مصير "الأقليات" والحقيقة المرّة/لويس إقليمس

بدء بواسطة برطلي دوت نت, مايو 14, 2017, 09:38:48 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

  مصير "الأقليات" والحقيقة المرّة   
   

برطلي . نت / بريد الموقع

لويس إقليمس
بغداد، في 12 أيار 2017


مع تواصل عمليات تحرير مدينة الموصل القديمة (أو ما يُعرف بالجانب الأيمن منها) على قدمٍ وساق وبجدارة ملفتة للجيش ومَن تجحفلَ معه من نشامى الوطن ومحبيه، بعد الانتهاء المقتدر من تحرير بلدات سهل نينوى والجانب الأيسر من المدينة، يتكرّر السؤال اللغز عن مصير المكوّنات الوطنية الأصيلة التي أحالَها الزمنُ الغادر إلى أقليات عددية صغيرة، هزيلة القدرة، كثيرة الشجون وفقيرة الأمل الذي تتعلّق به كالنملة بالقشّة النحيفة. فهذه المكوّنات آيلة اليوم إلى الانقراض، بحسب ما تشيرُ إليه الأحداث والوقائع على الأرض، وكما تدور الأحاديث في دكاكين تجار السياسة والمتلاعبين بمصائر البشر والمستضعفين منهم بخاصّة،وهي التي قطنت أرض هذه الولاية التي تُعدّ مناطقها التقليدية منذ مئات بل منذ آلاف السنين. وعليها وانطلاقًا من أراضيها الخصبة بكلّ شيء، بنت هذه الشعوب المستضعفة جزءًا كبيرًا من حضارة العراق وطبعت فيه ثقافتَها وأثرتْ تاريخ البلاد بإرثها وجدارتها وانتمائها الوطني الحر الصادق من دون رتوش ولا تصنّع. وانقراضُها خسارة كبيرة، لن يعوّضها البتة تحوّل العراق إلى كيانٍ بلون شاحبٍ واحد،وبطعمٍ مرُّه كالعلقم، وبرائحة ستفوح جيفتُها وستزكم الأنوف مع توالي الزمن وتتالي الأيام.فالطامعون في هذ المكوّنات الصغيرة، كثروا اليوم، وتنوعوا وتوزعوا بين فاسد ومفسد في الأرض، وبين لصٍّ في الليل وناهب في النهار، وبين مروّج لأيديولوجية تتخذ من الشرع وتجلياته والجهاد وتجنيّاِه في المنطقة والعالم سبيلاً لإعلان قطع الأرحام وكسر الأشكال وتغييب النفوس والأجسام بطريقة فَضّة وهمجية تتناقض مع تطوّر الزمن وعصر الحداثة ورواج الفكر المنفتح الذي يشترط فيه قبول الآخر المختلف، مهما كان لونه وجنسُه ودينُه وملّتُه وعقيدتُه وفكرُه.
لقد واصل وجودُ هذه المكوّنات الأصيلة في النسيج العراقي والإقليمي،وكذا تواجدها في المنطقة ككلّ،واصلَ التدحرج والتراجع والتناقص على مرّ السنين الغوابر التي بقيت على مداها المتعاظم هدفًا سهلاً لتجار السياسة المتضلّعين منهم والهواة على السواء، إلى جانب المراهقين الطامعين الذين فرزتهم الأحزاب الدينية بصورة خاصة ما بعد الغزو الأمريكي في 2003، كي يوجّهوا اهتماماتهم العقارية الجشعة ومشاريعَهم التوسعية باتجاه الأرض الخصبة للآباء والأجداد الغيارى من قاطني هذه المناطق، مستخدمين شتى الوسائل لتحقيق هذا الهدف، ومنها استخامهم أدوات النفاق كسلوك للتخدير والتناسي والتغافل وإظهار أشكال التمييز والاستهانة بحق هوياتهم المختلفة عن دين الأغلبية عن طريق اٌيهام بتقدين مشاريع للتسوية والمصالحة المجتمعية التي إنْ هي إلاّ نتاج منهج سياسيّ معيّن يُراد الترويج له وتصديرُه بأي أدوات متاحة.
