حكاية مدينة اسمها "بغديدي"... كل فصولها ربيع

بدء بواسطة matoka, فبراير 22, 2017, 04:13:27 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

حكاية مدينة اسمها "بغديدي"... كل فصولها ربيع











برطلي . نت / متابعة
almadapaper.net
كتابة : نمرود قاشا

المدينة، هي الأرض والوطن والخيمة والدار، والإنسان- أَي إنسان- هناك شيء غريزي يدفعه، لا بل يُجبرُهُ لأن يدافع عن هذه المفردات. المدينة، قطعة من وطن كبير، فمنها ينمو الحُبْ ليشع بعده إلى الفضاء اللاّمتناهي، فالناس لا تُحب مدنها لأنها جميلة بموجب مقاييس الجمال المتعارف عليه فحسب، وإنّما يحبونها لأنهم يشعروا بضريبة الانتماء لها، تبدو جميلة بعيونهم ولا يهتموا بمقاييس جمالها بعيون الآخرين. بغديدي، وعلى مرّ العصور كانت قويّة وشامخة ومتجذّرة في الأرض عمقاً، تنهض كالعنقاء كلما أُحرقت لتنهض من جديد بشكل أقوى.

أصل التسمية وتعددها
بالرغم من التسميات التي أُطلقَتْ عليها فمن (بكديدو) الآشورية إلى (بيت خوديدا) الفارسية و(قره قوش) التركية، و(الحمدانية) العربية. إلاّ أنها بقيت (بغديدي) الآرامية لغةً وإنتماءً ولم تغير قاسيات الأيام من هذا الانتماء وبقي أهلها يوزّعون: "شلاما" السلام ، حُبّاً، " لكل الحلقات التي تحيط بهم. فكانت مركز إشعاعٍ دائماً وكانت على مَر العصور- أيضاً- حالة واحدة متماسكة. بغديدي، بخديدا، باخديدا، بكديدو، بيث خديدا، بيث كذاذي، تسميات عديدة، ولكن اصلها ومعناها واحد، فهي تسمية آرامية، الباء فيها (ب) تعني البيت (بيث) وما بعدها، فمرة باخديدا و تعني (بيت الحدأة) واصلها الآرامي (بيث ديدا) وهو طائر اسود اللون يقال إنه كان يكثر وجوده في المنطقة، وكذلك هو الحال مع (بكديديو) وتعني بيت الشباب، والتسمية وردت عن رواية منقولة (بأن المعركة الحاسمة التي دارت بين الفرس والآشوريين عام 610 ق. م حدثت قرب بكديدو)، أو (بيث خديدا) وهي لفظة آرامية استعملها الساسانيون وتعني (بيت الاله)، أو بيث كذاذي، وهي تسمية آرامية سريانية وتعني (بيت الخيوط) كذاذي.
اشتهرت في صناعة النسيج وخاصة في القرن الثامن عشر. لكن التسمية الأكثر استعمالاً هي (بغديدي) لسهولة لفظها بين سكان المدينة والقرى  المجاورة في سهل نينوى، ولكن الاسم الرسمي المعتمد في المخاطبات الرسمية (قره قوش) هذه التسمية أطلقت على المدينة إبان الاحتلال التركي للعراق، وتعني (الطير الأسود) ومن المحتمل أن الأتراك " العثمانيين" ترجموا كلمة (باخديدا – بيث ديدا) الى لغتهم فقالوا (قره قوش)، وتعني الطير الاسود، لأن الدولة العثمانية كانت تطلق تسميات خاصة بها ترجع إلى فرقها العسكرية أو إعلامها الحربي. وفي بداية القرن العشرين اطلق مركز القضاء ونواحيه "الحمدانية " (مركز قضاء الحمدانية) استناداً إلى حجج التعريب وتيمناً باسم قبيلة (بني حمدان، الحمدانيون) الذين حكموا الموصل ما بين  (890  - 1004م ) التي كثيراً ما نغصت عيش سكان هذه البلدة.

