صائب نايف: هجرة الأقليات الدينية وأزمة انعدام الثقة عراقياً

بدء بواسطة برطلي دوت نت, سبتمبر 06, 2015, 08:00:12 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

صائب نايف: هجرة الأقليات الدينية وأزمة انعدام الثقة عراقياً

مصدر: هافينغتون بوست | مدونات

لم تكن الآنسة كوثر ذات (الأربعين) عامًا تتوقع بأن لحظاتها الأخيرة ستكون في غابة مظلمة من غابات بلغاريا بعدما تُركت لوحدها تصارع غربتها مع مرضها وحيرتها في الغابة الموحشة في طريق هجرتها من العراق إلى ألمانيا ضمن قافلة بشرية من المهاجرين، وحالة كوثر ليست الأولى إنما هي واحدة من حالات كثيرة مؤلمة ومخيفة ومحزنة يتداولها ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي بشأن الصعوبات والمعوقات التي تصاحب المهاجرين في طريقهم إلى أوربا.

تمثل هجرة الأقليات الدينية إلى خارج العراق العنوان الرئيس بعد عام 2003 وزادت حدتها بعد 2006 لترتفع إلى أعلى مستوياتها مابين 2014 - 2015 وأهم هذه الأقليات (المسيحيون، الإيزيديون، المندائيون، البهائيون) وبحسب إحصائيات يهاجر ما يقارب أكثر من (100) شخص يوميًّا من الأقلية الإيزيدية وأعداد أخرى من باقي الأقليات وأهم أسباب هذه الهجرة هي اجتياح عصابات داعش لمناطق تواجد الاقليات الدينية في سنجار وسهل نينوى وتأخر تحرير المناطق التي ما زالت تحت سيطرته، فضلاً عن صعود التيار الطائفي ونمو التطرف الديني والمذهبي والمحاصصة السياسية والاستقتطاب الحزبي والفساد الإداري والبطالة وانعدام سلطة القانون واختزال هوية الأقليات الدينية من خلال هيمنة المكونات الكبيرة (الشيعة والسنة والأكراد) وعدم منحها حقوقًا ملموسة لأفرادها، كلها عوامل ساعدت على إفراغ العراق من شماله إلى جنوبه من أقلياته الدينية، وبدأت ظاهرة الهجرة تنتقل من أبناء الأقليات الدينية في العراق إلى عموم العراقيين نتيجة للأسباب نفسها التي أفقدت العراقي الأمل في إصلاح أوضاع بلاده، وسأكتفي بالتطرق لحالتين تعدان من الأسباب الرئيسة في هجرة الأقليات إلى جانب جملة من عوامل عديده ذكرناها آنفًا.


اختزال هوية الأقليات

يمثل اختزال هوية الاقليات الدينية والإثنية في العراق سببًا من أسباب إبعاد الأقليات الدينية عن ممارسة حقوقها الطبيعية في المشاركة بالسلطة أو المؤسسات الحكومية؛ ومن ثم شعورهم بالتهميش في بلدها فالعراق عمليًّا وعلى المستوى السياسي تحكمه وتدير دفته منذ 2003 ولغاية الآن مكونات ثلاثة (الشيعة والسنة والأكراد) وتعمل هذه المكونات الكبيرة على تقاسم السلطة على وفق نظام محاصصة أو ما يسمى بالتوازن الذي يعادل بين نسبة تمثيل هذه المكونات في مرافق الدولة العليا بعيدًا عن تمثيل الأقليات الدينية في هذه المعادلة أو ذوي الخبرة والاختصاص (التكنوقراط المستقلين)، فقد عملت هذه المكونات كلٌّ حسب جغرافيته وبيئته الاجتماعية على ابتلاع الأقليات الصغيرة التي تنتمي إليها إما مذهبيًّا مثل الشبك من قبل الشيعة أو السنة (بوصف الشبك ينقسمون إلى شيعة وسنة) أو قوميًّا مثل الإيزيدية بوصفهم أكرادًا وبعض المسيحيين؛ فحصرت المكونات الكبيرة تمثيل هذه الأقليات في السلطة ومؤسسات الدولة وامتيازاتها من خلال بوابات حزبية تحكمها وتروج لها، والدليل على ذلك افتقار بغداد إلى تمثيل معتدل وواضح للأقليات الدينية في مؤسساتها بعيدًا عما ذكرناه وكذا الحال في كوردستان العراق حتى إن مشروع دستور كوردستان غيب في أهم مواده الإشارة إلى الديانة الإيزيدية بوصف أن لهم خصوصية دينية، فلم يشر إليهم في الديباجة وكذلك اختزلهم في المادة (5) منه عندما ذكر مكونات شعب كوردستان ولم تذكر الإيزيدية بحجة أنهم أكراد أصلاء! ولا أعتقد أنه من المنطق اختزال الهوية الدينية في الهوية القومية لأن لكل من المفهومين محددات وحقوق تاريخية وثقافية واجتماعية، كما انسحبت ممثلة الأطراف المسيحية (منى يوخنا ياقو) من لجنه إعداد دستور كوردستان احتجاجًا على ما قالت أن الدستور يتم صياغته بروح الأكثرية والأقلية.