الهجمة الجديدة القديمة، تتخذ اليوم طابعًا ممنهجًا ومنظمًا أكثر من سابقاتها. وآخرها تجريحٌ رُوِّجَ له حديثًا في مواقع التواصل الاجتماعي، لأحد شيوخ الشيعة المتقدّمين والمحسوبين على القيادات الشيعية، في محاضرة أمام أتباعه تطرّق فيها إلى تأييد النصوص القرآنية "المدنية" للجهاد بحق النصارى واليهود، وما ينبغي على أهل الذمّة من الكفّار، بحسب الوصف، من واجب الوجوب تجاه المسلمين من أداء الجزية، أو الإسلام أو القتال، بالرغم من كوننا نعيش في القرن الواحد والعشرين، وندّعي الشراكة في الوطن وأنّ "إلهَنا وإلهُكم واحد". ومثل هذا المنهج غير السليم الذي يتقاطع مع دعوات وطنية للعيش المشترك وإصلاح اللحمة المجتمعية المنفرطة وتحقيق المصالحة، لا يختلف عمّا يفعله شيوخُ القتل والتحريض الوهابيون والإخوالنيّون وأمثالُهم من المتشدّدين المنغلقين من نماذج الدواعش ومَن على شاكلتهم، الذين يملأون مواقع التواصل الاجتماعي ويغسلون أدمغة العامّة في قاعات المحاضرات والمؤتمرات والمضافات الخاصة. وهذا مردُّه أن العقلية هي هي لا تتغيّر. فلا تغيير مرتقب، كما يبدو، في إصلاح الاجتهادات والتفسيرات المنغلقة التي صلحت أو كادت، في زمن الجاهلية وبداية الدعوة، ولم تعد صالحة في زمن العولمة والتكنلوجيا المتطورة والفضاء. وعند السؤال والاحتجاج على مثل هذه المواقف غير المتزنة والمنافقة، تأتي التبريرات والاستجابة للرفض والاحتجاج من الطرف الآخر، أكثر خجلاً بدلاً من اتخاذ قرارات شجاعة للحدّ من مثل هذه التجاوزات بحق المختلفين في الدّين ومن دون أية إدانة صريحة لأشكال هذا الخطاب التحريضيّ الذي يأخذ شكلاً متجدّدًا بين فترة وأخرى. بل إنَّ مثل هذا السلوك الاستفزازيّ الواضح، يعبّر عن رغبات مستورة ونوايا دفينة مخفية لحينٍ، لأسباب دعائية وانتفاعية مرحلية، كي يتغوّل المتسلّطون على ما تبقى من آثار وجود وبقايا تراث هذه الأقليات التي يزدادُ تكفيرُها ومضايقتُها كلّما تتطلّب أمرُ تناقصها بحسب إرادة الأسياد المتقاولين مع إرادات الشرّ حرصًا على مصالحهم الشخصية والقومية والمرحلية. فاللسان بنطق بما في القلب، "من فضلات القلب يتكلّمُ اللسان"!
وهكذا تبقى الأقليات ومصيرُها، رهن مثل هذه السلوكيات غير الحضارية التي ترنو إلى الماضي التعيس في كلّ شيء، وسط تعالي صيحات البشر من ذوي الإرادة الطيبة والنَّفَس الوطنيّ الصادق بقرع أجراس الإنذارالكثيرة، في كلّ يوم وكلّ ساعة، خوفًا من مستقبل غامض. وهذه من دواعيمخاطر الانقراض الممكن والتراجع في دورها الحضاري والوطني والاختفاء المتناميلهويتها الوطنية والدينية والقومية.