محاطة بالأنهار والجبال
بغديدي ... بلدة عراقية سريانية، مركز قضاء الحمدانية (قره قوش) التابع إلى محافظة نينوى، يقع جنوب شرقي الموصل، ويبتعد عنها 32 كم، في مركز مثلث مقلوب، قاعدته إلى الأعلى حيث جبل مقلوب (الفاف) وضلعاه نهري الخازر ويقع على شرقها (13 كم)  ونهر الزاب الكبير جنوبها (30 كم) ودجلة على غربها (25 كم) ورأس المثلث في جهة الجنوب عند نقطة التقاء الزاب بدجلة قرب قرية (المخلط). وقد اختير لموقعها  منطقة سهلية منخفضة، بعيدة عن طرق المواصلات الرئيسة، لكي تكون بعيدة عن مصادر المياه، وما هو متعارف علية بأن المدن والقرى تنشأ حيث تتوفر المياه الجارية والمراعي للحفاظ على حياة الحيوان والبشر، ولهذا اعتمدت على مياه الأمطار في زراعتها المتكونة من الحنطة والشعير والعدس، ولشربها كانت تعتمد على مياه الأمطار المتجمعة (بخبرتا، الخبرة، الخبرات) أي المستنقعات، ثم مياه الآبار حيث كانت لكل عشيرة بئر خاصة بها، وكانت في أديرة بغديدا صهاريج لخزن المياه.
أما حديث سكان البلدة لغة آرامية- سريانية (سورث) حديثة تعتبر من أقدم اللهجات الآرامية المعروفة، حيث تحتوي على العديد من الصيغ والتراكيب النحوية التي اختفت في اللغات واللهجات الآرامية الأخرى. كما تحتوي هذه اللهجة على العديد من المفردات التي تعود إلى اللغتين الأكدية والسومرية. وتستعمل السريانية كلغة أساس في التدريس ببعض المدارس وفي الكتابات الدينية والأدبية بالخط الغربي عادة. بالإضافة للسريانية تعتبر العربية لغة التدريس في معظم المدارس الحكومية وتأتي الإنكليزية كلغة اجنبية أكثر انتشاراً.

مدينة الإيمان والكنائس
من المتعارف عليه، بأن اغلب المدن قديماً تطوق بأسوار أو خنادق أو تبنى على مرتفع لغرض حمايتها من الأعداء، ولكن بغديدي اختلفت عن هذه الثوابت، فقد تم بناؤها على أرض منخفضة، وطوّقت بسبع كنائس وبقيت المدينة تحت هذا الطوق حتى بداية السبعينات من القرن الماضي، عندما باتت لا تستوعب ساكنيها فتجاوزت إلى خارج الطوق. والحكمة من هذا، قد يكون إحساساً بالأمان وهي تنام مظللة بحماية مواقع الإيمان، وكان هناك تقليد لا يزال سارياً على ساكنيها، بأن الشخص الذي يغادر المدينة من أي اتجاه ستكون الكنيسة آخر بناية يودعها من المدينة، لهذا يقبل جدارها ويتوكل على الله في وجهته، وهكذا أيضاً أثناء عودته ودخوله المدينة فتكون الكنيسة أول بناية تواجهه ويعود إلى تقبيل بوابتها شاكراً الله على عودته سالماً.
كنائسها موغلة في القدم وتعود قسم منها  إلى القرون الأولى من دخول المسيحية إلى المنطقة، والشي الآخر أن أبناء بغديدي سواء داخل المدينة أو خارجها، يبدأون نهارهم وينتهي على أصوات نواقيس كنائسها، ففي أول قرعة للناقوس تكون فجراً وقبل شروق الشمس بحدود الساعتين، وهو إيعاز للمؤمنين ممن يريد أن يحضر صلاة (الصبرا) قبل بدء القداس، أو الذي يعمل داخل البلدة عليه أن يقوم بمباشرة عمله في حلب وإطعام حيواناته والتهيئة، أما الذي يعمل في الزراعة خارج البلدة عليه المغادرة لمباشرة عمله، وفي بعض المناسبات والصوم تقرع النواقيس ظهراً بحدود الحادية عشرة صباحاً إيذاناً بانتهاء الصوم الذي بدأه المؤمن من المساء السابق، وعصراً بحدود الساعة الثالثة أو الرابعة تقرع مرة أخرى لصلاة الرمش.
وتبقى مسألة قرع النواقيس في مناسبات خاصة دينية أو مدنية أو في حالة وفاة شخص أو عند الخطر، ويبدأ القرع قبل نصف ساعة من وقت المناسبة الواجب حضورها.

