عالَم بلا ألم ولا عنف؟ في المشمش!/لويس إقليمس

بدء بواسطة برطلي دوت نت, نوفمبر 26, 2017, 10:14:00 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

عالَم بلا ألم ولا عنف؟ في المشمش!     
   


برطلي . نت / بريد الموقع

لويس إقليمس
بغداد، في 25 آب 2017


"كلّ ما خلقه الله حسن وجميل"! هذا ما يراه أتباع الديانات التوحيدية عمومًا. فيما تعتقد الفلسفة البوذية بأّن الحياة مبنية على الألم، ولا شيء سواها. فإذا كان كلّ ما خلقه الله الجبّار الخالق حسنًا، فمِن أين أتى الشرّ؟ ولماذا انتشارُه الواسع الذي طغى على الحياة الآدمية، وينوي دومًا حرق الأخضر واليابس سعيًا وراء القتل والتدمير؟ وهل إنّ العنف المستشري بين البشر من دون مسوّغ في الكثير من الأحيان، ناجمٌ عن خطأ لاهوتيّ في الفكر البشريّ أو سقطةّ في غفلة من الزمن؟ ولو كان كذلك، فهل تستحق الإنسانية أن تظلَّ أسيرة العذاب والألم والعنف المتصاعد كالأتون المتأجّج؟ وهل يمكن القبول بفكرة ساديّة الخالق إزاء خليقته؟ أسئلة كثيرة كلّما سعى العقلُ البشري الضعيف، بالرغم من تطوّره وتقدّمه،للتخلّصمنهاوإيجادأجوبةمقنعة قبالتَها، فإنه يبقى عاجزًا عن الردّ على مثل هذه التساؤلات الإنسانية الطبيعية. فهل هناك فرصة لقيام عالمٍ من غير عنف ولا ألم؟
بدءًا، أتساءلمع الشاعر الإنكليزي اللورد "تينيسين"، الذي يغرّد في إحدى قصائده الرائعة بعنوان(في الذكرى):"هل الله والطبيعة في صراع؟وهل الطبيعة تضفي على الحياة شيئًا من أحلامٍ شريرة؟وهل مَن وضع ثقته بالله هو الحبُّ بذاته ولا شيءَ غيرُه؟ وهل كان الحب قانونًا أخيرًا للخليقة؟ وهل أضحت الطبيعة حمراء بأسنانها ومخالبها؟وهلْ مَن أحبَّ كثيرًا عانى من عللٍ عديدات، ومَن ناضلَ من أجل الحق والعدل كان نصيبَه غبارُ البراري وبين تلالٍ من حديد".(نقلتُ هذه الأفكار عن الشاعر المذكور بتصرّف.)
   هذه الروعة في وصف معاناة الإنسان في طبيعته، التي إنْ هي إلاّ صورة ناطقة لواقع البشرية المتألّمة، هي في واقع الحال ما ينطبق ويشعر به كلّ ذوي الإرادة الطيبة. إزاء تفاقم مشاكل العالم من شرور معنوية وأخرى طبيعية، أخذت مسيرةُ الحياة نصيبَها من الألم والمعاناة والعوز والفاقة والعنف. فيما العالم لم يعدْ سوى عبارة عن ركامٍ ناجمٍ عن نواتج أعمالالعنف المتزايدة في القتل والبطش والتنكيل والاستغلال متعدّد الأغراض والوسائل، وكأنَّ البشرية تعيش وسط غابة، أسيادُها وحوش كاسرة بأجسام بشرٍ تصطاد طرائدَها في كلّ الاتجاهات ولأية أسبابٍ. وهنا، حاشا لله أن تُلصقَ به صفة السادية، لأنّ مجرّد إقدامِه على تكوين خليقته الجميلة على صورته وشكله، يُعدّ عملاً من أعمال الحب الأبوي الإلهيّ الذي ينبغي تمجيده به. فما "خلقه الله رآهُ حسنًا"، وأعان الإنسان الضعيف على أعمال المحبة والرحمة فيما أكرمَه بعقلٍ وجسد وحواس من أجل فائدته ومن أجل منفعة جميع البشر في محيطه، وليس لاستخدام هذه الخليقة في أعمال القتل والتدمير والاغتصاب وفعل الشرور على أنواعها. فالله حين منح الحرية لخليقته، أعطاها أيضًا إرادةً وعقلاً وبصرًا وبصيرةً لفعل الخير ولتمييز الأخير عن الشرّ. وحين يزيغ البشر عن طاعة الله ويبتعدون عن مشروعه الإنساني، فتلك حالة شاذة في اقتراف الخطأ والإثم، وليست من ثمة قاعدة. والبشر يعتمدون ويستندون إلى القاعدة وليس إلى الشذوذ في كلّ شيء. هذا هو النظام الإلهي في تسيير الكون وما عليه.
ليس من المنطق أن تذعن البشرية لهذا النوع من الطبيعة الظالمة وغير المتكافئة أو غير العادلة من منظارٍ إنسانيّ بحت. كما ليس من المعقول قبول هذا الوضع باعتباره واقعًا أو حقيقة مطلقة، بالرغم من كلّ هذه القساوة والظلم ووسائل العنف التي تحتويها مثل هذه الحقيقة ومثل هذا الواقع. وهل هناك مَن يعقلُ قبول هذا الوضع المأساوي الذي يرصّن ويثبّت مفاهيم همجيةوعنفية وسط البشر الذين حاصرهم غول العصر وأشرارُهم بكافة أصنافهم. إنْ هذا إلاّأشبه بقانون الغابة؟
مع إدراكنا الواقعيّ بقيام حالة العنف والألم شاهدة وماثلة في حياة البشرية، تبقى مثل هذه المشكلة، على رأس أولويات أصحاب النظريات الإصلاحية في المجتمع، والمستندة منها بصورة خاصة على أبجديات الأديان السمحة والحضارات الرصينة التي عرفتها البشرية منذ نشأة الخليقة. ألمْ يسنّ حمورابي أول القوانين الوضعية قبل آلاف السنين التي سبقت وضع دساتير البلدان الحديثة؟ لكنّ الفرق بين هذه القائمة حاليًا وبين تلك السابقة التي مضى عليها أزمان ودهور، أنّ تلك القديمة كانت أشدّ فاعليّةً وأكثر لصقًا بحياة الناس وإدارة شؤونهم، في التنفيذ والتطبيق من دون محاباة ولا مجاملة ولا قفزٍ على أدوات العدل والمساواة.

