية طاحنة ، وقوافل الشهداء لا تهدأ لحظة واحدة ، والقلق الدائم على مصير الاخوة والأصدقاء والأقارب ، وأخبار مفجعة
بين حين وأخر ، مطاردات من الجيش الشعبي كلما حان موعد قاطع جديد . شحة في المواد الاستهلاكية .. والقوة الشرائية تضمر يوما بعد يوم .
كل هذا يحاصرك من جهة ، وإشعارك بأنك " غريب في بلدك " يضغط عليك من  جهة اخرى ... هذا البلد ليس للمستقلّين  ولغير المنتمين ....أشكر الله لأني كنتُ
اعيش في بغداد وليس في المحافظات .
رغم كل هذا والجواب يأتي قاطعا : " لا للهجرة " .
هذا بلدك الذي عشت وترعرعت وتعلمت فيه ، تلك الأماكن الحافلة بالذكريات التي لا يمكن محوها ، اولئك الاصدقاء الذين لا يمكن مقايضتهم بآخرين...
الحرية ؟ ..تعودنا على التنازل عنها وايجاد البديل بين الكتب وبين الاصدقاء دائما وبين الرياضة احيانا ، ثم انها ( الحرية ) ترف لم نمارسه قبلا ، فما المشكلة ؟
، كما ان المثل العراقي يقول " الشين الذي تعرفه خير من الزين الذي لا تعرفه " ... وهكذا كان  الجواب لا يزال يأتي قاطعا : " لا للهجرة " .
تسارعت الاحداث في التسعينات بعد غزو الكويت ، أصبح أمن الاولاد ومستقبلهم على كف عفريت ... انك الآن ملزم ان تفعل شيئا ما ، اصدقائي قلقون ويحاولون
اقناعي ببيع البيت والانتقال الى الكرخ لأكون قريبا منهم اولا وبعيد عن مناطق الصراع المحتملة ثانيا ... خسرتُ اصدقاء كانوا قمة في الانسانية وفي تحليل
مستقبل العراق ...
دون ان يسألني احد ، جاء الجواب هذه المرة  : " نعم للهجرة " ... بلد إختار التدحرج نحو الهاوية ، عليك ان تقذف بعائلتك خارجا قبل ان تغوص معه .
البيت في بغداد ذهب بسعر 25 مليون في سنة 1999 ، اي ما يعادل 15 ألف دولار !!! ضاع البيت كضياع قلم من الجيب  ، لكني كلما أتذكر ما حدث للمسيحيين
بعد ان كشّرت " الذئاب البشرية " عن انيابها بعد السقوط أقول:  " حسنا فعلتُ ، وليذهب البيت الى الجحيم " ....
صدمني  وضع المسيحيين المزري في الاردن ، اناس مكثوا سنوات يطرقون ابواب السفارات دون جدوى ... مكاتب الأمم المتحدة نادرا ما تعمل على قبول
هجرة عائلة مسيحية !! صديقي ابو أسيل ( من عنكاوا ) قابلني بغضب في اول لقاء لنا : " ما الذي اتى بك الى هنا ؟ ، ألم تسمع ما حدث لي وانا وعائلتي ؟
علقنا هنا لسنوات  ؟ " ... عائلة مثقفة وأولاد في غاية الادب يُرفضون رغم الكفالات السبع من اخته واخيه المهاجرين الى استراليا منذ السبعينات ومعهم اصدقائهم
الاستراليين ... لماذا ؟ لا احد يعلم . جلسنا نشرب قليلا  ، وأخذ يسرد المآسي التي يتعرض لها المسيحيون .
كان الاردن بمثابة سجن ، لا عمل ولا اصدقاء ، فكرة الجلوس في مقهى العراقيين الصاخبة غير واردة ...لا يسعك إلا ان تقتل الوقت  تهيم مشيا لساعات على غير
هدى ( أصبح المشي رياضتي المفضّلة ) ، أو أن تجلس في البيت  تنتظر وأنت غير واثق من مصيرك...أصبح " الانتضار"، الذي كنتُ امقته طوال حياتي  صديقي ،
يلازمني كظلّي رغما عني ....
التقيت بالأخ صدّيق جبوري ، وتوطدت الصداقة بيننا منذ اول لقائنا ، أصبحنا لا نفترق إلا قليلا . الرجل ، بابتسامته المعهودة ووجهه البشوش وثقافته العالية
وعقله المتفتح وأدبه الجم تجعل صحبته ممتعة جدا . لقد عوّضني عن الصداقات المفقودة في بغداد .. كنا نذهب يوميا الى مكتبة في وسط البلد نقرأ  فيها
الصحف التي تتكلم وتنتقد كل شيء ... نجلس مرغمين قبالة وجوه كالحة  بلحي كثة وعيون متوترة متسائلة : من نكون !... كنا نتحاشى نظراتهم ونحن نعلم ان اية
مشكلة هناك تجعلهم يقذفون بك داخل الحدود العراقية مجددا . كان الاخ صدّيق قد جاء الى الأردن قبلي وحاول هو الآخر ايجاد طريقة للخروج ...
الكل اعتبرني محظوظا ... اشكر الله لأنه تم قبولنا بعد ثلاثة أشهر تقريبا من وصولنا ..أجرينا الفحوصات الطبية وجلسنا سنة كاملة ننتظر الفيزا !!!