كنيسة الطاهرة الكبرى ... تأريخ مدينة
سميّت بالكبرى لا فقط لضخامتها وسعتها بل نسبة إلى كنيسة الطاهرة القديمة المجاورة لها، وإحدى كبريات كنائس الشرق الأوسط سعة وهندسة وجمالاً. عمل الخديديون، صغيراً و كبيراً من دون جهد أو ملل وبدون أية تكنولوجيا حديثة ولمدة ستة عشر عاماً تم انجاز الكنيسة.. لم تكن عملية البناء سهلة في فترة من التاريخ حيث كانت المعيشة تعتمد على الموسم الزراعي وتربية الماشية فكانت العقبات كبيرة منها قيام الحرب العالمية الثانية رغم كل هذه العقبات تم انجاز البناء. تمت حفلة تكريسها في يوم 7 تشرين الأول من عام 1948 .
وضع حجرها الأساس بتاريخ 21 من آب 1932. واستمر البناء فيها حتى 1939، وتوقف وقتاً من الزمن بسبب الحرب ودعوى النزاع على الأراضي مع الجليليين والظروف الاقتصادية ورداءة المواسم الزراعية، ثم استؤنف بهمة أهل البلدة ذلك أن موارد البناء الرئيسة كانت من تبرعات الأهالي من المحاصيل الزراعية والمواشي عاماً بعد عام.
تتألف الكنيسة من ثلاثة فضاءات شاهقة أوسعها وأعلاها أوسطها، ويبلغ ارتفاعه (15) م. أما الجانبيان فيبلغ ارتفاع كل منهما (12) م. وتتصدر الكنيسة البالغة مساحتها الكلية (1296م2)، ثلاثة مذابح، تظلل الأوسط الرئيسي منها خيمة رخامية تسندها أربعة أعمدة شاهقة. و تضم الكل قبة شاهقة تخترقها اثنتا عشرة نافذة.أما الفضاءات الداخلية الكبرى الثلاثة، فترتكز على 18 عموداً رخامياً ضخماً تتلاقى في أقواس شاهقة رائعة.

أول مدرسة في بغديدي
في بغديدي (قره قوش) كانت الأديرة والكنائس هي محطات للثقافة والدراسة، أمّا معلموها فمن الكهنة والرهبان والشمامسة فهم الطبقة الوحيدة التي تتولّى عملية التعليم التي أتقنوها من مناطق أُخرى والمدن الكبيرة (الموصل). الطلبة المتخرجون من هذه (المدارس) حملوا شعلة التعليم في البلدة، في عام (1845) فتحت أول مدرسة عامة في قره قوش واستمر هذا الوضع حتى فترة الاحتلال البريطاني (1918) وتشكيل الحكومة العراقية. كثيرة هي الجهات التي خدمت عملية التربية والتعليم في البلدة قبل أن تتولى الدولة عملية التعليم، هذه الجهات أغلبها كنسية أو دينية وأُخرى مبادرات في نهاية عام 1918 استحصلت موافقة على افتتاح مدرستين ابتدائيتين للبنين، الطلبة الذين يتخرجون من الابتدائية، إما أن يتركوا الدراسة، لعدم تمكنهم من تحمُّل مصاريف إكمال الدراسة في الموصل، أما العوائل المتمكنة مادياً فترسل أبناءها إلى الموصل.
في 20/ تشرين الأول/ 1947 اتفق أبناء (قره قوش، برطلة، كرمليس، بعشيقة) على تقديم طلب مشترك إلى (مديرية المعارف) يسترحمون فيه فتح مدرسة متوسطة في إحدى القرى المذكورة يجتمع فيها شمل أبنائهم. وهذا الطلب لم يجد له آذاناً صاغية في (معارف الموصل).
بعد ثورة  تموز 1958 وبتاريخ 6/ آب/ 1958 سافر وفد إلى بغداد لتهنئة وتأييد الثورة وقد يكون مطلبهم بفتح المتوسطة إحدى أولويات ما طرحوه أمام ممثلي الحكومة. كل هذه المطالب والوسائل والمبعوثين لم تَلْقَ أية استجابة من الجهات ذات العلاقة لهذا قرّروا الاعتماد على أنفسهم في بناء المدرسة. بتاريخ 18/ آب/ 1959 تم وضع حجر الأساس لبناء مدرسة متوسطة على أرض تبرع بها احد الكهنة. وقد تم في وقت قياسي إكمال بناء المدرسة المتكون من ثماني غرف إضافة إلى مرفق خدمي، ساهم الخديديون بشكل كبير في بنائها عن طريق العمل الشعبي وبدون مقابل باستثناء الأعمال التي تحتاج إلى خبرة، بعد إكمال البناية توجه وفد إلى (مديرية معارف الموصل) لتقديم هذه البناية هبة إلى (وزارة المعارف).

يوم التهجير الأسود
لم يكن يوم 16 من آب 1743 عندما وصلت عساكر طهماسب ودخلت المدينة حيث قتلوا ونهبوا واحرقوا كل شيء، رغم أن اغلب الأهالي قد غادرها إلى الموصل للدفاع عنها بناءً على طلب حاكمها (حسين باشا الجليلي)، آخر النكبات التي حلت بالبلدة بل سبقتها وتلتها نكبات أخرى، وفي 6 من آب 2014 اجتاحت قطعان داعش المدينة، وقبلها سقطت عدة قذائف أدت إلى استشهاد عدد من أبنائها، مما أُجبر الباقون على النزوح قسراً إلى محافظات كردستان المتاخمة لها، وقسم آخر إلى مدن أخرى في الوسط والجنوب، وما زالوا رغم تحرير المدينة في كانون الأول الماضي فقد أحرقت وهدمت وسرقت كل كنائسها ومؤسساتها ودورها، لهذا تبقى مسألة عودة ساكنيها منوطة بمن يمدُّ يده لغرض مساعدتهم في إعمارها وإعادة البنية التحتية لها.

