حين يتبادل كل من الفوز والهزيمة مواقعهما في المعنى والاعراب:متى نعيد الاعتبار ل

بدء بواسطة برطلي دوت نت, سبتمبر 01, 2014, 09:41:47 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

حين يتبادل كل من الفوز والهزيمة مواقعهما في المعنى والاعراب:متى نعيد الاعتبار لمفهوم "النصر" بوصفه فعلاً متحققاً في الواقع..!



برطلي . نت / بريد الموقع

 فخري كريم

لعبت تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، والقفزات التي حققتها في التقريب بين المحيطات والقارات والأكوان البعيدة، دوراً هائلاً في تقدم المجتمعات وتطور معارفها، وتعمق مداركها لكل ما يحيط بها من افتتاناتٍ مدهشة، بالغة الروعة، وتحدياتٍ ومخاطر قد تودي الى الهلاك والفناء. وبفضل هذا كله، اصبحت كرتنا الارضية عن حق قريةً كبيرة معولمةً باسباب المعرفة والتقارب والتواصل والتبادل الثقافي والقيمي، لا حدود لإطلالتها على الآخر مهما كان مختلفاً في العقيدة ولون البشرة واللغة والجنس والتكوين الحضاري والثقافي والمعرفي، مؤمناً أو هائماً في معتقداتٍ لا تزال تدين بالإيمان لـ"سحر ونفوذ الدب الأبيض"!
المعرفة المعلوماتية المعولمة تمكّن الواحد منا، وإن كان مجرد متعلمٍ لا يجيد غير فك الحروف والقراءة المتمهلة، من أن يحصل على اي معلومةٍ تنقصه، تاريخاً كان مجالها او في جغرافية العالم والجسد، فلسفة او في قوانين الفيزياء، فيستطيع ان يتفاخر امام اولاده او مجايليه الافضل منه تعليماً، ادعاء الاجابة على اي سؤال معقد، على أن يُمهل بضع دقائق، يختلي خلالها في ركن منزوٍ في البيت! ليس عليه سوى النقر على "كَوكَل" ووضع السؤال، ثم تنهمر مصطلحاتٌ وتوصيفاتٌ ومرادفاتٌ وما انزل الله من علومٍ ومعارف في عقول البشر.
لم نعد بحاجة الى كتبٍ وقواميس ومعاجم في اللغة والأنساب، ولا لدواوين ومعلقات، ولا لرواياتٍ ومجلدات الانسكلوبيديات، كل ما نحتاجه، جهاز محمول، او قرص مدمج او مضغوط يتنقل معنا اينما نكون حول العالم. ولكننا نحتاج ايضاً الى قدر من الانفتاح على هذه المنجزات المعرفية المذهلة. نحتاج الى درجة من الاستعداد لتقبلٍ، أو نوعٍ من التقبل، غير مشروطٍ لما هو "مسهبٌ" بلغة علم المعلومات في هذه المنجزات التي ظل قبلها العلماء، حتى وقتٍ ما من النصف الاول من القرن العشرين، يعتقدون بوجود "عفاريت" متناهية الصغر، لا تُرى حتى مجهرياً هي التي تحرك "من تحت "كل شيء وتيسره لنا!
العقل "الخازن البديل" صار في حالة جاهزية عظمى، ليجيب على تساؤلات مهما كانت معقدة، شرط ان يكون السؤال واضحاً ومحدداً، او يوفر معطيات مطلوبة في اي نقطة من العالم، أو أن يُجري عمليات حسابية بأرقامٍ فلكية في رمشة عين، ويلاحق قمراً اصطناعياً في مدارٍ كوني، يحتاج الى تعديل مساره، او تصحيح خلل فيه، قد يؤدي به اذا لم يتم التصحيح خلال جزءٍ من الدقيقة الى الضياع في مدار كوني آخر.
استخدام المعرفة التكنولوجية وأجهزتها وأدواتها، يبقى في عالمنا العربي، بين الناشئة والشبيبة، مقتصراً على الالعاب، ومواقع التواصل الاجتماعي، وقلما يتسع ليحيط بالمساحات المفتوحة على القيم العلمية والمعرفية وما تفتحه من آفاق. ويبدو أن الاستخدامات قد تصل الى لون آخر من ألوان الفائدة، جرى اكتشافها من قبل وزارة التعليم العالي عندنا، مما جعلها تنقل امتحانات الثانويات التي تقرر رسوب طلابها، الى قاعات الجامعة، وتعطل شبكة الانترنيت في الدائرة المحيطة بها، منعاً لاستخدام التواصل الإلكتروني في ممارسة "الغش" في الامتحان!