صورة الألم وفلسفتُه
حسنًا، إذا كان العنف والألم من القضايا الشائكة التي لم يستطع الفكر الفلسفيّ أو الميتافيزيقي معالجتها، بسبب الفوضى القائمة في النظام العالمي في حياة البشر، فهلْ من العدل أن يخلق الله أمثلةً مشابهة لصورته في البشر كي تعاني وتظلّ في دائرة الألم والعنف طالما فيها نفحة من الحياة ومن صورته؟ سؤالٌ قد أجابت عنه جزئيًا، بعضُ الأديان المنتشرة على نطاق واسع. بحسب إحدى الحقائق النبيلةالمسماة "دوكها"، لدى بوذا، يسعى الأخير مثلاً، في فلسفته لتكريس واقع الألم والمعاناة في حياة الإنسان، وكأنها لازمة لا بدّ منها في حياته. وهذه سوف ترافقه منذ خروجه من بطن أمّه عريانًا وتظلّ تصاحبُه مدى الحياة وحتى الممات، بغضّ النظر عن مسبباتها ونوعياتها وطبيعة تفاعلاتها، شخصيًا أو مع الغير. وبموجب هذه الفلسفة الإنسانية القاسية، تبقى هذه الحقيقة شوكةً في حياة الكائن البشري، غير قابلة الانفصال عن مسيرة حياته، مادامت أو طالت، طالما أنّ في فكره ومسيرته تتواجدُ رغبةٌ ما أو شهوةٌ، هي أصلُ كلّ هذه المعاناة.وإذا كانت مثل هذه الرؤية للحكيم بوذا، ترى في الألم والمعاناة فعلاً عفويًا أو طبيعيًا لا يحتاج إلى تفسير أو تأمّل أو تبرير في المسببات والحيثيات،فإنها ببساطةوبالتوازي مع هذا الفعل، تجعلمن أيّانعكاسوجوديّ "أنثولوجي"علىطبيعةالشر أمرًا فائضًا وغير ذي جدوى.
بالمقابل، قد تختلف مثل هذه الرؤية لدى الديانات التوحيدية من جهة قناعتها ويقينها بطبيعة الله الخالق، الذي يتصف بِسِمَة الرب الطيب، الجبّار، القادر على كلّ شيء، مع الإقرار بوجود الألم والمعاناة كجزءٍ من الاستحقاق البشري الذي رسمه له الخالق بسبب تجاوزه على الأمر الإلهي وخروجه عن طاعته في الفردوس الأول. أي أنّ الإشكالية تبقى قائمة حول السبيل للتوفيق الصعب بين فكرة هذا الربّ الطيّب مع الألم الذي فرضّه على خليقته من يوم حُبل به ومولده لغاية انتهاء حياته بالوسيلة المرسومة، إلهيًا أو قدَريًا. عندما تحمّلَ أيوبُ آلامه ومعانته التي ابتلاه بها خالقُه، زادَ صبرًا ويقينًا أنّ هذا الإله طيّب وقادر على التدخل في حياة خلائقه وتسييرها بالطريقة التي رسمته إياها القدرة الإلهية. وهذه قمّة القناعة والرضى والتعلّق بعظمة الخالق، مقارنة مع أصحابه وأهل بيته الذين نفروا منه وتركوه متعذّبًا لوحده يلعق جلدَه المتقرّح من دون مواساة أو تعزية بشرية. وعدّ تلك التجربة حكمةً وقوةً تستحق الصبر الكبير الذي تجمّل به لينالَ الأفضل من لدن إلهه. مثلُه، يوسف الصدّيق، خضع للمعاناة لحين صدور تدبير إلهيّ جميل استحقّه مقارنة مع ما قام به إخوتُه إزاءَه من عنف وإهمال خارجة عن أصول الأخوّة والإنسانية. وهذا أيضًا من حكم الله في خليقته، عندما يُكافأُ الشرّ بالخير.
آلام المسيح الكبيرة أيضًا، غير ممكنة الوصف، وهو ابن الله وحبيبُه في المعتقد المسيحي. وقد وظّف الخالق هذا الألم ليكشف للبشرية عمق محبته لخليقته بواسطة المسيح الذي كُتب له أن يتألم ويتعذّب ويُصلب من أجل إنقاذ الجنس البشري بموجب تعاليم المسيحية. كما وظّف الإسلام، صورة الألم وفلسفتَه في نقل صورة التضحية عند الإمام الحسين مثلاً، تمامًا كما نقلها في صورة مشابهة عند المتصوّفة من أمثال الحلاّج ورابعة العدوية وآخرين غيرهم،في صيغة تقرّبهم من ربّهم وعبادتهم إياه، كلّ بطريقته، والتي بسببها عانوا ما عانوا من اضطهادات وويلات وعذابات وشقاء الزمن وغدره. فهؤلاء وأمثالُهم، كانوا شهودًا وشهداء للعشق الإلهي ولخدر السماء.