التطرف الديني

يمثل التطرف الديني العامل الأهم في هجرة الاقليات بعد 2006 حيث زادت حدة الاقتتال الطائفي والمذهبي؛ مما أدخل الأقليات في هذه الدوامة مثل باقي مكونات العراق. وكان ظهور تنظيم داعش العامل الأكبر في زيادة التطرف الديني والتخندق الطائفي مما جعل أبناء الأقليات الدينية الفريسة الأسهل لهذه الأفكار، فالمندائيون اليوم في العراق أصبحوا على عدد أصابع اليد بعدما هجر أهلها العراق وتحديدًا مناطق الوسط والجنوب بعد تعرضهم إلى اعتداءات إرهابية طالت الأرواح ومصادر رزقهم كونهم يمارسون مهنة الصياغة، وكذا الحال للمسيحيين الذين أفرغت محافظات العراق منهم وآخرها كانت مدينة الموصل المدينة الأكثر انتشارًا لهم، فأفرغت منهم تمامًا واستباحت داعش بيوتهم وكنائسهم، وصادرها لصالح ذلك التنظيم (داعش) وكَتب عليها (ن) في إشارة إلى كلمة (نصارى). وفي بغداد أيضًا باتت الكنائس فارغة أيام القداس (الأحد) لا يوجد فيها سوى مجموعة من العجز وكبار السن وشباب معدودين على الأصابع، أما الإيزيدية فالحال لا يقل أيضًا لا بل هو الأخطر والأشد فالإيزيدي في نظر البعض ديانة لا تنتمي إلى الديانات الإبراهيمية الكتابية وهو ما سمح للمجاميع الإرهابية والمتطرفة بالاعتداء عليها كلما سنحت لهم الفرصة، فالمحيط الجغرافي والسكاني اشترك في قتل الإيزيدية وسبي نسائهم ونهب أملاكهم على الرغم من وجودهم وتعايشهم مع الآخرين على مدار قرن من الزمن تقريبًا، ولكن الخطاب الديني المتشدد والنزعة الداخلية المتطرفة وغياب الرادع القانوني جعلهم ينظرون للإيزيدية بنظرة دينية متشددة تنسجم مع أفكار هذا التنظيم أو تجامله خوفًا على أنفسهم من سلوكياته الإجرامية.
والحال لا يختلف في كوردستان العراق لأن التطرف الديني والمذهبي لا يعرف حدودًا جغرافية أو دولية أو دينية ففي كوردستان أيضًا بدأ ينمو ويظهر على السطح التطرف الديني وتعترف به حكومة الأقليم في بيانات رسمية عدة؛ فما وجود بعض من الشباب من محافظات إقليم كوردستان المغرر بهم في تنظيمات داعش إلا دليل على ذلك، ناهيك بحوادث اجتماعية أو جنائية تحدث بين فترة وأخرى لا يخفى فيها التوجه الديني المتطرف مثل حرق محلات بيع المشروبات الروحية في زاخو ودهوك العائدة إلى مسيحيين وإيزيدية تجاوزًا لسلطة القانون وأحكامه، وإلقاء القبض بين فترة وأخرى على عدد من المحسوبين على رجال الدين المحرضين على الإرهاب.

على الرغم من كل ذلك لا يمكن أيضًا إنكار دور حكومة إقليم كوردستان في ردع هذه الممارسات، ولكن دور الإقليم لا يرقى إلى مستوى طموح الأقليات وشعورهم بالثقة في مناطق تواجدهم بالإضافة إلى عدم وجود خطوات عملية واستراتيجة واضحه للقضاء على جذور هذا الوباء والحد من انتشاره.

هذه الممارسات وغيرها هي التي أفقدت الأقليات الدينية ثقتهم في بلدهم والأفكار التي تنتشر فيه فمن يضمن مثلاً للمندائي أو المسيحي أو الإيزيدي أن حادثة كنيسة سيدة النجاة (إحدى أكبر العمليات الإرهابية بحق المسيحيين في بغداد) لن تتكرر وأحداث سنجار لن تعود مرة أخرى، فالتطرف بذرة تغذيها أفكار تحتاج لمعالجات جذرية تسهدف ثوابت معينة ومكاشفات صريحة وخطوات جريئة حكومية واجتماعية وعلمية لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة التي تنذر بتقسيم العراق وسوريا والشرق الأوسط؛ فداعش ليس تنظيمًا مسلحًا فقط، وإنما هو فكر متجذر لدى الكثيرين تجاه المختلف عنهم دينيًّا.

إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه دون حلول جذرية فإن الخمس سنوات القادمة ستكون كفيلة بإعلان أن العراق دولة بدون أقليات دينية، وعليه نرى أن على حكومة بغداد وأربيل السعي إلى دمج أبناء الأقليات الدينية في الدولة ومؤسساتها وتغيير المناهج التعليمية ومراقبة الخطاب الديني وتشجيع المعتدل منه ومحاسبة المتطرف ومنح الحرية والديمقراطية للناس داخل المجتمع وفي الممارسات السياسية وسن القوانين التي تعاقب على الخطاب الطائفي وتوفير فرص عمل للشباب واستعادة الامن في مناطق الأقليات وتحريرها وإعمارها وتشجيع مشروع المصالحة الوطنية الصادقة والقضاء على المحاصصة الطائفية والحزبية وتشجيع الدولة المدنية، والأهم من كل ذلك توفير إدارة ذاتية للأقليات الدينية في سنجار وسهل نينوى لتعمل على إدارة نفسها إداريًّا وأمنيًّا تحت الدولة الوطنية .