تشير السير التاريخية والوقائع، عن عناد ودفاع مستميتين للآباء والأجداد على مرّ عقود مضت وقرون ولّت، وهم صامدون ومصمّمون في الدفاع عن مناطقهم التاريخية وحمايتها من غول الأشرار والطماعين والسرّاق واللصوص وسائر المتربصين من كلّ فرصة سانحة على مدى التاريخ الطويل. وما أكثر ما يسردُه هذا الأخير عن أحوال أتباع هذه الشعوب المقهورة والمهمّشة والمضطهدة، ولاسيّما المختلفة في دينها ومعتقدها وأصولها عن دين الأغلبية في عموم البلاد والمنطقة، في سياق حملات تكالبت على البلاد في فترات سوداء من تاريخ الغزوات والغارات والمداهمات المحلية والغريبة على السواء.لقد ظلّت أمثال هذه المكوّنات التي لا تدين بدين الأغلبية، كالمسيحية والإيزيدية والصابئية والكاكائية والبهائية واليهودية، وتلك التي تختلف في العرق كالسريان (الآراميين) والشبك والتركمان والشركس أو في اللّون من ذوي البشرة السوداء الذين اعتاد أهل الجنوب إطلاق تسمية "العبيد" التمييزية عليهم من دون وجه حق ، وما سواها إنوُجدت، ظلّت دومًا هدفًا سهلاً للمتجاوزين على حق الشعوب في العيش الكريم، وصيدًا رخيصًا للأقوياء الذين نصبوا أنفسَهم أسياد الشعوب المغلوبة والمقهورة والضعيفة، على مدى التاريخ السحيق. وهذه كلّها وقائع مدعومة بحقائق على الأرض وبشهادات موثقة ومتناقلة، شفاهيةً وكتابةً.
إنها لمناسبة جديرة مع اقتراب النصر المبين على برابرة العصر الذين اتخذوا من جلباب الدين سبيلاً لكلّ أنواع الشرور التي تنأى عنها سائر الأديان وترفضهُا الإنسانية وأصحاب العقول المنفتحة المستنيرة، أن نشدّ الأكفّ ونتسامى في الرؤى والفكر ونتنادى لانتصار وطنيّ حقيقيّ موازٍ. ولكننا نريدُه انتصارًا من نوعٍ آخر، على كلّ التركة الكارثية التي خلّفها ويخلّفها الفكر الداعشيّ المتخلّف ومَن أيّد والتحق بأيديولوجيته المنحرفة فيالمنطقة والعالم، وفي العراق بالذات. وهذا الصنف الآخر من النصر المنتظَر، ينبغي أن يأخذ مديات عديدة وكثيرة ومتشعبة من مختلف الجهات، الحكومية منها والمجتمعية والدولية، عبر التكثيف في وسائل الإعلام المتنوعة، المرئية منها والمسموعة والمقروءة وكذا في وسائل التواصل الاجتماعي المتنامية، تمامًا كما في المناهج التعليمية التي تتبناها الدولة أو تشرفُ عليها مؤسسات دينية تتمتع بشيء من الحرية المطلقة في التعبير وإطلاق المناهج الخاصة بها. ولا يخفى على أحد، ما تشكله مجالات التثقيف والتربية العامة الأخرى، ولاسيّما إعادة النظر في وضع مجمل المناهج الدراسية السارية لكافة المراحل والتي يتطلب مراجعتها كي تنسجم مع الطموح الأسمى بالوصول لتحقيق دولة مدنية معاصرة تسير وفق الركب المتطوّر والمتمدّن للشعوب الديمقراطية الحرةّ. يُضاف إلى كلّ هذا، ما يمكن أن تحققه وسائل التواصل الاجتماعي المتيسرة حاليًا من تأثير في النفوس والعقول والقلوب، عبر الرسالة الإنسانية والإصلاحية التي يحملُها أصحاب النخب المنفتحة والباحثة عن مجتمعات نموذجية تحترم الإنسان وتقدّرُ خياراته، حتى في حالة الاختلاف.