ولأننا أمة مشدودة الى أطلال الماضي الغابر، فان النوادر من اجيالنا المتفوقة، المتآلفة مع حواضن الحضارة والتقدم، لا تجد نفسها، أو تكتشف انوار المعرفة، الا اذا وجدت فرصة للانتقال الى بلاد التقدم المعرفي والتفوق العلمي، وحين تعود مشبعة بالحصيلة العلمية، سرعان ما تشعر بالاغتراب، وتضيع تحت أقدام الباحثين عن "دور لغة الضاد في إثراء المعرفة الإنسانية في العصور الوسطى".
قبل الثورة العلمية العاصفة، وقفزة تكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتية، كنا اكثر توازناً وانسجاماً مع عوالمنا المحدودة، ننبهر بما كان يصلنا، من نتاجات العلم والثقافة والفنون، نتعثر بما يُترجم منها الى العربية، ويسعد من يجيد لغة اجنبية فيغتني ويفيض علينا بما يكتنز مما لا سبيل للاطلاع عليه. وفي التفاتة من مجامعنا العلمية بهدف اللحاق بركب التقدم العلمي والحضاري، جرى التسابق في تعريب المصطلحات الاجنبية وتعميمها، صيانة لهويتنا الثقافية وتراثنا، وقد امكن ترجمة طائفة من المصطلحات، خصوصاً منها تلك التي كانت لها استخدامات يومية. وكان من نصيب جيلنا، استبدال المصطلح الاجنبي "همبركَر"، بـ"الشاطر والمشطور وبينهما كامخ" او كلاماً قريباً من هذا التأويل. ونجح الشاطر والمشطور في التشويش على حساسيتنا الوطنية، قبل ان نتعرف عليه، مذاقاً أو شبعاً!
لكن مثقفينا وجدوا أن في الأدب الإنساني ما هو اولى بالتعريب، من الكامخ او الشاطر والمشطور، فانهالت علينا مصطلحاتٍ أغرقت جيل الخيبة، بجدلٍ لا ينتهي حول دقة التعريب او شوائب "قيمية" تعتريه، فتشوش على المعنى والمراد، في الفلسفة الوجودية المنتشرة، بصورة مجلدات ضخمة يتأبطها رواد مقهى المعقدين او العباقرة، ويتجادلون فيها، بعد ان كان البعض منهم قد فرغ للتو من قراءة التعريف في الغلاف او مقدمة الطبعة العربية. في تلك الحمّى من طوفان الوجودية، تسللت "الألينة" الى قاموس التداول اليومي، على نطاق وطني، وتبين مع الاستخدام أنها تعني "الاغتراب"!
لم تكن حمى الاهتمام بالمصطلحات وتعريبها يغري السياسيين، حكاماً كانوا أو من المعارضة الوطنية والقومية والاشتراكية.
فالحركات الثلاث الكبرى، في ذلك العصر، كانت تعمم مصطلحاتها، كما تبلورت في وعي الاباء الاوائل من المؤسسين، وتسعى لتأكيد معانيها باعتبار ان ما شاع في الغرب من مفاهيم وقيم هو استنساخٌ مشوه من تراثنا العربي والاسلامي. ولم تكن كثرة من المصطلحات بحاجة الى جهدٍ مضاعف لاشاعتها في الوعي العام الشعبي. هكذا كانت الامبريالية والكولونيالية والكمبرادور والليبرالية وغيرها من المفردات السياسية والاقتصادية تجد طريقها بيسر الى الاستخدام اليومي، بحكم وتيرة التداول السريعة، وما يرتبط بذلك من تطبيقاتٍ تنعكس في النشاطات الجماهيرية.
خلال ثمانية عقود، تغير العالم من حالٍ الى حال عدة مرات. اندثرت مصطلحات مع العوالم التي كانت تعبر عنها، وتحولت وسائل نقل البريد من الحمام الزاجل وساعي البريد الخيّال الى وسائط النقل، ومن البرقيات الى التلفونات، ومن الفاكس الى البريد الالكتروني ووسائل الاتصال المرئي والمكتوب والمسموع، والقفز الظافر من الورق الى العالم الافتراضي في المواقع الإلكترونية والتواصل الاجتماعي.
لم يعد العالم، ذلك العالم. ولم تعد وسائله ذات الوسائل. وانحسرت المسافات والازمنة. ومع التغيرات العاصفة التي قلبت عوالمنا رأساً على عقب، ظل وعينا قاصراً عن تحديد بضعة معانٍ لبضع مفرداتٍ على محدوديتها، تنقلنا من حالٍ الى اسوأ منها!
لا يكفي ما حل بنا من ارتدادٍ في كل مناحي حياتنا، فاصبحت الرثاثة في معايير ملبسنا ومأكلنا ومسكننا وطقوس حياتنا اليومية، وكل ما يحيط بنا، اينما ولّينا وجوهنا، مشهداً معاداً من تاريخ الف واربعمائة عام من مرحلة جواز اكل الطعام اذا سقطت الذبابة فيه!