رفضوا عائلة مسيحية ( جيراننا في الاردن ) كانت كثيرة الشبه بعائلتنا ، اب موظف ، زوجته معلمة كذلك ، لهم ولد بعمر ابني ، كلانا متجهان الى كندا ... لماذا ؟
لا احد يعلم ...
كانت هناك فتاتان عانستان ليس لهما احد وهنّ لسنوات في الاردن ، كانت معاملاتهن مع الأمم المتحدة  لأن أخيهما كان الشاعر جان دمو المطارد من السلطات
العراقية والذي كان قد وصل الى استراليا ( تذكرت كيف ان نادي اتحاد الادباء في ساحة الأندلس كان قد وضع إعلانا سخيفا بمنع جان دمو من دخول النادي ) ، كنّ
يحتفظن بقصاصات من أخبار الصحف بحقه ، اعطيت نسخة منها الى الأمم المتحدة لتسهيل قبولهن ...لكن دون جدوى .. سافرتُ انا وبقيت المسكينتان ينتظرن الفرج
الذي لا يريد الوصول ... أي قلب للأمم المتحدة هذه التي تتغنى بالأنسانية كذبا .
ذهبتُ مع ابني الى القنصلية الكندية قبل ان ينتهي الدوام الرسمي حيث تكون القنصلية شبه خالية لأسأل عن الفيزا .. لم أجد في صالة الأنتضار غير شابة واحدة
عليها ملامح كندية .. يبدو انها سمعتنا نتكلّم انا وابني ، قامت من مكانها وجاءت  وجلست بجانبي تسألني إن كنا عراقيين ، كانت المفاجأة انها عراقية ومن كرمليس ..
سألتني عن المعاملة فأخبرتها .. كانت قلقلة لأنها  اجريت المقابلة هي وزوجها ( يحملان شهادة ماجستير في الهندسة وليس لهما اطفال ) منذ شهرين ولا نتيجة لحد
الآن .. قلتُ اطمأنها بأن رجلا في الخمسينات بدرجة ماجستير ، ومعه زوجته وامه (محجبتان ) ، مع خمسة اولاد تم قبولهما البارحة في اول لقاء ... بعد مدة قصيرة
رأيتها في وسط البلد ، سألتها ، أجابت بحزن بانه  تم  رفضهما !!! ... يا للعدالة !.
عندما نزلنا من السفارة رأينا إحدى " الماجدات " العراقيات ، كانت محجبة بصحبة زوجها التي تشير كل ملامحه الى كونه يمني ، كان قصير القامة ضعيف البنية
يلبس دشداشة قصيرة ولحية كثّة دون شنب ، كان في يده القرآن يقرأه ثم يرفع عيناه بين لحظة واخرى ليرمقنا ... سألتني عن معاملة الهجرة ... ولكي أوفر لنفسي
ولها طول الحديث ،  قلتُ لها بأن معاملتي " كنسية "... صعقني جوابها وهي تضحك : " مثلنا تماما ، معاملتنا كنسية أيضا " !! وأخرجت نسخ المعاملة كي انظرها .
علمت بعدها بوجود قس " انساني جدا " يبيع شهادات العماد لغير المسيحيين بمائة دولار . يبدو ان الثلاثين من الفضة تحولت الى مائة دولار .
المصيبة هي ان بعض الاخوة المسلمين يحسدونك ضاحكين : " شكو عليكم انتم المسيحيين ، ايدكم بالدهن " ...
هناك قصص من الاردن تحتاج كتبا لسردها ... لم اجد في حياتي شعبا يعاني من التشتت والضياع كالشعب المسيحي في الشرق العربي والاسلامي .
بعض " الزعران " من الاخوة الفلسطينيين يحاولون الاعتداء على شبابنا او التحرّش بالذاهبات الى الكنيسة مستغلّين وضعهم الحرج في الاردن . شباب عراقيون
يشتغلون لشهر أو أشهر ثم يُطردون دون اعطاء اجورهم ، رغم ان صاحب العمل يصلّي ويخاف الله ! ... تذكرت كيف كنا نعامل العرب في العراق بكل محبة ،
وللحقيقة اقول ان رجلا مصريا وقفنا لنشرب الشاي عنده ، عندما عرف اننا عراقيون صاح بأعلى صوته : " والله انتم أفضل العرب جميعا ، اشتغلت في معظم الدول
العربية فلم اجد اناسا بطيبتكم وكرمكم " ... رفض بشدة ثمن الشاي . ( سمعنا بعدها ما حدث للعوائل الفلسطينية  في العراق على ايادي " الذئاب البشرية " )
بعض العوائل العراقية الفقيرة خذلها ابناؤها في الخارج الذين شجعوهم على الهجرة بعد ان وعدوا بمساعدتهم ماديا ، ثم تنصّلوا عن وعدهم بعد ان وصل اهلهم  الى
الاردن . إضطّر قسم منهم للعودة الى العراق بعد ان ضاقت بهم السبل   وفقدوا كل شيء .
الكنائس وحدها كانت الملجأ الحنون ، تقدم المساعدات الى الجميع ، اسلام ومسيحيين وقوميات مختلفة .
ويبقى السؤال الأزلي بدون إجابة ... لماذا يحصل كل هذا ؟ ... ما الذي إقترفه هؤلاء ليكون هذا حالهم ؟
من المســـــــــؤول ؟ ... لا تنتظر الجواب الصحيح من سياسي.....