وهذا أقلُّ ما يمكن أن يرضى به أتباع هذه الجماعات المسالمة وسط الفوضى التي تضربُ أطنابَها في الوسط السياسيّ المراهق المتعثّر من دون بروز ما يمكن أن يشير إلى صحوة حقيقية وسط الشعب الذي اعتاد السير كالخراف وراء مَن فرضَ نفسَه قائدًا، بما يُسمّى بصوت صناديق الاقتراع المسيّسة أو بغيابها. لقد كان على الشعب الذي لدغته لسعات الساسة المتاجرون منذ الغزو الأمريكي-الغربيّ للبلاد، أن يصحو من غفوته اللعينة، ويستفيد من تجربة السنين العجاف التي تراجعَت فيها أحوالُه ورفاهُه وصحتُه وخدماتُه وأمنُه وتعليمُه وشخصيتُه، من دون بيان بصيص أملٍ في النفق المظلم الذي صارَ إليه مذ ذاك.
   من هنا يأتي دور المستنيرين والمثقفين والعقلاء والحكماء في اتخاذ المبادرة، أو بالأحرى في استكمال ما بدأه الأحرار الوطنيون من النخب المدنية التي لم تتدنّس أو تتلطخ أياديهم بالفساد بكلّ أشكاله وألوانه، من سرقة المال العام، ونهب ثروات البلاد بحجة إحلال المحرَّم، وكذا من عمليات السطو والخطف والقتل والتسليب والتهديد التي أزكمت رائحتُها الأنوف. فهذه مجتمعة، كانت وما تزال من الأسباب الدافعة لاتخاذ الأبرياء ومَن لا نصيرَ لهم في الحكومات التنفيذية السلطوية والتشريعية الطائفية والقضائية المسيَّسة،القرار الصعب بمغادرة البلاد والبحث عن الأمن والسلام والاستقرار النفسي والجسماني،والنجاة بجلدهم بسبب ما يجريفي البلد منذ الغزو الأمريكي من فوضى في ظل غياب القانون والعدل والمساواة، وتعطيل عمل المؤسسات الرصينة التي كانت تضمن آنفًا، حرية المواطن وأمنَه وحركتَهوطموحاته بعد التغيير الدراماتيكي المشبوه.
إنَّ بازارَ الأحزاب وزعماء الكتل السياسية الطائفية والفئوية من دون تمييز، ما يزال ساخنًا، بل زاد تأجيجُه مع اقتراب القضاء على أدوات الإرهاب ودحره. بل إنّ جزءً من هذا التأجيج الإعلامي بين الكتل السياسية المتصارعة على السلطة والثروة والزعامة، له صلة ببشائر الانتصارات القادمة في لاحق الأيام.، لاسيّما مع اقتراب سوق الانتخابات الساخن. وجميعنُا مدركٌ للأسباب التي تقف وراء التصعيد بين الزعامات الفاشلة التي أوصلت البلاد إلى حالة من الفوضى في كلّ شيء، بل إلى شفير الإفلاس الاقتصادي والمجتمعي والعلمي والصحي والخدمي وفي قطاعات الحياة المتنوعة. كما تشير حالة تبادل الاتهامات بين الإخوة المتصارعين على الكعكة، شركاء الأمس وأعداء اليوم، إلى نتيجة مفادُها مشاركةُ الأحزاب التي تولت السلطة، في قدَر العراق وبلوغه هذه الدرجة من التعاسة والتخلّف عن ركب الدول المتحضّرة، بعد أن كانت بغداد عاصمة العرب وقبلة الزوّار وباحة المشتاقين وأرض الثقافة والعلم والتطوّر بلا منازع.