مدينة كل فصولها ربيع
بغديدي، مدينة لا تشبه إلا نفسها، فرغم كل ما أصابها وما أصاب الوطن من ويلات إلا أنها " تدوس " على جراحاتها وتفتح أبوابها للفرح دائماً، فكانت محطة جمال في كل أيامها، وكل بيوتها أبواب مفتوحة للجميع، لهذا لم يفتتح فيها مطعم أو فندق رغم أن نفوسها تجاوزت الستين ألفاً، فكل باب تطرق يُلبى طلب الطارق من الأكل والشرب أو المبيت أحياناً.
عندما بدأت قوات التحالف بعد حرب الخليج الثانية بقصف المدن الكبيرة، كانت بغديدي تستقبل يومياً عشرات العوائل تشاركها السكن والطعام من دون معرفة هوية الطارق حتى وصل عدد الوافدين ما يزيد على عدد سكانها، كانت الكنيسة قد طلبت من أبناء المدينة الخروج إلى الشوارع واستصحاب أية عائلة تفد إلى المنطقة بما يسمح لهم دارهم وبدون مقابل. بغديدي. أهداها السلطان العثماني محمود الأول لوالي الموصل حسين باشا الجليلي عام 1743، مع عقارها وأملاكها، وإكراماً له لبسالته في الدفاع عن الموصل بمبلغ وكمكافأة على صدّه لهجوم نادر شاه بمبلغ 800 قرش متناسياً بأنه طلب من أهلها هجر مدينتهم والتوجه إلى الموصل للدفاع عنها، فشهدت السنوات التالية اطول واشهر معركة قضائية ضجّت بها محاكم (استانة، اسطنبول، بغداد) بين سكان البلدة الأصليين وآل ألجليلي استمرت مئتي سنة حسمت لصالح البلدة في 15 من آذار 1954.

كل أيامها أعياد ومناسبات
بغديدي كل أيامها فرح، فهي تحتفل بالعام الجديد منذ منتصف كانون الأول حتى منتصف كانون الثاني حيث الميلاد، رأس السنة، ومعمودية يسوع، عيد الظهور. ويأتي شباط وآذار محملين بالخضرة والعطر والجمال وانخفاض ملحوظ بدرجة الحرارة، فتخرج العوائل إلى الخضرة لتقضي يومها هناك وتتوّج هذه الاحتفالات بعيد " مار قرياقوس "أما نيسان، كلمة سومرية (ني سانك) وتعني الباكورة، أو اول الشيء أو الرأس، وقد تكون سبب هذه التسمية كونه الشهر الأول في السنة الآشورية. ولأنه بوابة الربيع فهو محمل طيلة أيامه بالأعياد والمناسبات فيفتتحه " اكيتو" في الأول منه، هو بوابة للفرح والجمال، كل أيامه عرس دائم، ودقائق زهو وأيام مباركة، وفيه لم يمر أسبوع منه إلا وخرجت (بغديدي) كلها وهي تحمل الشموع وأغصان الزيتون، تخرج البلدة عن بكرة أبيها، ليعلنوها فرحاً دائماً ومتجدداً. في الأحد الأول منه الأسبوع السادس من الصوم الكبير، احد شفاء الأعمى، وعيد مار قرياقوس. في الأحد الثاني منه، كانت شوارع بغديدا تحتضن كل مؤمنيها، وهم يعيدون ذكرى دخول يسوع إلى الهيكل في أورشليم (القدس). وهم يهتفون: اوشعنا، مبارك الآتي باسم الرب.عيد السعانين.
وهكذا تأتي الأيام محملة بعبق الإيمان، فبعد أحد، جاء خميس الفصح، ثم جمعة الآلام، وفيها صلب يسوع المسيح، بعدها سبت النور.. لتتوج هذه الاحتفالات بأحد القيامة، وفي أيار عيد الصعود " ثم " العنصرة " في حزيران. أما أشهر الصيف فلا تجد يوماً يخلو من عرس أو مناسبة فتضج قاعات المدينة على كثرتها واتساعها بالمحتفلين، حتى يبدأ المطر يوزع رذاذه على ساكنيها محملاً بالعبق ورائحة التراب. وبعد... ماذا نقول بحقك أيّتُها المدينة الأُمْ والخيمة، يا مَنْ تحملين التاريخ كُلّهُ، والحُبْ كُلّهُ، تنثريه على محبيك زهراً وضوءاً وماءً زلالاً.









Matty AL Mache