عنف وصراع بين الأقوياء والضعفاء
في ضوء هذه الأمثلة والمعطيات المرصودة، ماذا يمكن ان نقول عن الألم الطبيعيّ أيضًا، أي المتسبّب حصرًا من جانب الطبيعة عبر ظواهرها الكاسحة مثل الطوفان والفيضانات الكبيرة والزلازل والهزّات الأرضية القاتلة والحرائق وما إلى ذلك من قوانين تفرضها الطبيعة بين القوي والضعيف، بين الفريسة والضواري، بين الظالم والمظلوم؟  فهذه بمجملها، أدواتٌ للقسوة والعنف والأذى والألم والوحشية في التعامل بين الخلائق، بشرية كانت او حيوانية. وهي خير شهادة على قتامة العلاقات بين الخلائق، وكأنّ الله خلقها لتكون في صراعٍ مع الحياة ومع الوجود الذي لا يمكن تثبيته إلاّ من خلال القوة واستخدام وسائل الدفاع المتاحة للحفاظ على الجنس البشري والحيواني والحياة بجميع صورها وأشكالها. في تصوّر العالم "دارون"، لم يخفي هذه الحقيقة بشأن تثبّت الألم والعنف في هذا العالم، عبر نظريةالانتقاءالطبيعي التي رأى فيها صراعًا من أجل الوجود، شبيهًا بما وصفه الشاعر الإنكليزي "تينيسون"، في عالمه المغلّف ب"الحمرة بالسنّ والمخلب" على السواء، أي بالدم.
إزاء هذا الواقع القائم بوجود العنف في الطبيعة، بكلّ أشكاله وألوانه وأسبابه، هناك مَن يعتقد بالتالي أنَّ مثل هذا التدخل في الطبيعة هو جزء من فرض قدرةٍ قادرةٍ على واقع هذه الطبيعة التي حصلت بفعل خالق أراد حصول مثل هذا التدخل بإرادته وتصوّره وتدبيره الربّانيّ.وبالتالي يكون من دواعي الشرّ الطبيعي، تشكيلُه مشكلة صريحة في مصداقية الخلق،إذا أخذنا بنظر الاعتباررؤيةَ البشر حول حقيقة الإيمان التوحيدي والرجاء القائم وسط البشر الطيبين برؤية "الحمل والذئب، يسرحان بأمان وسط المروج" التي أوجدها الخالق لجميع خلائقه، بالرغم من كون هذا الأمل أو الرجاء لا يخلو من شاعرية وعفوية ملفوفة بالتمنيات الطوباوية، صعبة التطبيق أو التحقيق.
في الأخير، ماذا يعني كل هذا الخلط والفوضى في الطبيعة الذي يتجاوز حاجزَ الفكر العلمي أحيانًا، وصولاً لبلوغه علامة اللغز في تفسير ما يجري من أعمال عنف وصراع مصالح بين الأقوياء والضعفاء من الدول والشعوب والأديان. واقعُ حال العالم يؤكد وجودَ صراع على المصالح، مرتبط بطريقة أو بأخرى بصراع خفيّ بين الحضارات والأديان والأعراق والألوان. كما أنَّ العالم المتقدّم يساهم هو الآخر، بطريقة أو بأخرى، بتدمير الطبيعة وما عليها من بشر وحيوان وحجر، بفضل تطوّر ماكنته التكنلوجية وتسييرها بوسائل غير نظيفة تُنهك البيئة وما عليها.