هناك حقيقة أثبتت واقعَها الذي لا مهرب منه. فمَن همْ قائمون على الحكم الطائفي بعد الغزو الأمريكي للبلاد، لا يريدون بقاء التنوّع الديني والعرقي والمذهبي في عراق عُرف بمثل هذا التنوع الثري منذ القدم. هؤلاء يريدونه أرضًا جدباء بلون الصحراء، لا تنمو فيه خضرةٌ ولا فاكهةٌ ولا شجرةٌ مثمرة. فما يبدر عنهم اليوم من قرارات ومن سنٍّ لقوانين مجحفة بحق مكوّنات قليلة العدد، أي الأقليات مصطلحًا، سواء في مؤسسات الدولة التشريعية أو التنفيذية أو القضائية، تتناقضُ تمامًا مع ما يُصرّحُ به عبر وسائل الإعلام الرائجة بكل أشكالها وفي أدوات التواصل الاجتماعي المختلفة. ولعلّ إحداها، تأجيل التصويت ثلاث مرّات، على مشروع تقدّم به ممثلو هذه المكوّنات في السلطة التشريعية حول اعتبار ما تعرّضت له مناطق هذه المكوّنات من تهجير وقتل وسبي واغتصاب وتدمير ونهب وحرق، جرائم ترقى إلى اكتسابها صفة الإبادة الجماعية. فهل أكثر ممّا حصل أن تُقلع مكوّنات من جذورها وتبقى بلا مأوى ولا مال ولا بشر، وتُشتّت عوائل وأُسر، أو أن ينتهي بها الأمر في متاهات بلدان الاغتراب تستجدي المساعدات والمنظمات، وبلدُهم قابعٌ على بحيرات من الثروة الوطنية التي تُنهب في وضح النهار، سواء من قبل الإرهاب أو أذناب الكتل السياسية المتنفذة؟ فلا فرق بين هذا وذاك. فالاثنان سيّان، يتشاركان في قتل الرفاهةالمجتمعية وفي وأد الروح الوطنية وفي سرقة المال العام وفي نهب الثروة الوطنية التي هي ملك الشعب الذي أُريد تهجيرُه واستغلالُه لمصالح فئوية ولحساب شرائح ضيقة أخذت تبني لها مستعمرات طائفية وحزبية وسط الأحياء التقليدية في بغداد وسائر المحافظات.
مَن يقرأ تاريخ هذه الجماعات التي تُسمّى ظلمًا وإجحافًا بالأقليات، يعي صدقًا حقيقةَ تهميش مصيرها ووجودها والاستخفاف بهوياتها وحقها في المواطنة المتساوية والعادلة، حالُها حال المستفيدين من القائمين على السلطة وأتباعهم المتزايدين على حساب شرائح هذه الجماعات الطيبة في المعشر، والمتميزة في السيرة والأخلاق والوطنية. فأتباع القائمين على السلطة، كلّ بسطوة أحزابه وقدرة ميليشياته وما يدرّ عليهم من ثروات ومداخل مالية، سواءً تمويلاً من جهات خارجية أو نهبًا لثروات وطنية من دون وجه حق،هؤلاء تتزايد أرصدتُهم جميعًا وتتنامى ثرواتُهم وعقاراتُهميومًا بعد يوم، في مصارف محلية وأخرى إقليمية وحتى دولية. بل إنّ المستحوذين على السلطة بدعم الراعي الأمريكي والغربي، بحجة الأكثرية العددية والمظلومية التاريخية، لم يتورعوا في مناسبة ومن غيرها، بتسخير جهد الدولة بكامله لصالح أتباعهم وصرفهم الأموال