استعدنا فتوة الفتوحات، واعدنا للسيف حقوقه في ذبح البشر، وسبي النساء، وأخذ الجزية، والاستمتاع بالجواري، وجلد الزاني والزانية علناً وقطع ايدي لصوص المجاعات الوبائية، وهدم المقامات والمساجد والاثار باعتبارها "اصناماً معاصرة"..
لكن معنيين مترابطين لمفردتين متعارضتين، استعصيا على التغيير، وظلت الواحدة منهما تأخذ مكان الآخر، على امتداد عقود التحرر الوطني، وعبر المعارك الوطنية ضد الاستعمار والصهيونية و"الرجعية" والاحلاف العسكرية، فقد ظل قاموسنا السياسي يستعمل "الانتصار" في التعبير عن "الهزيمة"! والتاريخ يكرر نفسه على هذا الصعيد منذ هزيمة ٥ حزيران ١٩٦٧!
ولم يعد المواطن يشعر بالغرابة من هذا التدليس وهو يتردد على لسان حكامنا على اتساع العالم العربي والاسلامي، بل صار مفهوماً مستساغاً، تسلل الى نسيج الوعي الجمعي، وتشكلت من تعبيراته وانعكاسات الافعال المعبرة عنه، ثقافة سائدة، يتمرغ في اوحالها اشباه مثقفينا، وهم يتحولون الى حوامل لها ولتجلياتها التي قادتنا الى قيعان الانحطاط في الهويات الفرعية، الطائفية، والتطرف والاستعلاء القومي وأشكال العنصرية.
قبل ايام توقف العدوان الإسرائيلي على اهالي غزة الفلسطينية الذبيحة الذين استبسلوا في المواجهة، لكن الالاف منهم سقط شهيدا أو جريحاً أو معاقاً، والدمار حل في كل مكان. وجاءت الهدنة واتفاق ايقاف العدوان نسخة طبق الاصل لما تم اثناء الغزو والعدوان الاسرائيلي السابق، ولبنود اتفاقية الهدنة. ومع ذلك طلع نائب الامين العام لمنظمة الجهاد الاسلامي في احدى الفضائيات ليجيب على سؤال مقدمة برنامجٍ حواريٍ حول غزة ليقول "لقد انتصرنا"! وعندما اعادت السؤال عليه مشفوعاً بايضاحٍ وافٍ يفيد بان الاتفاقية ليس فيها من جديد عن الاتفاقية السابقة، في حين ان اعداد الشهداء والجرحى والخسائر بلغت اضعافاً مضاعفة، دون ان يتبين الهدف من ذلك، جاء الرد مُفحِماً: "لقد استطاع الشعب الغزاوي الصغير من حيث العدد، والمقاومة التي لا تقارن من حيث التسليح، ان يصمدا بوجه العدوان اكثر من خمسين يوماً. لقد ثبتنا مواقع المقاومة بوجه إسرائيل"!
ومن آيات "انتصارات" عراقنا الجديد، ما يتردد كل اسبوعٍ في خطب الاربعاء، فما مرّ على العراقيين خلال ولايتين متخمتين بـ "الإنجازات"، جعل العراق نهباً لعصاباتٍ من شذاذ الآفاق، يعبثون بكرامات ابناء شعبنا، وحرماتهم ويهتكون اعراضهم امام انظار قادة الدولة المتفسخة، وأنظار خطيب الاربعاء، ويسود الخراب والشقاق والفوضى في كل منحىً، ويبقى لهذه الهزائم معنىً واحد لا يتغير. ولأن المتحاورين لتشكيل الحكومة لا يرونها خلافاً لذلك، فانهم يتشددون، كما يفعل المنتصر الذي يترقب لحظة اعلان تتويجه في موكبٍ احتفالي في ساحة الاستعراض يمر من تحت ذراعي قائد ام المعارك..
ان هذا المعنى لم يتغير ايضاً في ادبيات حركات التحرر الوطني والاحزاب الثورية والعمالية والشيوعية. واتذكر أن البيانات التي كانت تصدر عن الاجتماعات الدورية لها، لتحلل المستجدات في الاوضاع العربية والاقليمية والدولية، تستعرض وتحلل الوقائع الملموسة للتراجعات والانتكاسات والخسائر في بلدان عربية، تتقدم فيها "المشاريع الاستعمارية والرجعية"، لكنها كانت تختم تلك البيانات والبلاغات بعبارة سياسية بليغة: "ومع كل ذلك فان الاستعمار والصهيونية والرجعية لم يستطيعوا تحقيق كامل أهدافهم"!
ولا ينفع من لا يريد الاعتراف بان للهزيمة معنى واحداً، كما للانتصار وقائعه على الارض، إن كل المنجز العلمي للبشرية وتراثها الحضاري، يفتح نوافذ الاكوان السحيقة، ليستنبط منها قوانين للاقتراب من الحقيقة المطلقة، في حين تظل المعرفة ونوافذ الأنوار الكونية بالنسبة لهم مجرد تهويماتٍ ارتدادية في انفاق التاريخ المظلم ..!