الخاتمة
هنا، لا تجد البشرية وأصحابُ الإرادة الطيبة ممّن ينبغي أن يكونوا إخوة في الإنسانية، مفرًّا من إدانة واستنكار ورفض ما يحصل من تزايدٍ في أعمال عنف لاصقة بسبب تصاعد التطرّف والتعصّب الدينيّ الأعمى في السنين المتأخرة، بسبب المدى البعيد الذي بلغته حدّة هذا العنف المستشري بعد تطوير أدواته في العالم بشكل مذهل وسريع بفضل تقدّم التكنلوجيا وما أتت به وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات من تسهيل لأدواته في التوسّع والانتشار السريع. فهو نتاج الانكفاء والانعزال والانغلاق للأفراد والشعوب والمجتمعات على نفسها، ورفض بعضها مسايرة التطوّر في مجالات الحياة ومنها الاعتراف بوجود الآخر المختلف، مهما كان مثل هذا الاختلاف. فعندما خلق الله الأرض والكون وزيّنها بالعناصر الجميلة والكواكب السيّارة، ثمّ أضاف إليها تحفتَه من الدبيب والبشر بمختلف الألوان والأعراق والخيرات، أرادَ لها الخير والسعادة لتنعم بخيرات الفردوس السرمدي. أمّا زوغانُ البشرية وخروجُها عن سواء السبيل بكسر الوصية والأمر الإلهي، فتلك كانت ضمن الحريّة التي حباها الله لبني الإنسان كي يعملواالعقل ويوجهوا الفكرويديروا الجهدَ نحو الخير وليس بعكسه. إنها إشكالية الحرية وعنوان الإرادة اللتين تشكلان نمطَ الحياة القائمة التي تحوّلت إلى ظاهرة، إنْ خيرًا أو شرًّا!