الطائلة لشعائر موسمية ومناسبات لا حصرَ لها، بالرغم من أنّ مثل هذه الوسائل والأدوات قد أخذت طابع الاستفزاز أحيانًا عندمايتوقف واجب المؤسسات بأداء أعمالها الخدمية اليومية للمواطن، على هزالتها وضعف أدائها. وهذا السلوك الذي يتجاوز في أحيانٍ كثيرة سقف المعقول، يثير السخط والريبةبل والخوف من خروج الأمور عن نصابها، ما يؤدي لانكفاء شرائح "الأقليات" في مواقعها والاكتفاء بحماية موقفها وحياتها بعدم الخروج من المنزل وإيقاف أعمالها التي قد تكون موضع باب رزقها لأيامٍ بل لأسابيع. أليسَ في هذا، شيءٌ من الاضطهاد الممنهج الذي تصرّ عليه جهات متنفذة ومتسلطة في السلطة والشارع؟
أسئلة كثيرة، لا بدّ من توجيهها لأصحاب الشأن وأرباب النخب وكلّ مَن يهمّه شأن العراق، وطنًا وشعبًا وحضارة.وهذه تحتاج إلى معالجات جادّة وعملية لإحقاق الحق ووضع الأمور الوطنية في نصابها،وليس إلى ردود دبلوماسية ومجاملية كما اعتدنا عليه من تلقي مجاملات وسماع تزويق كلاميّ معسول في المناسبات والزيارات واللقاءات والفبركات الإعلامية التي لا تنصف هذه الجماعات، بقدر ما تلصق بها الكثير من صفات الاستخفاف والإهانة والضحك على الذقون، بدل إيجاد حلول جذرية إزاء ما تعانيه من مصاعب وما تنشده من حق وعدل وإنصافٍ.ففي الوقت الذي نسمع فيه كلامًا معسولاً عن دور المسيحيين الحضاري، نرى في المقابل أصواتًا ناشزة وخطابات تحريضية تخرج بين الفينة والفينة من قبل بعض شيوخ التحريض والفتنة من المذهبين بتكفير المختلفين عن دين الأغلبية التي تدّعي عبادة إله الحق. ونحن نعلم أنَّ إله الحق هو صاحب المحبة والرحمة والعدل وليس إله القتل والغصب والسيف! وإن كان تصرّف أو رأي بعض هؤلاء شخصيًا، إلاّ أنّه ينمّ عمّا يضمرُه المقابل في القلب والروح والفكر والمنهج. مثل هذا الخطاب التحريضيّ الذي يثيرُه البعض  تذكيرًا باالأحكام الإسلامية بحق أهل الذمّة، يُعدّ توجهًا لمرحلة خطيرة قادمة، لأنه كلام لا يختلف عمّا يفعله "داعش" وأخواتُها من أمثال القاعدة وبوكو حراموشباب الصومال ومثيلاتُها، ومَن يدري ما بعدَها. مثل هذا المنهج الجديد، يحتاج إلى وقفة شجاعة وصارمةواعتراض رسميّ، تمامًا كالذي صدر عن الصرح البطريركيّ الكلداني، على أن يلحقه بيان واضح من جميع أركان وزعامات الأديان المختلفة، إلى جانب إدانات واضحة تصدر عن زعامات ورئاسات وقيادات المذهبين الشيعيّ والسنّي ضدّ كلّ مَن يثير مثل هذه الخطابات التي باعتراف المستنيرين من أتباع هذه المذهبين، قد أصبحت هذه من "تراث الماضي"، ولم تعد تصلح لزماننا ولا لبشرنا ولا لشجرنا ولا لحجرنا.
ونحن نتساءل مع غيرنا: كيف يمكن تصوّر بقاء جماعات وطنية أصيلة ومتسمة بكلّ السمات الوطنية والإنسانية، أسيرةَ الاضطهاد في وطنها ووسطَ أبناء جلدتها وفي موطن آبائها وأجدادها، أصحابِ الحضارات التي سادت العالم ورسمت تاريخ البلاد والمنطقة والعالم بأدقّ تفاصيل الصورة الحسنة التي ماتزال تتزينُ بها متاحف البلاد والعالم وتذكّر بها الخلف عن السلَف؟ وهل يُعقل أن يبقى مصير أتباع هذه الجماعات رهن المخططات الأجنبية التي تعمل وفق أجنداتها المصلحية والقومية، ضاربةً عرض الحائط كلَّ الحقوق التاريخية والحضارية والإنسانية التي تتميز بها هذه الجماعات المسالمة والتي لها الحقّ بتفعيلها وترويجها واستغلالها لصدّ أطماع المغرضين وعملاء الأجنبي ومزدوجي الجنسية من الذين تربعوا وسكنوا القصور الرئاسية ونزلوا في الفلل الفخمة واستحوذوا على المنازل والدور الفارهة بالقوة ومن دون وجه حق؟وكيف لنا أن نتصوّر بروز صراعات واحتدام نزاعات مع اقتراب حسم النصر لصالح الوطن وأهله، بين الفرقاء السياسيين الذين تسببوا هُم، بمعاناة هذه الجماعات حين تعرّضِهم لصفحة الإرهاب المتوحش الذي نجح بقلع شرائح من أتباعهم من جذورهم وفي مواطن سكناهم الأصلية التي قطنوها منذ آلاف السنين؟ وهل يمكن الرضوخ للتجاذبات الجارية من خلف الكواليس وفي مطابخ الساسة العفنة وزعماء الكتل بشأن حق عودة النازحين والمهجَّرين إلى دورهم وبلداتهم وأملاكهم؟ أإلى هذه الدرجة بلغت صفاقة البعض من السياسيين في تقرير مصير العودة من عدمه كي يتسنى لهم إحداث ما ينوون القيام به من تغييرات ديمغرافية ظالمة ومجحفة؟ فالدلائل تشير إلى نوايا سيئة لبعض الساسة والزعماء بالتحكم الديموغرافي في مناطق النزوح وفي مصائر النازحين من أجل تحقيق مصالح قومية وعرقية وفئوية وطائفية ضيقة.
ولكن يبقى القرار الأهمّ في رأيي للشعب نفسه: كي يثور حين تُصدّ بوجهه كلّ الأبواب وتُغلق النوافذ، وكي يصول صولتَه حين يصرُّ البعض على الاستخفاف بحقوقه والاستهانة بوضعه واستدرار عواطفه بالزيف والكذب والنفاق، وليقول كلمتَه بوجه أدعياء"الخير والرحمة والمودّة" الكذابين والمنادين بالحرية غير القائمة وأدعياء الديمقراطية المزيّفة وحرامية الليل والنهار، وكلّ مَن يتشدّق بالدفاع عن المظلوم ضدّ الظالم ويدّعي محاربة الفساد وقلعَ الفاسد، وهو نفسُه غارقٌ في دياميس الفساد ودهاليز الظلام ودياجير الفسق والمجون.
وأخيرًا، لن يصحَّ إلاّ الصحيح. فالبسطاءُ من الشعب يسعون لحياة آدمية آمنة وإلى سلام وشراكة مع الجميع وللجميع. فيماالمتنوّرون والمثقفون يسعون إلى هذا وذاك، عبر تغيير في الخطاب السياسيّ والدينيّ والمجتمعيّ، والابتعاد عن الخطاب التحريضيّ وإدانة كل أشكال العنف والإرهاب والتهديد والتسلّط، وبما تتيحه وسائل التحضّر والتمدّن في إطار دولة مدنية لها دستور جامع شامل إنسانيّ بعيدٍ عن الشرع الظالم وغير المنصف. نريدُها دولة مدنية تطبّق القانون على الجميع ومن أجل مصلحة الجميع بالمساواة والعدالة والاستحقاق والجدارة، بدل فرض واقع المتسلطين عبر منهج المحاصصةالمدمّر للبشر والحجر والشجر. ومّن أعلنها"شلع قلع"، يعي حقًا ما يريد وما ينفع للبلاد الغارقة في شتى أنواع الفساد والظلم. وهذا دور النخب والمستنيرين ورواد التواصل الاجتماعي لتحذير الطبقات المستضعفة من مغبة إعادة توليف وإنتاج ذات الوجوه الفاسدة والفاشلة والفئوية والطائفية التي لا يهمّها مصلحة الوطن العليا ومصير أبنائه المتجه نحو التقهقر والتراجع والأفول يومًا بعد آخر.